المحاضرة الأولى:

إشكالية أصل التدين:

            يجب التمييز، بداية، بين "الدين" كوضع الهي، و"التدين" ككسب بشرى، والمقصود بالدين أصوله الثابتة، التي مصدرها النصوص اليقينية الورود القطعية الدلالة، أما التدين فهو معرفه والتزام بشرى بهذه الأصول، بالاضافه إلى الفروع الظنية الورود والدلالة، يقول الدكتور عبد المجيد النجار (إن حقيقة الدين تختلف عن حقيقة التدين؛ إذ الدين هو ذات التعاليم التي هي شرع إلهي، والتدين هو التشرع بتلك التعاليم ، فهو كسب إنساني. وهذا الفارق في الحقيقة بينهما يفضي إلى فارق في الخصائص، واختلاف في الأحكام بالنسبة لكل منهما)

وبالمحصلة؛ "التدين" هو مجموعة الأفكار والاجتهادات التي يعتقدها المرء ظناً منه أنه يتبع من خلالها الدين الحق، ولكنه قد يصيب وقد يخيب في ذلك. 

               إن التفكير في أفق مسألة التديّن يحيل العقل إلى التساؤل عن أصله: فما هو الباعث في الطبيعة الإنسانية على التديّن؟ وهل ثمة أصل واحد للتدين أم أنه يرتد إلى أصول متعددة؟ 

               اختلف علماء الأديان الأنتروبولوجيين  حول تحديد أصل العقيدة الدينية عند الإنسان. فرأى فريق منهم أن الأساطير هي أصل الدين، وهو رأي لا يرفض كله ولا يقبل كله!…"لأن العقيدة قد تحتوي الأسطورة، ولكن الأسطورة لا تحتويها،إذ يشتمل عنصر العقيدة على زيادة لا يشتمل عليها عنصر الأسطورة وهي زيادة الإلزام الأخلاقي والشعور الأدبي بالطاعة والولاء والأمل في المعونة والرحمة من جانب الرب المعبود……".

               ويرجح آخرون أن السحر هو أصل العبادة وأصل الشعائر الدينية، ولكن يقال في الرد عليهم إن السحر يستلزم وجود الأرواح التي تعالج به وتراض بتعاويذه" "والأكثرون من ناقدي الأديان يعللون العقيدة الدينية بضعف الإنسان بين مظاهر الكون وأعدائه فيه من القوى الطبيعية والأحياء فلا غنى له عن سند يبتدعه ابتداعا ليستشعر الطمأنينة بالتعويل عليه والتوجه إليه بالصلوات في شدته وبلواه". "ورأي فرويد قريب من رأي هؤلاء الذين يردون العقيدة الدينية إلى شعور الخوف في وسط العناصر الطبيعية".

               وطائفة أخرى من علماء الإنسان يربطون بين "الطواطم" والذين، حيث يظنون "أن الطواطم هي طلائع الأديان بين الهمج الأولين" والفيلسوف الفرنسي ـ هنري برجسون ـ يرجع بالعقيدة الدينية إلى مصدرين: أحدهما اجتماعي لفائدة المجتمع أو فائدة النوع كله، والآخر فردي يمتاز به آحاد من ذوي البصيرة والعبقرية الموهوبة….".

               أما ماكس موللر يرجح أن الإنسان قد تدين منذ أوائل عهده، لأنه أحس بروعة المجهول وجلال الأبد الذي ليس له انتهاء".

                  وقد استخلص علماء الأديان والاجتماع والأنثروبولوجيا والفلسفة... من هذه الآراء المختلفة أدلة فلسفية على أصل التديّن، فردّوه إلى ثابت الفطرة الإنسانية. ومن البواعث الفطرية للتّديّن ما يلي:

