محاضرات في مقياس الانثروبولوجيا النفسية

سنة ثانية ماستر تخصص علم النفس العيادي

د/ صفية بوداني

 

محاضرة رقم: 01

 

تمهيـــد:

  الانثروبولوجيا هي فرع من فروع المعرفة العلمية لم تكن مقتصرة على دراسة المجتمع و مفهومات وصف الشعوب ووصف الاختلافات الثقافية فقط، بل أيضا تهتم بالتغير الاجتماعي، والتقنية، ودراسة الفرد كوحدة أساسية في تكوين الانظمة بمختلف أشكالها، حيث تهتم أيضا بتعقب أصل الظواهر الانسانية، ودراسة الانسان ككل، حيث يرى البعض أن ظهور هذا النوع من المعرفة ، يعود الى عصر التنوير الاوروبي أي خلال القرن الثامن عشر، وباقي الاعمال قبل هذه الفترة  كانت عبارة عن كتابة للرحلات والفلسفة الاجتماعية، بينما يرى البعض أن هذا الاتجاه من المعرفة لم يظهر الى خلال خمسينيات القرن 19، ونهاية الحرب العالمية الثانية، ومما لا شك فيه أن التصور الذي خلص اليه هذين الاتجاهين، هو أن الانثروبولوجيا هي علم يهتم بدراسة الإنسانية، بدأت اولى دراساتها في الظهور لها بجامعات العالم الغربي ( بريطانيا، فرنسا، ألمانيا ثم الولايات المتحدة الامريكية) ثم امتد الاهتمام بهذا الفرع الى باقي الجامعات الدولية.

تعريف الانثروبولوجيا:

"    L’ anthropologie , science de L’ homme et de ses ouvres ; traditionnellement, on distingue l’ anthropologie physique, qui  étude les caractéristiques morphologie culturelle qui applique sa recherche au faites de culture , les tenants de cette deuxième école partent du principe que pour comprendre L’homme il est nécessaire de le situer dans son milieu social, en interprétant les faits culturels, il est possible de comprendre les structures sociales et, à travers elles, être humain. Mais l’anthropologie  s’est considérablement développé et actuellement de notre pays, les anthropologues considèrent sous ce terme  générique quatre domaines :

1-  32

 

تاريخ ظهور علم الانثروبولوجيا: 

  لقد كانت أولى المحاولات لنشأة علم الانثروبولوجيا على يد جيا باتستا فيكو 1668-1744 من خلال أطروحته في الاثنوغرافيا، وتاريخ الدين والفلسفة والعلم الطبيعي، حيث اقترح فيكو مخططا كونيا للتطور الاجتماعي، تمر بمقتضاه كل المجتمعات بمراحل أربعة وبخصائص معينة، ومحددة رسميا، حيث كانت المرحلة الاولى حسب مخططه تتميز بالحالة البهيمية، بلا أخلاق أو فن تتبعها مرحلة عصر الآلهة، وهو عصر تعبد الطبيعة والبنى الاجتماعية الاولية، ثم جاء عصر الابطال، مع اضطرابات اجتماعية واسعة الانتشار بسبب التفاوت الاجتماعي الكبير، وعصر الرجال، حيث اختفت الفروق الطبقية وسادت المساوات، ثم تم تهديد هذه الحقبة بدورها بالفساد الداخلي والعودة الى البهيمية، نرى هنا لأول مرة نظرية للتطور الاجتماعي لا تضاد فيها البربرية بالمدنية فقط ولكنها تفصل عدد من المراحل الانتقالية، وسرعان ما أصبحت نظرية فيكو نموذجا يحتذى به بالنسبة للتطورين لاحقا، ابتداء من ماركس حتى فريزر، حيث كان لفيكو عنصر افتقر اليه معظم أتباعه، حيث أن المجتمعات لا تتطور بصورة خطية بالضرورة نحو احوال محسنة على الدوام، ولكنها تمضي دورات الانحطاط والنمو،  وهذا يعطي عمل فيكو التنويري نصا ثانويا نقديا ورومنسيا، كما عند روسو.

  كان مونتيسكيو الرائد الايطالي في فرنسا عندما أخذت الخطوات الاولى باتجاه انشاء الانثروبولوجيا كعلم، وفي عام 1748 طبع مونتيسكيو، عمله بعنوان روح القوانين وكان الكتاب عبارة عن دراسة مقارنة عبر ثقافية للأنظمة التشريعية مما كان لمونتيسكيو معرفة أولى أو ثانوية بها والتي حاول من خلالها أن يشق المبادئ العامة التي تؤطر النظم الاجتماعية، عبر الثقافات، حيث صور مونتيسكيو النظام التشريعي كجانب للنظام الاجتماعي الاوسع، متظافرا على نحو حميم مع العديد من الجوانب الاخرى للكل الاكبر وهي نظرة أدت بالعديدين الى أن يصفوه بكونه وظيفيا من حيث الاساس وطبقا لمونتيسكيو، يمكن تفسير تعدد الزوجات وآكلي لحوم البشر، والوثنية والعبودية، والعادات البربرية الأخرى من خلال الوظائف التي تقوم بها داخل المجتمع ككل، حيث كتب مونتيسكيو كذلك كتاب الرسائل الفارسية سنة 1722 وهو كتاب ملفت للنظر، والذي كان حشدا من الرسائل الخيالية من فارسين اثنين يصفان فرنسا لأبناء جلدتهما، حيث استغل مونتيسكيو هنا غربة الاختلاف الثقافي بالنسبة للمحاكاة الساخرة حينها للويس السادس عشر وكان الكتاب مثيرا للتفكير، ويبقى حتى اليوم باعثا على الجدل من حيث أن مونتيسكيو اتهم مؤخرا كونه استشراقي وممن شدد بإفراط على غرابة الفرس، كما اشار مونتيسكيو في هذا الكتاب الى مشكلة العمى المنزلي في الانثروبولوجيا المعاصرة، حيث انعدام قدرتنا لنبصر ثقافتنا نحن، موضوعيا من الخارج، واستخدم مونتيسكيو تقنية معينة لتجاوز هذه المشكلة وهي وصف مجتمعه من خلال وجهة نظر شخص ما خارجي ولا يزال علماء الانثروبولوجيا النقدية يستخدمون هذه التقنية حتى اليوم" ( توماس هايلوند، فين سيفرت نيلسون: 2013، ص 24-25).

