ملخص المقرر الدراسي : يهدف هذاالمقياس إلى إعطاء معارف تاريخية حول محطات معلمية من تاريخ المغرب الأقصى خلال الفترة الحديثة الى فرض الحماية الاجنبية عليه ، وتوضيح معالم التطور السياسي والحضاري والاقتصادي والعوامل المتحكمة في نشأة وتطورالدولة العلوية والمجتمع المغربي ، وتوضيح محاولاته في عملية تثبيت السلطة المخزنية وتوحيد البلاد ومواجهة الغزو الاجنبي واخضاع الحركات الانفصالية والتنظيمات المعارضة في الاقاليم ، وسعي المغرب الى نسج علاقات مختلفة مع دول الجوار والدول الاوربية التي طبعها التوافق احيانا والتصادم احينا اخرى ، والاطلاع على التطور الحاصل في المغرب سياسيا وحضاريا وكشف المزايا التي يتمتع بها  والمخاطر التي هددته في وحدته واستقراره واستقلاله مطلع القرن العشرين    ( الحماية المزدوجة على المغرب الاقصى 1912 ) ، وتبيان المصادر والمراجع الضرورية المتعلقة بهذه المقياس .

محاور السداسي الثاني :

-        نهاية الحكم السعدي بالمغرب الأقصى

-        قيام الدولة العلوية

-        العلاقات الجزائرية العلوية  في العهد العثماني

-        العلاقات العلوية الأوربية

-        المغرب الأقصى قبل الحماية


 

الدولة العلوية  1669  :

 (تابع )

 1-تطور الدولة العلوية ومظاهره: ساس الدولة العلوية سلاطين كثر ، لهم  وجهات نظر متاينة  في تسيير شؤون الدولة وهياكلها ورعاية مصالح مواطنيها وتتابع على عرشها  العديد من الامراء  نذكر بعضا منهم :

 أ-محمد بن الشريف 1640-1664 م : بويع مولاي محمد  في حياة والده علي  الشريف (توفي 1659) وتصدى لقوات أبي حسون وطردها 1640  من سلجماسة وبايعه الناس على العهد . ثم اتجه إلى طرد قوات ابي حسون من درعه والصحراء المجاورة بناحية الحراطين ذات المزيج الاجتماعي الإفريقي البربري العربي. وخشي الدلانيون المعارضون من الأمير الجديد فغزوه وانتصروا عليه في معركة القاعة  1646 ، ثم تصالحوا معه بعدما  تنازل لهم مولاي محمد عن بعض المناطق. واخفقت محاولته بعد بيعة أهل فاس له ، الكارهون للحكم الدلائي 1649 ،  فاتجه إلى توسيع نفوذه نحو الصحراء الشرقية حيث دخل وجدة و أوقع هزائم بالأتراك بنواحي تلمسان 1654 ، وتلقى بيعة القبائل، ووصل إلى الأغواط وعين ماضي، وعاود مهاجمة تلمسان 1658 ، فثار عليه أخوه مولاي الرشيد بتازا  حيث انهزم  1663 ولجأ إلى القبائل الشرقية (الشراقة)، حيث واجهه من جديد 1664 ولقي مولاي محمد حتفه   1664 وعمره 72 سنة  .

ب-رشيد بن علي الشريف( 1665-1671م): يعد المؤسس الفعلي للدولة العلوية بالمغرب ، كان أهل سجلماسة أول من ثار على الرشيد  بقيادة محمد بن مولاي محمد، فافتتحها رشيد، الذي شن الثورة بها ثم بمراكش حيث قبضت عليه قبائل الشراقة العربية من بني عامر والشجع والبربرية من بني سنوس ومديونة وهوارة وبنو يزناسن وتصارع مع أهل فاس دون جدوى، واتجه فأخضع الريف وثائره عبد الله أعراس  1665 وفي حملته الرابعة على فاس استطاع دخولها وقضى على ثوارها وأحكم أمرها وغير قاضيها 1665، ثم فتح القصر الكبير، وبايعته سلا وتتابعت البيعات من بقية المناطق، ثم افتتح تطوان التي أخذها من أسرة النقسيس، ثم بعد صراع استطاع دخول الزاوية الدلائية 1668 وعفا عن أهلها ، لكنه هدمها، ونفيت عائلة محمد الحاج إلى فاس ثم تلمسان، ثم توجه إلى فتح مراكش التي كانت بيد أسرة الشبانات(بنو شيبان من معقل )  1668 وعانى في إخضاع السوس وكان أميرها أبو حسون قد توفى، فدخل إيليغ ثم تارودانت بعد صمود قوي من أهلها 1670 في الدفاع عن معاقلهم  .