                  1ـ إن نزعة التدين ظهرت من غريزة التطلع إلى الغيب ومحاولة معرفة الحقيقة الرابضة وراءه وعدم الوقوف عند حدود الواقع الحسي، والعودة إلى التأمل في المسائل الأزلية، لم خلق الإنسان؟ ومن خلقه؟ ولم خلق الكون؟ ومتى؟ ومن خلقه؟ وما هو مبدأ الإنسان؟ وما هي غايته وهدفه؟ وإلى أين يسير؟ وما هي نهاية الكون؟ وما هو مصير الإنسان؟ وماذا بعد الموت؟ وغير ذلك من الأسئلة التي تدفع الإنسان إلى الإيمان بالله، وإلى البحث والنظر والسعي والعلم والاكتشاف، وهذا التطلع والتأمل في هذه القضايا الغيبية كانت ولا زالت وستبقى الشغل الشاغل للإنسان، ويريد الوصول إلى اليقين أمام مشكلات الكون الكبرى، مما تقدمت به المدنية وتعددت الاكتشافات وترقى العلم، لأن العلم عاجز قطعاً عن الإجابة عن هذه الأسئلة وأنه مقيد بكشف نواميس الكون دون أن يغير منها شيئاً، وأن مجاله محدد في النواحي المادية التي وضعت تحت حواسه.

                  ـ العجز المتأصل في الإنسان وحاجته إلى قوة جبارة تنقذه من الهلاك وتعينه وقت الشدة ويستغيث بها وقت الضيق فتنجده وتخرجه من المأزق وتقدم له العون عند الحاجة وهذا العجز موجود في كل نفس، ويلمسه الإنسان في نفسه ويسمعه من غيره. 

                  هذا الشعور النفسي بوجود المنقذ من الهلاك والحزن والكرب، إما أن يبقى مع الإنسان فيكون مؤمناً وإما أن يتنكر له، ويجحد هذا الفضل، ويعرض عن ربه، فيكون كافراً وملحداً وضالاً، 

                  ـ ومن البواعث الفطرية إلى التدين الإحساس بالرهبة أمام هذا الكون العظيم وما يجري فيه مما يحرك أحاسيس الإنسان ويوقظ مداركه ويدفع عقله بالغريزة والفطرة ليبحث عن خالق الكون فيأنس به ويطمئن قلبه عنده، ويهدأ روعه وخوفه، ويأمن جانبه ويعقد أواصر التقرب له، ثم يقدم الطاعة والعبادة لعظمته وهذا هو الدين.. ولقد لفت القرآن الكريم النظر في آيات متعددة إلى هذا الكون وما فيه من أجرام ومشاهد ومخلوقات تستحق الوقوف أمامها، ويقف الإنسان عندها مشدوهاً عاجزاً لا يملك حراكاً ولا عطاء،

                  ـ ومن أبرز البواعث الفطرية للتدين.. الموت الذي يردع الأحياء ويهزهم إلى الأعماق وينبه فيهم القوى المعطلة والأجهزة المتجمدة والإحساس المخدر ويزيل من أمامهم الحجب ويكشف لهم الطريق ويذهب الغبش عن العين فيصحو الإنسان على نفسه ويتفكر بحياته ويبحث عن الهدف من الحياة ويستطلع ما بعد الموت ويدرك تماماً قيمة الحياة الآخرة وتفاهة الدنيا وأنها متاع قليل وأن الكمال الحقيقي الذي يتفق مع تكريم الإنسان وتفضيله على سائر المخلوقات أن تكون نفسه وروحه باقية بعد الموت وأن لها حياة أخرى بعد هذه الحياة يلتقي فيها الأحبة والخلان وفيها يحاسب كل إنسان على عمله فتتحقق العدالة المطلقة ويلقى كل إنسان جزاء عمله إن خيراً فخير وإن شراً فشر. 

                  ـ التأمل في نظام الكون وأجزائه والتفكر في المخلوقات بدءاً من الإنسان وتكوينه وأعضائه وأجهزته وانتهاء بالنجوم والمجرات وطبقات الأرض... والذي ينتهي إلى اكتشاف عظمة هذا الكون ونظامه الدقيق فيضع المتأمل أمام القدرة الخالقة للكون، فيشعر بالحاجة إليه وإلى تقديسه وعبادته. 