 

 المؤسسون لعلم الانثروبولوجيا

بواس Franz Boas والخصوصية التاريخية

حصل بواس Franz Boas على شهادة الدكتوراه من كيل، وهو موقع أكاديمي في برلين، وشارك ببضع بعثات اثنوغرافية الى شمال وغرب كندا، وقد استقر بوا بنيويورك أين انكب على البحث ودراسة شعب الهنود الحمر في شمال أمريكا، بالقرب من نيويورك، وقد عين بواس Franz Boas أول محرر لمجلة علمية، من ثم أكاديمي في جامعة صغيرة، ثم أصبح أستاذ الانثروبولوجيا سنة 1899 في جامعة كولومبيا، المعروفة في نيويورك، حيث مكث فيها الى غاية وفاته سنة 1942 وخلال تلك الفترة الكاملة التي عمل فيها بوا بجامعة كولومبيا أصبح بوا الاستاذ والموجه لجيلين كاملين من علماء الانثروبولوجيا الامريكان، وقد تلقى بواس  Franz Boas تدريبه العلمي والمنهجي على يد علماء ألمان ممن كانوا متشككين حول النظرية التطورية، ومتعاطفين مع النظرية الانتشارية، وكان هناك العديد من العلماء المعاصرين لجيله يرون أن تطوير نظرية عامة يعتمد بصورة كلية على خلفية ميدانية كافية وعليه تتألف المهمة الرئيسية، لعالم الانثروبولوجيا، من جمع وتنظيم البيانات التفصيلية، عن ثقافات معينة.

غطت كتابات بوا نفسها، مجالا واسعا، برغم الميل المقرر لديه، باتجاه الانثروبولوجيا الثقافية، حيث قام ببحوث حقلية فردية، وعمل أيضا مع مساعدين ممن جمعوا مواد عن الشعوب الهندية، وكان العمل الحقلي لبواس في الغالب ذا توجه فرقي، اذ لم يفترض مسبقا، القيام بعمل فرد لوحده،.

كان بواس Boas واحداً من أبرز المناهضين للإيديولوجيات العنصرية العلمية التي كانت تحظى بشعبية آنذاك، التي كانت تنص على أن العرق مفهوم بيولوجي وأن السلوك البشري يمكن فهمه على النحو الأفضل من خلال فهم الخصائص البيولوجية وقد أظهر Boa هذا التصور وأكد عليه من خلال مجموعة دراسات أجراها على بنية الهيكل العظمي التشريحية، حيث بين أن شكل الجمجمة وحجمها مطاوعان بشدة للعوامل البيئية مثل الصحة والتغذية، وهذه النتائج كانت على نقيض رأي و ادعاءات علماء الأنثروبولوجيا العرقية آنذاك الذين كانوا يعتبرون شكل الرأس سمة عرقية ثابتة، وعمل بواسBoas كذلك في سبيل برهنة أن الفروق في السلوك البشري لا تُحدَّد في المقام الأول من خلال الترتيبات البيولوجية الفطرية بل هي في معظمها نتيجة للاختلافات الثقافية المكتسبة عن طريق التعلم الاجتماعي. وبهذه الطريقة، قدّم بواس الثقافة بصفتها المفهوم الأولي لوصف الفروق السلوكية بين الجماعات البشرية، والمفهوم التحليلي المركزي للأنثروبولوجيا.[8]

كان من بين إسهامات بواس الأساسية للفكر الأنثروبولوجي رفضه للمقاربات التطورية -ذات الشعبية آنذاك- لدراسة الحضارة، والتي كانت ترى أن كل المجتمعات ترتقي من خلال مجموعة ذات تسلسل هرمي من المراحل التقنية والحضارية، تتربع الحضارة الأوروبية الغربية على قمتها. فقد جادل بواس بأن الحضارة تتطور تاريخياً من خلال التفاعلات بين الجماعات البشرية وانتشار الأفكار، وأنه بناء على ذلك ليست هناك عملية سير نحو نماذج حضارية "أرقى" باستمرار. وقد أدت هذه الرؤية ببواس إلى رفض التنظيم القائم على "مراحل" للمتاحف الأثنولوجية (علم الأعراق)، وفضّل بدلاً من ذلك ترتيب المعروضات بناء على نسبها أو قرابتها من المجموعات الثقافية المعنية.[8]

وكذلك قدّم بواس إيديولوجية النسبية الثقافية، التي تنص على عدم إمكانية تصنيف الثقافات موضوعياً بوصفها أعلى أو أدنى، أو أفضل أو أصحّ، لأن كل البشر يرون العالم من عيون ثقافتهم الخاصة، ويحكمون عليه وفقاً للمعايير التي اكتسبوها من ثقافتهم. بالنسبة إلى بواس، كان هدف الأنثروبولوجيا هو فهم الطريقة التي تكيّف فيها الثقافة البشرَ على فهم العالم والتفاعل معه بطرائق مختلفة، ومن الضروري من أجل التوصل إلى ذلك اكتساب فهمٍ للعادات اللغوية والثقافية الخاصة بالجماعة البشرية قيد الدراسة. ومن خلال الجمع بين فروع الأركيولوجيا (علم الآثار)، ودراسة الثقافة المادية والتاريخ، والأنثروبولوجيا الفيزيائية، ودراسة التنوع والاختلاف في تشريح الجسم البشري، مع الأثنولوجيا، ودراسة الاختلاف الثقافي في العادات، واللسانيات الوصفية، ودراسة اللغات المحلية غير المكتوبة، تمكن بواس من وضع التقسيم رباعي الفروع للأنثروبولوجيا، الذي برز في الأنثروبولوجيا الأمريكية في القرن العشرين.

 

مالينوفيسكي Bronislaw Malinowski وجزر التروبرياند

برونسلاف مالينوفسكي Malinowski مثقف بولندي حصل على شهادة الدكتوراه في الفيزياء في الكراكو بالنمسا، كما درس الفلسفة والاقتصاد ثم  انتقل الى الولايات المتحدة الامريكية، كان مقتنعا بأنه لا يمكن فهم المجتمع الا من خلال الطريقة الكلية، كوحدة للأجزاء المترابطة مع بعضها البعض، وينبغي للتحليل أن يكون تزامنيا، حيث قرأ مالينوفيسكي Malinowski خلال هذه الفترة كتاب الغصن الذهبي وانتقل ليدرس بإشراف عالم علم النفس الاجتماعي سليجمان في جامعة لندن،  التي كانت تحظى بسمعة علمية طيبة، وذلك لتقديمها الظروف الجيدة للعمل الحقلي.