وكانت فرنسا قد تحرجت من غزاة البحر المغاربة ،  فوجهت بعض سفنها لقنبلة مدينتي سلا والرباط 1670، وفي أوائل سنة 1671 ، بدأت عمليات الهجوم على الإنجليز بطنجة بتدبير مولاي الرشيد، وقضى الرشيد آخر أيامه بمراكش، وكانت وفاته بسبب جموح فرسه وإصابة غصن شجرة لرأسه هلك منه في  1671، وصف هذا الأمير بالقسوة والغلظة وصرامته ضد حركات التمرد، لكن حاجة البلاد للوحدة كانت تستلزم ذلك، وقد استطاع أن يفعل في سبعة سنين ما لم يفعله أحد في تاريخ المغرب قبله من توحيد البلاد، وإن وقع في أخطاء ، كعدم اعتماده على أسرة النقسيس كقوة مدافعة للغزو الأجنبي، واعتماده على عصبية قبائل الشراقة وهم عرب بادية تلمسان، الذين سيكون لهم دور سلبي في الأحداث . ثبت دعائم الامن في البلاد بعد توحيدها ،وكون جيشا من قبائل الشراقة شرق المغرب ،وضرب السكة باسمه ، واسس مدرسة الشراطين بفاس التي تعتبر من اهم معالمه العلمية .

 2-الدولة الإسماعيلية (مولاي اسماعيل)   1672-1727 : عرفت الدولة العلوية عدة اشكال في تبلور معالمها السياسية من خلال جهود بعض الامراء الذين اثبتوا كفاءة نادرة في ترسيخ اركان الدولة وتوحيد ارجائها وبسط نفوذها وتحرير ثغورها من الاحتلال الاجنبي ونسج علاقات خارجية متنوعة . ومن هذا المنطلق عرف المغرب محاولة لارساء سلطة مخزنية بزعامة مولاي اسماعيل الذي كان خليفة أخاه الرشيد على مكناس والذي توفي 1672 ، وقد أصبح سلطانا من غير عهد وعمره 26 سنة، وباعته كل المناطق الا مراكش التي بايعت ابن اخيه المسمى ابو العباس احمد ، وتغلب عليه 1673 وعفا عن اهل مراكش ، واتخذ مكناس عاصمة لدولته ، وعرف عنه الصرامة وعدم التسامح مع المنفلتين، وكان ذكيا ذي روح دينية عميقة. وقامت الثورات عليه؛ فكان الأول القائمين أحمد بن محرز أحد أنجال إخوة السلطان، سانده أخوه الحران وعامل مراكش، وسرعان ما هزم الثوار ودخل السلطان مراكش  1672 ثم عاد الثائر إلى مراكش من جديد فحاصرها السلطان وعامله على السوس 1700 بعد أن ثار ودخل المدينة، فوجه له ابنه زيدان الذي افتتحها وأساء السيرة وتعقب أخاه الثائر بالسوس، واستولى على تارودانت وقبض على أخيه   1704 ووجهه إلى مكناس وفي الطريق بعث السلطان من قطع يده ورجله ، فهلك بوصوله إليه، وكذا ثارت فاس وبايعت ابن محرز وتبعتها  تازا  فحاصرها السلطان وأخضعها سنة  1673، وكانت السوس أيضا قد ثارت مع ابن محرز ، ودام الصراع معهم طويلا بين حرب وصلح( 1672- 1685م) إلى أن أدرك ابن محرز خطأ فقتل 1685 فواصل الثورة اخوه الحران ودامت إلى أن اقتحم السلطان تارودانت سنة  1687 ـ، فاستباحها، وفر الحران إلى الصحراء، وعادت الثورة بالسوس مع أبو النصر بن إسمعيل بين  1711 و 1713 ، إلى أن قتله أولاد دليم من عرب السوس، وهم من مجموعة الأودايا أخوال مولاي إسماعيل، والظاهر أن المجموعة البربرية بالسوس كانت هي المنازعة للسلطان، ذلك أن الذين قتلوا ابن محرز هم من العرب أيضا.