المصادر  ومراجع المحاضرة:
ـ قصة الحضارة ـ ول ديورانت ج1 ـ دار الجيل ـ بيروت.
ـ  كتاب (الدين) ـ د. محمد عبد الله دراز ـ دار القلم ـ الكويت.
ـ انظر الدراسة التي أعدتها مجلة روزليوسف حول هذا الموضوع في عدديها الصادرين بتاريخ 3+10/12/2004. مع العلم ان هذه المجلة ذات نزعة علمانية استئصالية 
ـ  وظيفة الدين في الحياة وحاجة الناس إليه ـ د. محمد الزحيلي ـ منشورات جمعية الدعوة الإسلامية ـ ليبيا.
ـ انظر كذلك إلى ما ذكره الدكتور محمد إقبال في كتابه (تجديد الفكر الديني في الإسلام) عن الفلسفة المدرسية حيث ذهب إلى أن لوجود الله ثلاثة أدلة تعرف بـ: الدليل الكوني ودليل العلة الغائية والدليل الوجودي.
ـ  نشأة الدين ـ د. علي سامي نشار ـ ص 6-7 ـ مركز الإنماء ـ حلب.
ـ عقائد المفكرين في القرن العشرين ـ عباس محمود العقاد ـ ص 36 ـ دار الكتاب العربي ـ بيروت.
ـ  تهافت الفلاسفة للإمام أبي حامد الغزالي: د. صلاح الدين الهواري ـ المكتبة العصرية ـ لبنان.
ـ تاريخ العلم ـ د. جورج سارتون ج 3 ـ دار المعارف ـ القاهرة.

المحاضرة الثانية:

تاريخية فلسفة الدين: من الفلسفة والدين إلى فلسفة الدين.

                  إن استقراء تاريخ الفكر الفلسفي يكشف عن الحضور الدائم للفكرة الدينية في تفكير الفلاسفة، حيث بُحث موضوع الدين في الفلسفة اليونانية والفلسفة الإسلامية والفلسفة المسيحية واليهودية في العصور الوسطى، ولم نشهد لحظة من تاريخ الفكر الفلسفي الا وفيها تصور أو بحث حول الدين، لكن ظلت هذه الأبحاث متناثرة ولم تخرج عن كونها لاهوتاً في بعض الأحيان، أو نقداً لجانب معين من الدين في أحيان أخرى . وهي لا ترقى لتشكيل بحث منظم و نسقي نسميه(فلسفة دين)، لذلك لم يظهر البحث الفلسفي المنظم والنسقي في الدين من حيث هو دين، و كميدان معرفي مستقل عن سائر فروع الفلسفة، الا في نهاية القرن الثامن عشر، حيث ظهرت اطروحة فلسفة الدي وهي نوع من الفلسفة تعتمد على العقل في بحث المقدسات والمعتقدات والظواهر الدينية وتحليلها وتفسيرها في محاولة لشرح بواعث الدين في الروح والنفس والعقل، وكذلك البحث في نشأة المقدس وتجلياته في حياة الإنسان وصيرورته وتحولاته في المجتمعات البشرية، فظهور مصطلح "فلسفة الدين" في التداول الفكري الغربي أواخر القرن الثامن عشر، جاء ليحل محل مصطلح الإلهيات، وهو العلم الذي يحاول فيه أصحابه أن يحللوا منطقياً حجج وجود الإله أو الله الواحد عن طريق النقاش والمجادلة، ويستخدم هذا العلم عادة لإضفاء معقولية وعقلانية على العقائد الدينية باختلافها، فسابقاً كانت فلسفة الدين جزءاً من ما بعد الطبيعة عند القدماء، ثم استقلت عنها وكانت عند بعض أتباعها حرباً على الأديان وعند بعضهم الآخر تأييداً للعقائد الدينية وتدعيماً لتعاليمها، لكن طبيعة التغيرات التي طرأت على الفكر الغربي، وعلى إطاريه الاجتماعي والتاريخي منذ عصر النهضة (وبخاصة حركة الإصلاح الديني والنزعة الإنسانية في القرن الخامس عشر الميلادي) حتى عصر التنوير الأوربي( في القرن الثامن عشر الميلادي ) الذي جعل العقل الإنساني معياراً في مختلف المعارف والفنون ...، قد أثرت تأثيراً بالغاً على تطور اللاهوت الغربي، لذا نستطيع القول ان سبب ظهور اختصاص جديد تحت عنوان فلسفة الدين يحتاج الى تبرير ومعرفة سبب ظهوره كميدان مستقل في البحث الفلسفي؟ ، 