قام مالينوفيسكي Malinowski بعد أربع سنوات بدراسة حقلية استغرقت ستة أشهر في جزيرة على ساحل غانا الجديدة، والتي اعتبرها هو عملا فاشلا، وبعد اقامة قصيرة في استراليا، قضاها في التأمل في منهجيته، ثم غادر بعد ذلك الى جزر تروبرياند حيث قضى مكوثه بها ما يقرب العامين، ثم عاد الى أوربا بعد نهاية الحرب ليكتب كتاب مغامرات جادة في الجانب الغربي للمحيط الهادي، والذي يعتبر العمل الاكثر ثورية في تاريخ الانثروبولوجيا، وبعد نجاح هذا الكتاب، اهتم مالينوفيسكي Malinowski بدراسة التغير الاجتماعي لدى الفلاحين الهنود في المكسين، حيث تركت هذه الدراسة  ترك أثرا كبيرا في التوجهات العلمية لدى علماء الانثروبولوجيا بعده"( توماس هايلوند، فين سيفرت نيلسون: 2013، ص 68-69)،  كما يعد مالينوفيسكي Malinowski مؤسس الانثروبولوجيا الاجتماعية، بناء على دراساته التي أجراها على شعوب المحيط، واليه يعود الفضل في تأسيس الاتجاه الوظيفي من خلال اضافته العلمية المتمثلة في تأسيس النظرية الوظيفية التي تقوم بوجوب دراسة الظواهر الثقافية، من حيث الوظيفة التي تؤديها، اذ يرى مالينوفيسكي Malinowski أن الوظيفة هي نظرية ماهية الطبيعة، وقد عارض النظريات التطورية في الدراسات الانثروبولوجية، وأكد على التفسيرات الوظيفية في دراسة الظواهر الاجتماعية والثقافية، كما أبرز مالينوفيسكي Malinowski التداخل بين عناصر الثقافة والنسق الاجتماعي، وبين أن وظيفة هذا النسق تكمن في العمل على اشباع الحاجات النفسية والاجتماعية أولية كانت أو ثانوية، وقد استعان هذا الاخير على نظريات التحليل النفسي في فهم وتفسير بعض الظواهر التي اهتم بدراستها.

أهم لاتجاهات و نظريات دراسة الأنثروبولوجيا ما يلي :

الاتجاه التطوري:

كان هذا الاتجاه قد احتضن نشأة الأنثروبولوجيا حين ظهورها كعلم خلال القرن الـ 19 م فكان الأنثربولوجيون يحاولون فهم كيفية نشأة و تطور المجتمعات و ثقافتها فحسب التطوريين يمثل تاريخ الإنسانية و تاريخ الثقافة بما يضم من عادات و تقاليد و تنظيمات ….الخ،  خطا متصاعدا كما أن البشرية تمر بمراحل خلال تطورها التاريخي،  فتتدرج من الأشكال البسيطة إلى الأشكال المعقدة إلى الأكثر تعقيدا، و هذه السيرورة ملازمة لكل المجتمعات و الثقافات نتيجة الوحدة النفسية المشتركة بين البشر .


يرى لويس مورغان( 1818-1881 ) أن المجتمعات تمر بمراحل تطورية حيث كل مرحلة تشكل نمطا معينا طبقا لمراحل التطور التي تتمظهر في طبيعة العلاقات الاجتماعية و طبيعة النظم التي تميزها ، فكل المجتمعات عنده تخضع في تطورها لقانون واحد طالما أن تاريخ الجنس البشري و أصل الإنسانية واحد ، و عليه يصل مورغان إلى أن البشرية تطورت عبر ثلاث مراحل أساسية :
1-
مرحلة التوحش ( الهمجية ): و يقسمها إلى ثلاثة مراحل هي مرحلة التوحش الدنيا و مرحلة التوحش الوسطى و مرحلة التوحش العليا و يوضح مورغان أن هناك ارتقاء ثقافي خلال الانتقال عبر كل مرحلة في تقنيات العيش و النظم الاجتماعية.


2-مرحلة البربرية: وتنقسم بدورها إلى ثلاث مراحل دنيا و وسطى و عليا.

 
3- مرحلة المدنية: ( الحضارة) و هي التكي تتميز باختراع الكتابة و الحروف الهجائية و هي مازالت ممتدة إلى اليوم.


كما يعد إدوارد تايلور (1832-1917) واحدا من رواد هذا الاتجاه حيث اعتبر أن الثقافة عنصر مساعد لفهم التاريخ الإنساني طالما أنها ظاهرة تاريخية تميز الانسان دون غيره و يكتسبها بالتعلم من المحيط الذي يعيش فيه ، و بهذا المعنى تكون الثقافة هي حصيلة ما يكتسبه الفرد في المجتمع، و من هذا المنطلق يرى تايلور أن ” دراسة الثقافة هو دراسة تاريخ تطور الفرد في المجتمع باعتبارها العملية التاريخية العقلية لتطور عادات الانسان و تقاليده من حالتها غير المعقدة إلى حالتها المعقدة فالأكثر تعقيدا ” ، كما يعتقد تايلور بتطور فكر الإنسان في مجال الاعتقاد ، ففي البدء بدأ الانسان بمحاولة التفكير في القرين الملازم لجسم الانسان و هو الروح ثم تدرج إلى وجود أرواح تسكن الطبيعة مثل الروح التكي تسكن جسد الانسان ، فقام بتأليه هذه الأرواح لكنه اهتدى أخيرا إلى فكرة الإله الواحد كمرحلة أخيرة تعبر عن منتهى تفكير الإنسان و يبدو أن مراحل التطور لم تكن حتمية ملزمة بالنسبة لتايلور كما كان الحال عند لويس مورغان في عده لمراحل التطور البشري ، و رغم تصنيف تايلور ضمن الاتجاه التطوري إلا ان آراءه لم تخل من القول بانتشار الثقافة فهي حسبه” مثل النباتات تتصف بالانتشار أكثر من كونها تتطور ، فالناس أخذوا من جيرانهم أكثر مما اخترعوا و اكتشفوا بأنفسهم


"كما كانت إسهامات جيمس فريزر (1854-1941) في مجال التطور بتطرقه إلى تطور المجتمعات من خلال ثلاث محطات هي :

السحر و الدين و العلم ...إلخ.


2
- الاتجاه التاريخي :

 ويتزعمه العالم الألماني فرانز بواز ( 1858-1942) والذي كان رائدا لهذا الاتجاه في أمريكا وبفضله تم الانتقال من النظرة الخطية التطورية للتاريخ كما كانت عليه نظريات التطوريين إلى دراسة ثقافات محددة كثقافة العشائر و القبائل مع التأكيد على ضرورة دراسة هذه الثقافات في إطار منطقتها الإقليمية الثقافية ، و الهدف من ذلك هو معرفة أصول و تواريخ الثقافات و تحديد خصائصها و لكن الهدف الأسمى يتجلى أخيرا في المقارنة بين هذه التواريخ و التي تميز هذه الثقافات من أجل الوصول إلى القوانين العامة التي تحكم نموها و تطورها .