وقد ثارت الصحراء أيضا، درعة ونواحيها، وكان أول الثائرين الحران 1672 ، الذي قبض عليه ثم عفي عنه، ليعود مع إخوته للثورة، بمساندة آية عطا، فتوجه إليهم السلطان وفي حرب دامية فر الثوار داخل الصحراء  1679 ، وثارت من جديد مع ابن السلطان أبو نصر  1702 ، فأخذ درعة، فبعث السلطان ابنه مولاي الشريف الذي أقر الأمن، وفر أخوه ليعود إلى الظهور بالسوس.

وقد قامت هذه الثورات في مناطق النزاع القديمة، في مناطق أبي حسون التي قضي عليها وفي نواحي الشبانات وبقايا الأسرة السعدية ، ولكراهية السكان في أداء الضرائب، وثار الدلائليون بالأطلس من جديد بزعامة أحمد بن عبد الله الدلائي بمعونة أتراك الجزائر، فقام بتادلا ونواحيها، ودامت ثورته إلى أن قاد السلطان جيشه بنفسه واستطاع بمعونة المدفعية القضاء عليها، بعد اغتيال أميرها الفار إلى الجبال  1677-  1678  وقامت ثورات أخر لأسباب عدة، كثورة بني يزناسن بالشرق 1680 وتورات صنهاجة بالأطلس الأوسط  الموالية للدلائيين، وعالجها بطرق خاصة ببناء القلاع وتزويدها بالرجال لمراقبة حركات القبائل.

 أ- تحرير الثغور:

1- تحرير طنجة: كان الخضر غيلان قد واصل حركة الجهاد الشعبي للعياشي في منطقة الهبط ضد الاحتلال الأجنبي، فاستولى على القصر الكبير وبدأ في حصار طنجة خاصة  1651م ، فحاصر معونة الإنجليز لمواجهة العلويين، لكن استطاع مولاي اسماعيل  القضاء عليه وعلى مقاومته  1673 وتولى هوك حصار طنجة طويلا إلى أن قرر الإنجليز الجلاء عنها ودخلها الجيش المغربي في  مارس 1684م .

2-تحرير المهدية: وتعرف بحلق الوادي والمعمورة، وكانت بيد البرتغال منذ  1515، ثم بيد الإسبان منذ  1613، وحاول العياشي فتحها دون جدوى؛ إلى سنة  1681م  حيث تقرر فتحها، فتوجه إلى حصارها جيش شعبي بقيادة أحد صلحاء سلا أحمد حجي، وجيش نظامي ودام حصارها أشهرا إلى أن جلى الإسبان عنها وسلموها للملك المغربي مولاي اسماعيل.

3- تحرير العرائش: كان سلمها المأمون السعدي للإسبان سنة  1610م ، فحاصرها مولاي إسماعيل مدة خمسة أشهر، ثم اقتحموها  1698م ، وكان سكانها ثلاثة آلاف قتل منهم 1200، وأسرى الباقي، وفدي بعضهم، وحصل المغاربة على 180 مدفعا منها 22 من البرونز.

4-تحرير أصيلا: وكانت بيد الاسبان منذ 1581 من وبعد تحرير العرائش حوصرت المدينة مدة سنة إلى أن استأمن أهلها للسلطان ثم فروا عنها ليلا بحرا سنة  1691م .

5-محاولات اخرى : كانت مليلية بيد الإسبان منذ 1497 ، وقد حاول مولاي إسماعيل جاهدا تحريرها، وبنى عليها برج دار المخزن 1679  كما حاول فتح سبتة وضرب عليها الحصار طويلا دون جدوى، وحاول أيضا تحرير وهران من الإسبان بحملة  1700م  فهاله حصانتها ومنعه قلة المدفعية من حصارها، وكانت هذه المحاولات الفاشلة راجعة إلى منعة تلك المدن واستعانتها بالأسطول البحري لحمايتها، وإمدادها، وقوة الأسطول الإسباني؛ فضلا خمول الروح الوطنية لدى قادة الجيش المغربي، وكثرة الثورات الداخلية.

 ب - العلاقات الخارجية:

قامت فرنسا بمهاجمة حوض أبي رقراق للرد على نشاطات الجهاد البحري، فهاجمت سلا سنة  1670  وعاودت مهاجمة الحوض سنة  1680 ، وعرض مولاي إسماعيل على لويس الرابع عشر عقد معاهدة صلح، إلا أن المبادرات المتكررة خاصة لمبعوثيه محمد بن تميم وأمير البحر ابن عائشة لم تلق نجاحا، وكان اتجاه هذه المحادثات نحو وضع تحالف ضد الإسبان والأتراك، والتفاهم على قضية الأسرى، مع تحرير التجارة بينهما، وأفضى الأمر إلى رجوع المبعوثين الفرنسيين بالمغرب وشغور منصب الممثل القنصلي الفرنسي أربعين سنة 1718م.