وفي هذا السياق؛ ظهرت أطروحتان فلسفيتان لتفسير وتبرير  ظهور فلسفة الدين بشكل مستقل ، هما:

                  الأولى: وترى أن وجود تنظير لموضوعات فلسفة الدين وإيجاد نظريات في هذا المجال، ما هو إلا خلاصة لمساعي المتألهين المحدثين الرامية إلى عصرنة الأفكار والحياة الدينية ، فكان من الضروري ظهور ثورة تجديدية في الإلهيات المسيحية  .

                 و الثانية : ترى ان اثر الظروف الفكرية والثقافية الخاصة التي هيمنت على المناخ الغربي في حينه . واهتمام الفلاسفة بالحقل الديني وبحث عدة موضوعات ، انما انبثق عن التحول الفكري الذي تجلى في مرحلة الحداثة . وهذه المرحلة التي بدأت منذ القرن السابع عشر تقريباً تشتمل على خصيصتين رئيستين هما (محورية الإنسان) و (التعويل على العقل) ، فجاء نتاج فلسفة الدين كمحاولة منها لعقلنة الدين ، والاقتراب كثيراً من الإنسان بوصفه المركز في هذا الوجود .

 ومن خلال هذين الطرحن تبدو الأطروحة الثانية، هي الاقرب الى الموضوعية ، وما يدلل على ذلك؛ أن كانط الفيلسوف الألماني في كتابه ((الدين في حدود العقل وحده)) يقول : ( في مقابل اللاهوت الخاص بالكتاب المقدس يوجد لاهوت فلسفي داخل حدود العقل بمجرّده، حيث يستخدم في قضاياه التاريخ واللغات وكتب الشعوب جميعها حتى الكتاب المقدس، الا انه يفعل ذلك كما يقول كانط (من اجل ذاته)، فاللاهوت الكتابي يتحول إلى لاهوت فلسفي عندما ينظر الى موضوعاته بنور العقل وحده ، ويعبر عنه كانط بالبحث الفلسفي في الدين. وهذا دلالة على نشوء فلسفة الدين في القرن الثامن عشر في حقبة التنوير الإنساني وكذلك مع حقبة الحداثة بوصفها داعمة لعقلنة الحياة ...، ويمكننا أن نبرز القرن الممتد تقريباً من عام 1730م حتى عام 1830م ، هو مرحلة تشكل النظريات الفلسفية حيال الدين، وتمتد هذه المرحلة من التأملات الباكرة لهيوم في مشكلات الدين، وحتى محاضرات هيغل الأخيرة في فلسفة الدين، وتتوسط المكان بينهما، بحسب الترتيب الزمني وبحسب الموضوع، فلسفة الدين عند كانط . إن هؤلاء الفلاسفة بالذات هم من وضع الأسس الكلاسيكية للنظريات الفلسفية المعاصرة حول الدين .

                  وقد اختلف الباحثون في فلسفة الدين حول سؤال تأسيسها ، فمنهم من يتفق مع نشأة فلسفة الدين وتقعيدها مع الفيلسوف الالماني عمانؤيل كانط ، وذكرنا قوله أعلاه. ومنهم من يرى ان بينيديكت سبينوزا هو مؤسس فلسفة الدين بالمعنى المعاصر ، فالشروط من أجل بحث فلسفي للدين نجدها لأول مرة، وعلى وجه الإجمال، عند سبينوزا... فمن هنا تبدأ المرحلة الأولى من تاريخ فلسفة الدين، التي ينبغي لنا أن نسميها تبعاً لموقف الفكر النقدي من الدين الوضعي مرحلة فلسفة الدين النقدية.