3- الاتجاه الانتشاري :

 يرى أصحاب هذا الاتجاه ان الاتصال بين الجماعات و الشعوب أدى إلى انتشار بعض السمات الثقافية ، فعملية الانتشار الثقافي تنطلق من مركز ثقافي إلى باقي المناطق كما أن الانتشار يتم أيضا من خلال انتقال السمات الثقافية من جماعة سابقة إلى جماعة لاحقة ، و تعتبر فكرة ” المنطقة الثقافية ” التي طورها “وسلر ” ( تلميذ بواز) أداة هامة في دراسة الثقافة و جوهرها تقسيم و تصنيف ثقافات العالم إلى مجموعات ثقافية بناء على تشابه العناصر الثقافية التي تكونها ، و المنطقة الثقافية إقليم يضم مجتمعات إنسانية متشابهة الثقافة ، و من أجل تحديد و تمييز منطقة عن أخرى يتم تتبع مدى انتشار العناصر الثقافية المميزة لتلك الثقافة ( طرق و أدوات الصيد ، طهي الطعام...) مثلما فعل الأمريكي “سابير” الذي حاول تحديد مدى انتشار عناصر ” رقصة الشمس ” عند هنود السهول بأمريكا الشمالية ، و في أنجلترا برز من يقول بوجود مركز للثقافة تنطلق منه إلى باقي أنحاء العالم و خير مثال على هذا العلامة ” إليوت سميت” الذي رأى بأن مصر القديمة هي مركز كل الثقافات الحالية حيث انتشرت العناصر الثقافية من مصر إلى باقي أنحاء العالم ، فقد كانت نظرة سميت هذه مؤسسة على تشابه الآثار المختلفة في العالم مع الآثار التي اكتشفها عالم الآثار ” بتري” كنظم القرابة و فن التحنيط و عبادة الشمس ….إلخ .
4-
الاتجاه التناسقي التكاملي :

و مفاده ضرورة النظر إلى الثقافة ككل متكامل يجمع بين الأفكار و المشاعر من جهة و السلوك الظاهر من جهة ثانية ، و قد كان ” سابير ” من الممهدين لهذا الاتجاه من خلال نظرته للثقافة في صورة تفاعل الأفراد فيما بينهم و ما ينتج عن ذلك من معان و مشاعر مشتركة لذلك يعرف الثقافة بأنها كل متكامل من أنماط فكر و عواطف و أنماط عمل “، و تعد العالمة الأمريكية ” روت بندكت” واحدة من أهم الممثلين لهذا الاتجاه و يتجلى ذلك في قولها بأن الثقافة مثل الفرد لديها نمط متناسق من الفكر و العمل ، كما أنه لفهم الثقافة لابد من الأخذ في الاعتبار الاتجاهات العقلية و الشعورية السائدة فيها و القيم و الأهداف المشتركة بين أفراد المجتمع الذي تتم فيه دراسة الثقافة ، ففي دراستها لبعض القبائل الهندية في جنوب غرب أمريكا الشمالية وجدت بندكت اختلافا بين القبائل فمنها التي تركز على المظهر الخارجي للسلوك و تهتم بالطقوس و احترام العادات و التقاليد أطلقت عليها اسم ” ثقافات منبسطة ” و منها التي تتميز بالعدائية و تعطي للدافع النفسي الداخلي أهمية أكبر من العوامل الخارجية و أطلقت عليها اسم ” ثقافات منطوية ” و الوصول إلى فهم ثقافة ما لابد أن يأخذ في الاعتبار السلوك الظاهري في صوره المتكررة و مختلف الاتجاهات العقلية الشعورية في تناسقها و تكاملها.


5-
الاتجاه البنائي الوظيفي :

 يعد البناء و الوظيفة من المفاهيم المحورية في تحليل المجتمع و في الأنثروبولوجيا الاجتماعية يشير مفهوم البناء الاجتماعي إلى ” مجموعة العناصر التي تقوم بينها علاقات تعبر عن كل العمليات القائمة بين هذه العناصر ” و قد كان لـ ” راد كليف براون” الدور الأكبر في بلورة هذا المفهوم فهو يشير عنده إلى” نوع من الترتيب بين الأجزاء التي تدخل في تركيب الكل وذلك لأن ثمة علاقات وروابط معينة بين الأجزاء التي تؤلف الكل وتجعل منه بنية متماسكة ” وتشير الأجزاء المشكلة للكل إلى مختلف النظم الاجتماعية كما تشير حسب براون إلى الأشخاص ( أب – أخ ..) باعتبار علاقاتهم الاجتماعية وليس الأفراد باعتبارهم كائنات بيولوجية ، ويدرس البناء الاجتماعي مرتبطا بالوظيفة ، فالوظيفة هي ” الدور الذي تؤديه الأجزاء (البناء الفرعي) داخل البناء الكلي للمجتمع.
وقد اهتم مالينوفسكي بالوظيفة التي تؤديها الثقافة فهي حسبه تعمل على إشباع حاجات الأفراد في جميع النواحي ، كما أن النظم الاجتماعية المختلفة تؤدي وظائف مختلفة كل حسب طبيعته كالنظام الاقتصادي الذي يؤدي وظيفة توفير الحاجات الغذائية والنظام الديني الذي يؤدي وظيفة الضبط الاجتماعي …الخ ، وهذه الوظائف تؤدي مجتمعة إلى تحقيق الوظيفة العامة للبناء الكلي وهي المحافظة على بقائه واستمراره.


6-
الاتجاه البنيوي :

ويتزعم هذا الاتجاه العالم الأنثروبولوجي الفرنسي كلود ليفي ستروس ، وتحيل البنيوية إلى وجود بنيات تتحكم في العلاقات والظواهر الاجتماعية ولئن كانت أعمال ليفي ستروس منصبة على المجتمع وظواهره ( المجتمعات البسيطة وظواهرها كأنماط القرابة والأساطير …) فإنه استمد مفهوم البنية من حقل اللغة ومن أعمال فرديناند دي سوسير التي تركز على اللغة كنسق نحوي شكلي يتكون من بنيات (كلمات وجمل) وهذا التناسق هو الذي يحدد المعنى ، يستعير ليفي سروس من الألسنيين طريقتهم في دراسة اللغة ليطبقها على المجتمع فيقول في هذا السياق ” إننا نريد أن نتعلم من الألسنيين سر نجاحهم ، ألا يسعنا نحن أيضا أن نطبق على هذا الحقل الذي تدور فيه أبحاثنا ( القرابة – التنظيم الاجتماعي – الدين – الفلكلور- الفن ..) تلك المناهج الصارمة التي تبرهن الألسنية كل يوم على فعاليتها ” ، إذا حسب ليفي ستروس هناك بنيات أساسية تتحكم في سيرورة المجتمع ، فإذا كانت مختلف النظم والأجزاء المجتمعية بالنسبة للأنثروبولوجيين هي البنيات الأساسية المتحكمة في المجتمع فإن هذه البنيات حسب ليفي ستروس تخفي خلفها البنيات الحقيقية المتحكمة في الواقع الاجتماعي ، لكن البنية الأساسية حسبه والتي تتخفى خلف هذه البنيات هي بنية العقل الإنساني كبنية نهائية لا شعورية ، وإذا كان الضمير الجمعي عند دوركايم واللا شعور عند فرويد هو المتحكم في الظواهر الاجتماعية والانسانية فإن بنية العقل وتركيبته هي المتحكمة في مختلف أنماط التفكير ونظم القرابة والدين وغيرها لدى كلود ليفي ستروس.