أما مع الإنجليز فكانت العلاقة فاترة في هذه الفترة بسبب احتلالهم لطنجة، وكذا كانت الحال مع إسبانيا المحتلة  لمدن الساحل، وكانت المراسلات مع ملكها كارلوس الثاني تدور في الغالب حول تبادل الأسرى بين الطرفين، في حين كانت العلاقات التجارية مع هولندا وإيطاليا نشطة تمحورت واردات المغرب حول الفولاذ والحديد والذخائر الحربية وغيرها.

ج- نقاط ضعف الدولة الإسماعيلية:

Ø    توفي مولاي إسماعيل سنة  1727 بعد خمس وخمسين سنة من الحكم، ولم يعين خلفا له، ودفن بمكناس وقد ترك عددا من الذرية، التي تقاتلت على الحكم بعد واثرت على انجازات مولاي اسماعيل .

Ø    وقد واجه معارضة في بعض سياساته الخاصة، كقضية التجنيد الإجباري للحراطين وتمليكهم ، حيث عارضه في الامر فقهاء فاس .

Ø    ونأى عن فاس ، واتخذ مكناسا عاصمة له، وشيد بها البنايات العمرانية المدنية والعسكرية، وإن كان في ذلك خطأ؛ لأنها كانت منطقة الصنهاجيين الموالين للدلائية، مما سيسبب المتاعب للعاصمة بعد ذلك .

Ø    وقد عمل على إعادة تنظيم الجيش، متلافيا المؤامرات والتكتلات القبلية المضرة به، فكان عناصر البخاري أكبر فرقة في الجيش الاميري لكنه اصبح القوة الضاربة في تنصيب وعزل الملوك بعده .

Ø    واستطاع بمعونة الجهاد الشعبي تحرير العديد من الثغور المغربية؛ كما استطاع أن يضع لثورات الأمراء والمحاولات الانفصالية المستمرة، و ضبط الأمن بالطرق والممرات بالشبكة الأمنية من الحصون والأبراج والقلاع الموزعة على طول المسالك التجارية .

Ø    وامتد نفوذه إلى شنقيط وما وراء النيجر، وبلغ في توغلاته تلمسان وشلف، واستقبل بيعات قبائلها خاصة قبائل معقل أخواله، ودخلت الصحراء الغربية في بيعته.

Ø    وقد كان مولاي إسماعيل حذرا من الطرق الصوفية في عملها السياسي، الذي لم تنجح في إنشاء وحدة مغربية باستثناء الجزولية؛ على أنه كان يعظم الصلحاء والفقهاء ويستمع إلى نصائحهم .

Ø    وقد نظرت إليه المصادر الأوربية كرجل شديد البطش خصوصا تجاه الأسرى النصارى، وهذا مفهوم من جهة كونهم من أعدائه التقليديين.

د-عصر الملوك السبعة(أزمة العرش): دامت فترة حكمهم 30 سنة بين 1727 الى 1757 وهم : أحمد الذهبي، عبد الملك،عبد الله، علي الأعرج، محمد، المستضيء،  زين العابدين . كانت فترة هؤلاء الملوك أكثر فترات المغرب الأقصى اضطرابا، وأكثرها تشتتا، ومن مظاهرها:

أ‌-استبداد جيش البخاري بالسلطة، وتدخله في اختيار الملوك وخلعهم، مع خلوه من العاطفة الوطنية، والرؤية السياسية الواضحة.

ب‌-    عودة القبائل الصنهاجية إلى الثورة وتوجهها إلى مساندة أحد الملوك على الآخر؛ وتجمع بعضها لفرض وجودها السياسي إلا أنها بقيت غير منسجمة وليس لها طموحات وطنية ولا الزعامة الموحدة.

ت‌-    اختلاف الأسرة الحاكمة في اختيار السلطان الكفء في تسيير الدولة، مع خلو نظامها من ترتيب أوليات ولاية العهد وشروطها.

ث‌-    استغناء الملوك عن خدمة الإطارات الإدارية والسياسية الرئيسة التي بنى بها المولى إسماعيل دولته.