                  إلا معظم الفلاسفة اللاحقون يميلون الى الرأي الأول القائل بأسبقية عمانؤيل كانط في بحث موضوع فلسفة الدين، اذ قدم تفسيراً عقلانياً نقدياً للدين بشكل كلي ، من منظور العقل النظري والعقل العملي ، وأخضع فيه المعتقدات الدينية والعلاقة بين الإنسان والله كما يقدمها الدين للبحث الفلسفي المستفيض ، محكماً المعايير العقلية وحدها . لكن بالمجمل ومن حيث المساحة العامة بدأت موضوعات فلسفة الدين مع حقبة الحداثة ومع فلاسفة التنوير وبقي حالها حتى استقرت مع القرن التاسع عشر واستمرت النتاجات حتى مع الفلاسفة المعاصرين .

                  اما فيما يتعلق بالتحديد الاصطلحي لـ (( فلسفة الدين ))،  فلم يظهر إلا في بداية القرن التاسع عشر ، حيث بدأ شيوعه واستخدامه للدلالة على مجال فلسفي مستقل ومنفصل ، ويرجع الفضل في هذا الى حد كبير للفيلسوف الألماني هيجل في كتابه ((محاضرات في فلسفة الدين )) (المنشور سنة 1832 ومابعدها)، إذ ألقاها هيجل كمحاضرات على طلابه قبل ذلك عام 1821م ، وعام 1824م ، وعام 1827م، وعام 1831م ، وهي سنة وفاته، وان كان هناك رأي أخر يرى ان أول من استخدم هذا المصطلح في القرن التاسع عشر الميلادي، هو برجر (Berger  ) عالم الاجتماع الديني الالماني، ولكونه متخصصا في علم الاجتماع الديني لذا لم يقدم فلسفة الدين بطريقة صحيحة بحسب قول بعض النقاد، لذا نميل الى كفة هيجل في عرض المصطلح.. 

                  وهكذا تعاقبت النتاجات في ما بعد ، إذ جاء الفيلسوف الألماني شيلنج ليبحث في فلسفة الدين في كتابه ((محاضرات في الوحي والأساطير)) سنة 1843م . 

                  وكتب جوان ستيوارت مل ثلاثة مقالات في الدين ونشرت بعد وفاته سنة 1874م وهكذا بدأت بحوث فلسفة الدين تأخذ طريقها وصولاً إلى القرن العشرين ، حيث بدأ التدفق في الإنتاج الفلسفي حول الدين ، سواء كنصوص فلسفية ، أو كدراسات بحثية عن انتاج الفلاسفة ، ففي عام 1901م أصدر هوفدينج الفيلسوف الدنماركي كتابا بعنوان( فلسفة الدين )، وكذلك وليام جيمس القى عدة محاضرات في 1901ــ 1902م ونشرت بعنوان(تنوعات الخبرة الدينية) وعمل على قراءة الخبرة الدينية من منظور نفسي وفلسفي في آن واحد.

                  وهكذا استمر النتاج الفلسفي في حقل فلسفة الدين مع تنوع الموضوعات وتعدد اشكاليتها المعاصرة في مجالات متعددة حتى يومنا هذا، فالموضوعات ومسائل تكاد تستحدث بين الحين والآخر، فسؤال فلسفة الدين متطور دائما. 

 مراجع المحاضرة:

عبد الجبار الرفاعي: فلسفة الدين / تمهيد تاريخي ، بحث ضمن كتاب : تمهيد لدراسة فلسفة الدين، دار التنوير للطباعة والنشر ، بيروت ــ لبنان ، ط1 ، 2014.

ـ محمد عثمان الخشت : فلسفة الدين . مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث. 2001.

ـ يُنظر إدالكوس ، د. عبد الله : الإنسان في فلسفة الدين: دراسة في الأسس التصورية/ بحث منشور في موقع مؤمنون بلا حدود http://www.mominoun.com . 7/9/2014 . وكذلك يُنظر بشروئي، سهيل و مسعودي ، مرداد: تراثنا الروحي من بدايات التاريخ إلى الأديان المعاصرة ، ترجمة محمد غنيم ، ط1 ، دار الساقي ، بيروت ــ لبنان ،2012م ، ص39 ــ44 

ـ الطويل ، توفيق : أسس الفلسفة ، ط4 ، دار النهضة العربية ــ القاهرة ، 1964.