يُبنى العلم على النظريات التي لا يتم التوصل إليها إلا بالصدفة والتجريب والتمعن والعمل على ربط الكثير من المعلومات ببعضها البعض، وإن كانت الكائنات الحية التي تعيش على وجه البسيطة مهمة للغاية فالإنسان يعد أهم تلك الكائنات الحية، ولهذا قام العلماء بدراسة الإنسان البدائي وتتبع حياته"( سفيان ميمون، قراءة في الاتجاهات والنظريات الاساسية في الانثروبولوجيا،  https://www.politics-dz.com.)

 

مفهوم الثقافة:

ان الخصائص العامة التي تميز الثقافة كظاهرة انسانية، دفعت الباحثين للاهتمام بها، وقد أعطى العالم البريطاني ادوارد تايلور Edward.B.Tyrlor (1871)" تعريفا شاملا لمفهوم الثقافة حين قال " هي ذلك الكل المركب الذي يتضمن المعرفة والعقيدة والفن والاخلاق والقانون والتقاليد والعادات التي يكتسبها الانسان من حيث هو عضو في المجتمع"(قباوياسماعيل، 1982، ص.16).وفي هذا المعنى يمكننا القول أنها هي ذلك الارث الاجتماعي الذي يتعلمه الفرد ويكتسبه من خلال وجوده في الجماعة التي ينتمي اليها فيتعلمها نتيجة التطبع الاجتماعي حتى يصبح فردا انسانيا.

والثقافة لها جانبان جانب مادي، وجانب لامادي. الذي يشمل هذا الأخير على المظاهر المعنوية كالعادات والتقاليد التي تعبر عن المثل والقيم والمعتقدات والاتجاهات الاجتماعية والدين. وهي جوانب مثالية ومعيارية توجد على شكل أفكار وتصورات في أذهان الافراد نحو الموضوعات المختلفة.

"فالثقافة معطى موروثا يتناقل على ما هو عليه جيلا فجيلا، ذاك لأنها انتاج تاريخي أي بناء ينخرط في التاريخ، وبتحديد أدق في تاريخ العلاقات بين المجموعات الاجتماعية. من الضروري اذا من أجل تحليل ظاهرة أو نسق ثقافي أو اجتماعي، يجب تحليل الوضعية الاجتماعية التاريخية التي تنتجه على الصورة التي يكون عليه" (دنيس كوش،2004، ص.119). فالثقافة لا توجد بمعزل عن الظاهرة أو السلوك الاجتماعي وانما تكون مرسخة فيهما ولاصقة لهما .وفي هذا المضمون يقول ادوارد سابير E. Sapir"وهي ليست عناصر ثقافية تنتقل من ثقافة لأخرى في استقلال عن الأفراد بل هي تصرفات أفراد ملموسة خاصة بكل ثقافة بإمكانها أن تفسر افتراض الثقافي ما"(دنيس كوش، مرجع سابق، ص. 61).

 

يعتبر موضوع الثقافة و الشخصية من أحدث التخصصات التي استأثرت باهتمام العديد من الباحثين في مجال الأنثروبولوجية الثقافية، و أحدثوا لها فرعا قائما بذاته يدعى الأنثروبولوجيا النفسية.

و يمكن القول على وجه التحديد أن أول من فكر في موضوع الثقافة و الشخصية هو الأنثروبولوجي الأمريكي هوايت ليزلي (white L) سنة 1925 ثم تبنى الفكرة بعده عالمان آخران هما ايدوارد سابير(SAPIR. E) و دولارد (Dolard) اللذان نظما سنة 1933 حلقة خاصة في جامعة هيل الأمريكية لمناقشة موضوع (الثقافة و الشخصية) و كانت تلك المناقشات بمثابة المنطلق في هذا الاتجاه حيث توالت الدراسات و الأبحاث حول الموضوع، و بدأت تظهر أهميته العلمية و القومية، فأصبح من المواد الرئيسية التي تدرس في مختلف أقسام الأنثروبولوجيا في جامعات العالم، حيث انكب العديد من الأنثروبولوجيين على تحديد السمات الأساسية للشخصية القومية للمجتمعات في بعض الدول. و من بين هؤلاء روث بندكت (Ruth Benidict) التي قادت فريقا من الباحثين لدراسة مجموعة من الثقافات المختلفة، و تعتبر هذه العالمة بحق هي التي أسست الأنثروبولوجيا النفسية و وضعتها في مكانها المناسب كفرع من الأنثروبولوجيا الثقافية.

و قد أجريت دراسات مختلفة حول الثقافة و الشخصية في العديد من بلدان العالم، كالصين و اليابان و تايلاندا و أوروبا الشرقية و فرنسا و سويسرا و ألمانيا، و ما تزال تلك الدراسات متواصلة إلى اليوم، و هي أخذت في التحدد و الاتساع عبر أقطار العالم المختلفة، على أن مثل هذه الدراسات العلمية (الأكاديمية) حول موضوع الثقافة و الشخصية، في البلدان العربية لم يبدأ الاهتمام بها إلا مؤخرا، مما يبعث على التأكد بأن القيام ببحث مماثل حول الثقافة و الشخصية في أحد البلدان العربية يعتبر شيئا جديدا قد يكون ذا أهمية علمية تتلخص أهم جوانبها في الآتي:

1- لقد ظلت الأنثروبولوجيا عموما و الأنثروبولوجيا النفسية على وجه الخصوص (إلى وقت قريب) حكرا على الباحثين الأجانب في المنطقة العربية، و كانت تطبيقاتهم في معظمها تهدف إلى خدمة الأغراض الاستعمارية في الأقطار العربية التي بقيت إلى وقت قريب، خاضعة للسيطرة المباشرة للاحتلال الأجنبي، و حتى إذا استثنينا الباحثين الأجانب الذين استهدفوا تكريس الاحتلال الأجنبي للأقطار العربية، فإن الباحثين الآخرين الذين قاموا بدراسات تستهدف العلم لذاته (على قلتهم) كانوا ينطلقون من بعض المسلمات الخاطئة عن الواقع الثقافي للمجتمعات العربية، إلى جانب عدم خلو أذهانهم من بعض الأفكار المسبة عن المجتمعات العربية، مما يحجب عنهم رؤية جزء هام من الحقيقة، يحول دون التوصل إلى نتائج مطابقة للواقع المدروس.