1-أحمد الذهبي  1727م : بويع بتقديم جيش البخاري، وكان أصغر من أخويه عبد الملك وعبد الله، وقد تحكم فيه هؤلاء واستصدروا منه عدة أحكام بقتل عدد من عمال النواحي الذين كانوا ينازعونهم، من رجال الدولة ووجهاء القبائل، فاضطرب الحال، وكان من أكبر مظاهر ذلك نشوب حرب أهلية في هذه المناطق، خاصة بفاس بعد تعدي عنصر الأودايا على أهلها، فاتضح عجز السلطان، وقرر الجيش عزله، واعتقله بفاس.

2-عبد الملك بن إسماعيل 1728م : كان عامل السوس، وببيعته حاول إضعاف البخاري، فضيق في أرزاقهم، وحاول الاستعانة بزعماء العرب والبربر عليهم، فثاروا عليه، وفر إلى فاس فاستقدموا أحمد الذهبي من تافيلالت، الذي قام بمضاعفة أرزاق الجيش، ثم حاصر فاس وضربها بالمدافع مدة طويلة ، إلى أن استسلمت، واستسلم أخوه عبد الملك، وسجن بمكناس، ولما مرض الذهبي أمر بخنق أخيه فقتله، وتوفي بعده بثلاثة أيام  1729م .

3-عبد الله بن إسماعيل  1729-1757 : كان بتافيلالت واتفق عبيد البخاري والأودايا على استقدامه ومبايعته، وبايعه الناس خاصة أهل فاس، لكنه أخذ في البطش بهم،  بسبب مطالبته بأملاك الدولة التي استولوا عليها، فحاصر فاسا وضربها بالمدافع حتى أذعنت، ثم قام بفرض إتاوات باهظة على أعيانها ففر الكثير منهم الى تونس والسودان ومصر، وبطش بآيت يمور بتادلا؛ وهدم حي الرياض بمكناس؛و اعدم آلالاف من جيش البخاري ممن اتهمهم بقتل أخيه عبد الملك، فقرروا التخلص منه لكنه فر  إلى  أخواله المغافرة.

4-علي الأعرج بن إسماعيل  1735-1736  : جلبه البخاري من تافيلالت، فبويع ولما لم يكن لديه مال لتوزيعه على جيشه، قبض على السيدة خناثة بنت بكار أم السلطان عبد الله فعذبها لاستخراج الأموال دون جدوى؛ ولما لم يجد ما ينفقه على الجيش قرروا خلعه ففر إلى نواحي تلمسان، وكانت خناثة تسعى الى عودة ابنها، ووعدت الجيش البخاري بالعطاء الجزيل، وكانت الأوضاع قد اضطربت وارتفعت الأسعار وانتشرت المجاعة، وظهرت ثورة  عبد الله بالسوس عبد الله ، الذي دخل أكادير وقتل أهلها.

وعاد عبد الله بن إسماعيل لملكه، وقضى على عدوه القائد سالم الدكالي بفتوى من قاضيه أيوب عتان، ثم قام بقتل عدد ممن جاء لبيعته بمكناس من الأشراف والعلماء والأعيان، ثم استباح مكناس وعزل قاضيها، ولما ساءت الأوضاع بفاس بسبب عدوان الأودايا على أهلها قرروا خلعه ونصبوا محمد بن إسماعيل ابن العربية بعد موافقة البخاري، فانسحب السلطان عبد الله إلى جبال الأطلس.

5-محمد بن إسماعيل ابن العربية  1736-1738م :  اضطرب الأمر في عهده اضطرابا شديدا، وكان سفاكا للدماء؛ وأطلق السلطان يد الجيش على الناس، وكثر اللصوص وقطاع الطرق، ونهب الجيش بفاس  موارد الناس ومخازنهم، فأخلى أغلب الناس فاسا وفروا منها، وحاول وجهاؤها جلب الحبوب من إسبانيا فلم يفلحوا وعمت المجاعة ومات الآلاف من الناس، ولما اشتد الأمر قبض البخاري على السلطان واعتل بنواحي مكناس؛ ثم استقدموا أخاه المستضيء من تافيلالت، وكانت هذه النواحي قد استقل بها زعماؤها ووجهاؤها.