ـ سولمون ، روبرت س : الدين من منظور فلسفي (دراسة ونصوص ) ، ط1 ، العارف للمطبوعات ،بيروت، 2009.

ــ قراملكي  أحمد : الهندسة المعرفية لعلم الكلام الجديد ، ترجمة حيدر نجف وحسن العمري ، مراجعة عبدالجبار الرفاعي ، ط1 ، دار الهادي ــ بيروت ، 20023. 

ــ شيرواني علي : التجربة الدينية ، مجلة قضايا إسلامية معاصرة ،ـ العدد 51ــــ52.

ـ كانط ، إيمانويل : الدين في حدود مجرّد العقل ، ترجمة فتحي المسكيني ، دار جداول ، بيروت ـ لبنان ، ط1.

ــ محمد عثمان الخشت : فلسفة الدين ، مرجع سابق.

ـ  كميليف، يوري أناتوليفتش : فلسفة الدين الغربية المعاصرة، ترجمة هيثم صعب . ص7_9، الهيئة العامة السورية للكتاب /سلسلة الكتاب الالكتروني للنشر   http://www.syrbook.

 

المحاضرة الثالثة:

 إشكالية علاقة الدين بالفلسفة

تمهيد:

            من المسلّم به تاريخيا أن الفكر الفلسفي نشأ وتشكل داخل الفضاء الديني. وقد كان نتيجة ذلك؛ الارتباط وثيقا بين الفلسفة والدين إلى التلاحم والتداخل، ويؤكد هذه المسلمة التاريخية المقولة الشهيرة: "إن الفلسفة بنت الدين وأم العلم". ويتجسد هذا التفاعل أول ما يتجسد في الهدف المعرفي المشترك بينهما: فالفلسفة تتطلع إلى "معرفة أصل الوجود وغايته، ومعرفة سبيل السعادة الإنسانية في العاجل والآجل. وهذان المطلبان اللذان يشكلان موضوع الفلسفة النظرية والعملية، هما موضوعا الدين بمعناه الشامل".

                  ومقابل علاقة التداخل بين الفلسفة والدين، فإن ثمة فرق بينهما يحد طبيعة كل منهما ويميّزه. وهو فرق من حيث وسيلة المعرفة لكل منهما. فوسيلة الفلسفة في المعرفة هي العقل، أما الدين يعتمد الوحي وسيلة للمعرفة.

                  وقد أسس هذا الفرق بين الفلسفة والدين لإشكالية طبيعة العلاقة القائمة بينهما. حيث إن الاشتراك في وحدة الهدف بينهما بالضرورة التوافق بينهما، فهما قد يتوافقان وقد يتعارضان، وقد يتوافقان في مواطن ويتعارضان في أخرى. وقد قدّم الفلاسفة في هذا السياق تصورات فلسفية مختلفة للعلاقة بين الدين والفلسفة, ولعل أهمها، تصور كانط، وتصور هيجل.

1 ـ الصور الكانطي لعلاقة الدين بالفلسفة:

            يذهب كانط إلى أن الفلسفة تعارض الدين في معناه الحرفي، إلا أنه من خلال التأويل العقلاني المحض للكتب المقدسة؛ يمكن للدين أن يلتقي مع الفلسفة في نظره. ولكن الإنسان حينما يعمل عقله في بعض الأديان يصطدم بما يعارض إمكانية الوصول إلى عقيدة عقلية. وفي هذا السياق يرى كانط ضرورة تطهير العقيدة من كل ما يمكن أن يتعارض مع العقل المحض. والسبيل إلى ذلك؛ هو اللجوء إلى تأويل نصوص الكتاب. وقد قام كانط، فعليا، بتأويل العهد الجديد تأويلا عقليا محضا، استطاع من خلاله أن يطهر العقيدة الكنسية من كل ما يمكن أن يكون مضادا للنزعة العقلية.