و على الأساس يكون البحث المقدم مفيدا لكونه يتم بواسطة باحث ينتمي إلى نفس المجتمع المدروس، و توفر على إمكانيات للبحث قد لا تتوفر لدى من سبقوه، و بالتالي ينتظر أن يسفر البحث على نتائج، تؤكد أو تصحح المفاهيم السائدة في بعض المؤلفات حول الثقافة و الشخصية العربية بصفة خاصة، و ذلك انطلاقا من أن النظرية في حد ذاتها (أية نظرية) ليست إلا مجموعة من الفرضيات التي تتأكد صحتها كلما كثر اختبارها في الواقع العملي الذي يعتبر المحك الأول و الأخير لقياس مدى صحة أية نظرية علمية.

2- إن أهم دعامة للبحث الأنثروبولوجي منهجه الذي يعتد على الملاحظة بالمشاركة و هو منهج لا يسعف الباحث فيه إلا العيش داخل الجماعة موضوع الدراسة، وكسب ثقة أفرادها، و هذا ما يتوفر إلا لفرد من نفس المجتمع موضوع الدراسة، و ذلك لأن أفراد مجتمعاتنا في معظم الأقطار العربية (و خاصة في الجزائر) هم حديثو العهد بالاستقلال عن السيطرة الأجنبية، و بالتالي ما يزال شبح الاستعمار أمام أعينهم مما يجعلهم يتهيبون من أي شخص أجنبي يحاول الاختلاط بهم لمعرفة أي شيء عنهم، فالأجنبي دائما مشبوه لديهم و لا يأمنون جانبه مهما تحايل عليهم، و إذا كان هذا هو موقفهم فلا يمكن أن تكون نتيجة أي بحث يقوم به الأجانب في أقطارنا العربية مطابقة للواقع بالكيفية التي تجعلنا نثق بصحة تلك النتائج العلمية.

3- كما أنه بحكم حداثة عهد هذا الفرع من الأنثروبولوجيا الثقافية، انعدم وجود الأبحاث الأكاديمية المنطلقة من الواقع العربي لبحث الثقافة و الشخصية العربية دون التحيز لخدمة أغراض سياسية بعيدة عن العلم، و على هذا الأساس يكون تناول موضوع الثقافة و الشخصية في الجزائر أول منطلق علمي أكاديمي، من شأنه أن يفتح المجال لأبحاث أكاديمية مماثلة حول الشخصيات المركزية (الإقليمية) للمجتمعات الأخرى في الأقطار العربية.

إن الأهمية العلمية لموضوع البحث مهما تكن كبيرة من الناحية الأكاديمية الصرف، تبقى مرهونة من الناحية الوطنية بالفائدة العلمية التي تعود بها على المجتمع المدروس، و ذلك انطلاقا من أن الموضوعات الأكاديمية التي تبحث من أجل العلم في ذاته هي ضرب من الترف الثقافي الذي لا يلاءم المرحلة الحضارية التي تجتازها مجتمعاتنا العربية في الوقت الحاضر، و لاشك أن القيام ببحث أكاديمي حول الشخصية الجزائرية لا ينتهي عند جوانب الفائدة العلمية المذكورة فحسب، بل يتعداه إلى تحقيق فوائد علمية في غاية الأهمية لمجتمع الجزائري يمكن قصر أهمها في الآتي:

1- بحكم وقوع المجتمع الجزائري تحت السيطرة الكاملة للاحتلال الفرنسي (الاستيطاني) لمدة طويلة، لم تجر فيه أية أبحاث علمية موضوعية حول الشخصية الجزائرية ككيان مستقل (بمقوماته الثقافية) عن الشخصية الفرنسية، و ذلك لأن المحتل الفرنسي كان يعتبر البلاد جزءا من فرنسا ترابا و شعبا، و بالتالي ظل يحظر على الباحثين الخوض في دراسة موضوع الشخصية القومية الجزائرية إلا من زاوية إثبات الأصل الأوروبي (الغالي) للمجتمع الجزائري، قبل اختلاطه بالعنصر العربي بعد الفتح الإسلامي… و ذلك بهد إبقاء المجتمع الجزائري غير شاعر بشخصيته المتميزة التي تؤكد لديه الشعور القومي، و تدفعه بالتالي إلى طلب الاستقلال، وهو ما كان يتفاداه المحتل الفرنسي بكل الوسائل، و قد انطلى الأمر حتى على بعض الجزائريين أنفسهم، من المتعلمين باللغة الفرنسية حيث صرح أحدهم بأن المجتمع الجزائري لا يعدو كونه أشتاتا من الشعوب المختلفة (بربرية و فينيقية و رومانية و عربية و تركية و فرنسية) لا تربط بينها رابطة ثقافية تجعلها ذات شخصية متميزة بخصائص معينة... و هذا ما كان يهدف المحتل الفرنسي إلى تأكيده دوما في أذهان الجزائريين، و ما يزال حتى الآن.

و إذا كان الاستقلال السياسي قد تحقق بجلاء المحتل عن الأرض فلا يستبعد أن تبقى مثل هذه المفاهيم راسبة في أذهان بعض المتأثرين بالثقافة الفرنسية من أفراد المجتمع الجزائري في الوقت الحاضر، و من ثمة تبدو لنا أحدى الفوائد الهامة للبحث المقدم حيث تصحح بعض المفاهيم الخاطئة التي ورثها بعض أفراد المجتمع من لغة و ثقافة الاحتلال الفرنسي

2- من المبادئ التي كان يقوم المستعمر الفرنسي بتطبيقها في الجزائر هو محاولة التفرقة العرقية بين أفراده، و هو اعتبار أن المجتمع الجزائري مكون من عنصرين أو عرقين مختلفين كل الاختلاف، و هما العنصر البربري الذي يمتد بجذوره ـ حسب الزعم الاستعمار ـ إلى العرق الآري الذي استوطن بلاد الغال في أوروبا و وفد منها إلى شمال إفريقيا، و العنصر العربي الذي يعتبرونه وافدا على البلاد في غزوات همجية ما انفكت تتلاحق بعد الفتح الإسلامي، و استوطنت البلاد لتنافس أهلها الأصليين لقمة العيش، إلى أن جاء الفرنسيون (أبناء عمومة البربر) ليخلصوهم من وطأة الاحتلال العربي  و من المؤكد أن هذه النزعة العنصرية ما تزال سائدة ـ إلى الآن ـ لدى بعض المثقفين المتأثرين بتلك الدراسات التي كانت تكرس هذا المفهوم لدى الجزائريين، و لم يدرس المجتمع الجزائري قط (في مقابل) كوحدة متكاملة انصهرت أجزاؤها بفعل عوامل فيزيقية، و اجتماعية، و ثقافية، صيرتها مجتمعا واحدا ذا ثقافة متجانسة العناصر في ثوابتها العامة، بحيث لم يعد فيها للأصل العرقي أي أثر بعد امتزاج ثقافي و اجتماعي ثم بنجاح باهر بفضل الإسلام الصادق للسكان منذ قرون عديدة و حتى الساعة.