6- صراع الملوك الثلاثة: لما بويع المستضيء كان قد رشح البخاري قبله أخوه زين العابدين، وبعد فوضى عارمة تآمر البخاري على خلع المستضيء، إلى أن راجع الجيش بيعة عبد الله؛ وبعد مدة اتجه الجيش إلى بيعة زين العابدين من طنجة 1741 ، ثم تخلى عنه بعدها وبايع مع أهل فاس عبد الله في بيعته الرابعة ! الذي سيواجه أخوه المستضيء من جديد، فينتصر ويبايع بمكناس بيعة خامسة! وبعدها حدث اضطراب كبير مع إخوته وخاصة المستضيء ويتخذ من فاس مقرا له، بعيدا عن مكناس ومشاغبة البخاري بها، هذا الأخير الذي تناقص عدده وبدأ يضعف؛ إلى وفاة السلطان عبد الله بفاس في   1757  ، وكان قد اعتزل رؤية الناس قبل موته باثنتي عشرة سنة.

ه-الدولة المحمدية وعودة الوحدة المغربية : ورث تركة سياسية ثقيلة وعمت الفوضى ارجاء المغرب ،دام حكمه 33 سنة  تزعمها محمد بن عبد الله   1758-1790م و كان معدودا في فقهاء وعلماء البيت العلوي، خليفة لأبيه على مراكش وما جاورها، وكان متأثرا بالمنصور الذهبي، بويع بيعة عامة سنة  1758 وعمره ثمان وثلاثين سنة، وكانت بيعة إجماع، ويذكر من صفاته ذكاؤه وعبقريته السياسية وتدينه وبساطة عيشه، وكان جل وزرائه من العرب، وقد عاصر أحداثا مهمة كحرب الاستقلال الأمريكية والثورة الفرنسية.

1- الثورات: واجه ثوراتٍ محدودة الأثر، كان بعضها امتدادا لغيرها، قليلة التنظيم، وبعضها نزاعات محلية وأغلبها حركات نهب وسلب؛ ومنها: ثورة غمارة وقائدها أبو الصخور محمد العربي الحمسي( 1758)؛ ثورة مسفيوة بناحية الحوز  1761  ؛ اضطرابات القبائل العربية وكان أكثرها بسبب اجتماعي، ومنها حركة الثائر كلخ بنواحي مراكش  1767، وعرفت بلاد الأطلس ثورات واضطرابات ومنها فتنة الشيخ محمود الشنقيطي بفاس مع أعيانها وقبائل البربر ضد السلطان ( 1761)؛ والوقيعة بقبيلة آيت تيمور بتادلا 1765 وثورة تافيلالت التي كانت آية عطا وآيت يافلمان تساند عمه الحسن، فأخرجهم من قصورهم، ونقل عمه إلى مكناس  1784 ؛ ومن أخطرها ثورة ابنه اليزيد وعبيد البخاري بمكناس  1775 والتي واجهتها القبائل الموالية للسلطان (آيت إدراسن وجروان والأودايا)، وهزمتها ، واحتمى اليزيد بضريح المولى إدريس بزرهون إلى أن عفي عنه.

2- تحريرالثغور:  قام السلطان في سنة  1759 بجولة لتفقد الثغور المغربية وبنى بعض الأبراج، ثم قام بحملة فتح البريجة وكانت بيد البرتغال منذ    1502م ، فحاصرها  بجيشه وضربها بالمدفعية  1769م ، واضطر البرتغال إلى الجلاء، وقبل ذلك فخخوها وهدموا مااستطاعوا منها، فتسارع المغاربة في دخولها فقتل في تفجيرها خلق منهم، فسميت بالمهدومة، ثم رممت بعد وسميت بالجديدة، وحاول السلطان فتح مليلية، وكانت بيد الإسبان منذ   1497  ، وحاصرها وضربها بالمدفعية   1774 ، لكنه فشل في النهاية بسبب خيانة بعض القادة، وخديعة في معاهدة الصلح التي وضعها مع الملك الإسباني شارل الثالث  1765 .

3- اصلاحات مولاي محمد بن عبد الله  :

أ-الجيش: أنشأ جيشا كبيرا، لطموحه في إدخال المغرب الأوسط في نفوذة، وانضمت إليه مجموعات من الحراطين  1765 ، وأنشأ فريقا جديدا من اليكاشرية من حوز مراكش، كانوا يؤلفون فرقة المشاة، ولم يتجاوز الجيش النظامي الخمسة عشر ألفا، وصرف البخاري أحيانا عن الجندية تأديبا واستعمل بعض القبائل في حملات التأديب ضد بعضها. واستعان الجيش كذلك بمتطوعة الجهاد. واستعان السلطان بحامية فرنسية لمدينة الصويرة. وعزز حاميات الثغور بالبناءات والمعدات واستقدم خبراء أتراك لصهر المدافع وتدريب رماتها.