من هنا يمثل هذا العمل أول محاولة علمية تتناول المجتمع الجزائري كوحدة ثقافية يفترض أن تكون ذات سمات مشتركة تطبع الشخصية الجزائرية بطابع خاص بقطع النظر عن الأصول العرقية لبعض أفراده، و ذلك انطلاقا من أن بحث الشخصية القومية عن طريق الثقافة لا يدخل في حسابه إلا العوامل الثقافية المكتسبة، أما العوامل العرقية فهي غير مكتسبة و بالتالي فهي غير ثقافية، و تسقط من حساب الباحث في الأنثروبولوجيا الثقافة.

3- من الأمور التي لا جدال حولها في الأنثروبولوجيا هو أن الثقافة هي المسؤول الأول على تحديد الشكل الرئيسي للشخصية القومية في أي مجتمع، و بالتالي يكون من الحتمي أن تختلف الشخصيات في بعض خصائصها باختلاف الثقافات، و طالما أن المجتمع الجزائري لم يعرف ثقافة واحدة طوال وجوده، فيكون من الأهمية بمكان تحديد السمات الأساسية للثقافة الغالبة التي كان لها دور الرئيسي في تشكيل الشخصية الرئيسية للمجتمع، و هي كما يقول رالف لينتون (Linton.R.) مجموعة من السمات الأكثر تكرارا بين أفراد المجتمع الواحد(1)، و قد ميز الشكل الرئيسي للشخصية بأنه طابع يميز معظم أفراد المجتمع، و يتمثل في مجموعة من القيم و الاتجاهات العامة التي تتمركز في المستويات العميقة في شخصية الفرد، و تؤسس تلك القيم و الاتجاهات في الشخصية أثناء مرحلة الطفولة عن طريق اتصالات الطفل المستمرة و القوية بأعضاء أسرته ثم بأعضاء مجتمعه.

كما تؤكد العلامة روث بندكت (Ruth Benedict) أن النمط الثقافي يكون له رد فعله العميق في تركيب سمات الشخصية، و قد تعتري الشخصية بعض الأمراض و الانحرافات السلوكية نتيجة عدم التكيف مع الأوضاع الثقافية الجديدة أو المغايرة لثقافة الفرد، مما يحدث خللا حتميا في التوازن الاجتماعي(2).

و انطلاقا من هذه المسلمة تتأكد لنا أهمية دراسة الشخصية الجزائرية في الوقت الحاضر، لما طرأ على الثقافة الجزائرية من تغيرات أهمها مرحلة الاحتلال، و الحروب التي تخللها، ثم مرحلة الاستقلال التي تشكل انتقالا كليا أعقبه تغير ثقافي كبير، و لاشك أن لتلك التغيرات أثرا على السمات الرئيسية الشخصية الجزائرية، ذلك أن الشخصية ليست شيئا ثابتا أبد الدهر، بل هي عرضة للتطور و التغير بنفس النسبة (التقريبية) التي تتغير بها الثقافة السائدة، طالما أن الشخصية منتوج ثقافي بالدرجة الأولى كما هو معلوم.

4- و لاشك أن إنجاز بحث علمي باللغة العربية حول الثقافة و الشخصية في بلد عربي كالجزائر، يعتبر (لإلى جانب كونه يخدم عملية التعريب المتواصلة في ا البلد منذ استرجاع الاستلال السياسي) إنجازا ثقافيا يضاف إلى رصيد الأبحاث العلنية باللغة العربية التي أخذت تتجه إلى التأصيل، و الاستقلال بموضوعاتها الخاصة، كما أكد على ذلك علماء الاجتماع العرب في مؤتمر النهوض بعلم الاجتماع في الوطن العربي المنعقد في الجزائر سنة 1973.

و يتبين مما حاولنا إثباته لأهمية دراسة الثقافة و الشخصية أن معالجة هذا الموضوع لا تترك مندوحة للباحث من التعرض له كسلسلة مترابطة من المسائل التي تتردد في علم النفس و علم الاجتماع و الأنثروبولوجيا على اعتبار أن مسائل الثقافة تضطر الباحث إلى الخوض في ميادين علم الاجتماع و الأنثروبولوجيا، في حين أن تناول الجانب المتعلق بالشخصية يدخل بالضرورة في نطاق (علم النفس الفردي)، و (علم النفس الاجتماعي).

و لذلك يمكن القول أن دراسة الثقافة و الشخصية تتكامل فيها هذه العلوم الإنسانية الثلاثة تكاملا كبيرا، و لعل هذا ما حدا ببعض العلماء أن يطلقوا على الثقافة و الشخصية كفرع جديد من فروع الأنثروبولوجيا الثقافة اسم (الأنثروبولوجيا النفسية) ذلك أن الشخصية هي مجموعة من الدلالات التي تكشف عن طبيعة الأفراد في أي مجتمع من المجتمعات، و لاشك أن طبيعة مرنة و متغيرة و قابلة للتبدل بفعل العديد من العوامل الاجتماعية و التاريخية، و من المجتمع التاريخ تنبع المصادر الثقافية لمكونات الشخصية القومية. فالإنسان حين يولد يجد نفسه مضطرا للتكيف مع بيئات فيزيقية و أخرى اجتماعية و ثقافية، و عليه أن يعايشها و يتلاءم معها، و لذلك يستند التفسير في تحليل الشخصية إلى تلك المكونات الثقافية على اعتبار أن البيئة الفيزيقية و الاجتماعية و الثقافية هي خصائص عامة يخضع لها سائر الأفراد في المجتمع، و هي القضية الأولية أو المسألة الجوهرية في نظرية الثقافة و الشخصية.

و لما كانت دراسة (الثقافة و الشخصية) تلتقي فيها الأنثروبولوجيا و علم الاجتماع و علم النفس، فيبدو أن صعوبة كبيرة تعترض طريقها، و تتمثل فيما يفرضه هذا الاتجاه الثقافي النفسي الجديد من ثنائية منهجية تطرح على الباحث تساؤلا لا مناص من تحديد الإجابة عليه، و هو؛ هل تبدأ الدراسة من الثقافة ثم تنطلق إلى معرفة السمات الأساسية للشخصية القومية أو الوطنية المتأثرة بتلك الثقافة.. أم على العكس من ذلك أي تبدأ الدراسة بالشخصية أولا ثم تنتقل إلى معرفة السمات الثقافية التي تكون الشخصية المشتركة و تطبعها بطابعها الخاص؟

و لذلك علينا منذ البداية أن نحدد المدخل الذي ننطلق منه لدراسة الثقافة و الشخصية، و هو الانطلاق من الثقافة لفهم الشخصية و ليس العكس، ذلك لأن الثقافة بعد رئيسي من أبعاد الشخصية، و في هذا الاتجاه يرى كلوكهون (klukhohn. C.) إننا إذا توصلنا إلى معرفة أنماط الثقافة السائدة، فإننا نحرر بالضرورة كسبا كبيرا و تقدما معتبرا في معرفة الشخصية.

و يقوم منهج دراسة الشخصية من هذه الزاوية في نظر هذا العالم على تحديد المادة الثقافية التي يمكن للباحث أن يصل إليها بدراسة القيم و فهم المنبهات و الدوافع الاجتماعية المختلفة(1).

و يدرس موضوع الثقافة و الشخصية كأحد فروع الأنثروبولوجيا الثقافية، و يتبع هذا الفرع المنهج العام للعلوم الاجتماعية و هو المنهج الذي يضفى خاصية العلم على فرع المعرفة الذي يتبعه، و يتميز المنهج العلمي، كما هو معلوم، بخصائص توجد في العلوم الطبيعية و العلوم الاجتماعية (و لو بكيفية نسبية) كالموضوعية و الدقة، و إمكانية التنبؤ، إلا أنه على الرغم من وجود هذه الخصائص المشتركة التي تميز المنهج العلمي عامة، تنفرد العلوم الاجتماعية بخصائص منهجية تفصيلية تجعلها تختلف عن العلوم الطبيعية، كما تختلف العلوم الاجتماعية بعضها عن بعض، في نوع و تطبيق البحث التي تستخدمها كل منها في أبحاثها. و فيما يتعلق بموضوع هذا الكتاب (الثقافة و الشخصية) فإنه يجمع بين طرق بحث الأنثروبولوجيا الثقافية، و طرق بحث علم النفس الشخصية، و تتخلص أهم تلك الطرق في ملاحظة السلوك، و دراسة سير الحياة، و تفسير الأحلام و الاختبارات الاسقاطية، و دراسة الأدب الشعبي… و تمشيا مع طبيعة المدخل المحدد لدراسة الشخصية الوطنية للمجتمع الجزائري من خلال الأنماط الثقافية السائدة، و اتبعنا المنهج التحليلي لمضمون الأمثال الشعبية و ذلك للأسباب التالية:

1- إن الأدب الشعبي من أبرز مظاهر الثقافة في المجتمع و أهم سجل لها رغم حركتها و تغيرها المضطرد، و هو نابع من واقع البيئة التي يعيش فيها المجتمع، و محفوظ، (في الذاكرة الشعبية) بلغة المجتمع المدروس، و بالتالي فهو يحافظ على السمات الأساسية لشخصية المجتمع، رغم كل التغيرات التي تطرأ عليها نتيجة العوامل المختلفة التي يتعرض لها.

2- للأدب الشعبي علاقة قوية بالنظام التربوي السائد في المجتمع، و الذي بفضله تنتقل الثقافة بكل مظاهرها المعنوية (كاللغة و الدين و أنماط السلوك الخلقي و ظواهر الفكر العليا بتصوراته و مقولاته..) و المادية (كالتكنولوجيا و المعارف العلمية و المهارات اليدوية و كيفية المعيشة) .. من جيل إلى جيل.

3- و للأدب الشعبي أيضا علاقة عضوية بلغة المجتمع المدروس، و اللغة كما يؤكد مالينوسكي (Malinowski. B.) هي أهم الظواهر الثقافية باعتبارها خاصية إنسانية، و من ثمة فهي مفتاح الثقافة في أي مجتمع، و معرفة الباحث للغة الأدب الشعبي في الجزائر بلهجاتها المختلفة تجعله يتفادى الخطأ الشائع الذي يقع فيه الكثير من الأنثروبولوجيين الذين يعتمدون على المترجمين و الشارحين(1) ذلك أن علم اللغة يثبت أن الكلمة ليست مجموعة من الحروف الجامدة و الأصوات الجوفاء، و إنما هي كائن حي يحمل الكثير من المعاني، و لا يؤدي الاعتماد على الترجمة الحرفية إلى التوصل إلى مضامين الكلمات، و فحوى اللهجات المتداولة داخل الوطن، و خاصة البربرية أو الأمازيغية منها.

4- إمكانية جمع اكبر رصيد ممكن من مادة الأدب الشعبي المتداول في المجتمع المدروس و تحليله، و إجراء المقارنة لملاحظة مدى التطابق في الواقع العلمي بين القيم المتضمنة في الأدب الشعبي، و القيم السائدة في أنماط السلوك المختلفة لأفراد المجتمع.

و فضلا عن الأسباب المذكورة فقد تبين أن أكثر الاتجاهات انتشارا في أبحاث الثقافة و الشخصية هو الاتجاه التحليلي للأدب الشعبي في مجتمع ما، و يقوم هذا التحليل على افتراضين اثنين:

أ- وجود شخصية رئيسية في المجتمع قيد البحث.

ب- إن التكامل الثقافي يميل إلى تأكيد نوع من الثبات، و لتماسك في الأدب الشعبي، و بالتالي يمكن لباحث استنتاج بعض السمات و خصائص الشخصية للمجتمع قيد البحث عن طريق تحليل المضمون لأدبه الشعبي.

و الخلاصة أن الأدب الشعبي يعبر ـ إلى حد بعيد ـ عن قيم و شخصية المجتمع صاحب الثقافة قيد البحث، و هي حقيقة أكدها الكثير من العلماء و منهم الأنثروبولوجي الكبير بواز (Boas. F.)(2) في كتابه (ثقافة كيوكيوتل ممثلة في الأساطير) و العلامة مارقريت لانتيس (Marguerite L) في دراستها لبعض جماعات الإسكيمو في ألاسكا(3) و قد توصلت هذه العالمة إلى نتائج هامة تحدد السمات الرئيسية لشخصية تلك الجماعة، من خلال تحليل الأدب الشعبي السائد بين أفرادها، و هناك دراسات مماثلة كثيرة حول هذا الموضوع.

و بناء على تقدم فإننا التزمنا منهجين متكاملين في هذه الدراسة:

أولا: منهج تحليل المضمون الأمثال الشعبية ذات الطابع الشمولي المعبر عن القيم السائدة في مجتمع البحث و العاكسة ـ بشكل واضح ـ للسمات الأساسية للشخصية القومية لهذا المجتمع.

ثانيا: منهج الملاحظة المباشرة لسلوكات الأفراد داخل المجتمع داخل المجتمع باعتباره من أفضل المناهج المستعملة في الدراسات الأنثروبولوجية لمعرفة مدى مطابقة الموضوعات التي تتضمنها الأمثال الش