وواصل الجهاد البحري، وأمر السلطان ببناء السفن الحربية لبعض الربان كالريس العربي، وبناء مجموعة منها بتطوان  1759 ، وبنى سفنا ذات طابقين، وقامت تركيا وانكلترا والسويد بتزويده بالتجهيزات التقنية لسفنه، وكان عدد السفن في  زمنه خمسين سفينة منها عشرون باخرة كبيرة، وعدد ربانها الستين، وجيشها ألفا من المشارقة وثلاثة آلاف من المغاربة، مع ألفين من رماة المدفعية.

ب- الاقتصاد: كان من أوائل الإجراءات الاقتصادية التي طبقها توظيف المكوس على الأبواب والسلع والمنتجات الفلاحية، بعد فتوى من الفقهاء؛ وأيضا أقر تبادل المنتجات الزراعية الفائضة عن الاستهلاك المحلي بالمواد الحربية الخارجية، وتكاثرت المراكز التجارية بأكادير والصويرة وآسفي والرباط والعرائش، واستطاع مجابهة سنين المجاعة( 1776-  1783)، وقد رتب توزيع الخبز في مختلف المدن على المحتاجين، وتلقى سكان البوادي سلفات طائلة من الدولة، وأسقط عنهم ضرائب ومغارم تلك السنين، وكذا تلقى التجار سلفات لجلب المواد الغذائية من أوربا. وارتبط المغرب بمعاهدات مع دول كثيرة، لأول مرة، تخص العلاقات التجارية والشؤون الدبلوماسية وقضايا الأسرى.

ج- السياسة الدينية: اتجه السلطان في هذا المجال اتجاها إصلاحيا، فرغم إعجابه بالحضارة الأوربية إلا كان يكره التقليد في التشريع المرتبط بالمذهب المالكي؛ فاتجه إلى تدوين مجموعة من الأحاديث النبوية المتعلقة بالأمر التشريعي؛ وظهرت لذلك حركة حديثية واسعة النطاق لم يعرف لها مثيلا إلا في العصر الموحدي.

وعرفت حركة التعليم انتعاشا حقيقيا دون إصلاح في البرامج ، وتأثر القضاء بالروح التنظيمية، خاصة فيما تعلق بأحوال المظلومين من فئات المجتمع؛ وأصدر نصوص تشريعية في شكل ظهائر متتابعة تحدّد التزامات القضاة في مجموعة من المعاملات الأساسية، ونكب بقضاة مخالفون لها، كما نكب بالعمال والولاة الجبابرة ممن استخف بقدر السلطنة أو أخلاق البلاد.

وإذا نال المحدثون والفقهاء مقام الشرف عند السلطان، فإن الطرق الصوفية قد أصبح بعضها محل ريبة من المخزن، خاصة تلك التي عارضت الدولة أو كانت مأوى للمنازعين لها؛ وقد نكب السلطان بزاوية أبي الجعد ونفى شيخها  1785 ، وهم أيضا بهدم الزاوية الناصرية بدرعة لولا أن حمتها الأقدار  1789  ، ومع هذا لم يكن السلطان معاديا لها بقدر ما كانت أعمالا ذات  طابع سياسي محض.

خلاصة : عرفت الدولة العلوية في مراحلها الاولى من تاسيسها صعوبات عديدة ومعقدة ، توالت عليها من جوانب عدة ، ابرزها الصراع على السلطة بين امراء الاسرة الشريفية ، غذته طموحات الحركات الانفصالية والثورات الاقليمية ، وتدخلات الجيش البخاري الذي ارتبط بمكاسب مادية ومعنوية ، وتكالبت على المغرب دول اجنبية المحتلة لثغوره ، دفعتها المصالح الاقتصادية والجيوسياسية الى التدخل في توجيه السياسة المحلية لصالحها على حساب الرعية ، الامر الذي ابقى المغرب اقليما مضطربا في كثبر من الوقت ، حاول بعض امرائه توحيد البلاد وتامين اقاليمه وتطوير مجتمعه واقتصاده وربط علاقات متنوعة مع دول العالم الاوربي والاسلامي .