                  ولا يكتفي كانط بالمرجعية العقلية في مسألة تأويل النص الديني بما لا يتعارض مع المنطق الفلسفي، بل يلجأ إلى الحجة التاريخية لإثبات إمكانية التوافق بين المعقول الفلسفي والمنقول الديني. فيذكّر في هذا السياق بما سعت إليه المؤسسات الدينية من فهم للوحي على نحو يجعله متفقا مع القواعد العملية العامة للدين العقلي المحض. وإذا عدنا إلى تاريخ الحركة التأويلية للأديان، نلاحظ حدوث هذا الأمر مع جميع المعتقدات القديمة والحديثة. "وأن بعض الشعوب العاقلة الحكيمة قد قامت بتأويلها تأويلا جعلها متوافقة في مضمونها الأساسي مع الأسس العامة للاعتقاد الأخلاقي. وقد قام فلاسفة أخلاقيون في اليونان ومن بعدهم الرومان بتأويل أساطيرهم الخرافية، وانتهوا إلى تأويل الشرك المفرط بأنه مجرد تمثيل رمزي لصفات الإله الواحد الأحد".

                  ومن هنا؛ فإن الحجة التاريخية تكشف عن ضرورة تأويل النصوص الدينية بما يتفق مع العقل.

2 ـ التصور الهيجلي لعلاقة الفلسفة بالدين:

            إن لهيجل تصور مختلف عن تصور كانط حول علاقة الفلسفة بالدين. حيث يرى أن الدين يقع بين الفن والفلسفة. ومفاد تصوره هذا؛ أن الروح المطلق(الله) يظهر بثلاث طرق مختلفة في الفن والدين والفلسفة:

                  1 ـ فهو أولا يظهر في الفن بطريقة حسية من خلال الصور والتماثيل التي تعبّر  عن المطلق على أنه موضوع حسي وليس روحا، مثلما يظهر  في فنون الديانات الوثنية. لكن الروح المطلق بوصفه روحا لا يمكن أن يتجلى على نحو كاف في الصورة الحسية، لأن هذه الأخيرة لا تعبر  عن حقيقة ما هو روحي تعبيرا كاملا. ومن هنا فإن الفن يظل يعاني تناقضا داخليا، لا يحل إلا في الدين

                  2 ـ وهو يظهر ثانيا في الدين بطريقة تمثيلية مجازية رمزية من خلال اللغة المعتمدة على الاستعارات والكنايات والتشبيهات. والدين لا يدرك موضوعه على أنه موضوعا حسيا أو موضوعا عقليا خالصا، وإنما يدركه على أنه أمر بين الحس والعقل الخالص، يسميه هيجل بالتمثيل. ولذلك، فالدين يقع في مرحلة وسطى يعبر عن الحقيقة بشكل مجازي تمثيلي تصويري.

                  3 ثم يظهر ثالثا في الفلسفة بشكل مجرد من خلال الفكر الخالص الذي يعبر عن نفسه بلغة مجردة. وإذا كان الروح المطلق يرتدي في الدين شكلا خاصا يمكنه أن يكون ملموسا ويتخذ من التمثيل مقرا له، فإنه في الفلسفة، يتخذ من الفكر مقرا له وتعبيرا عنه. : وبهذا تختلف الفلسفة عن الدين، رغم أن المضمون مشترك وموحد فيهما.

                  وعلى هذا الأساس يقارن هيجل بين موضع الفلسفة وموضوع الدين، ويرى أن الموضوع واحد، وهو المطلق أو اللامتناهي، لكن الخلاف بينهما يكمن في شكل التعبير. ففي حين تعبر الفلسفة بشكل فكري مجرد، يعبر الدين بشكل مجازي.

                  والأنسان الذي يدرك الدين عقلا ويتمثله روحا يمر بلحظتين في علاقته بالروح المطلق ـ في نظر هيجل ـ أولهما: يكون فيها الإنسان بعيد عن الروح المطلق، ومنفصلا عنه، وثانيهما: يكون فيها الإنسان متوافقا مع الروح المطلق، وهي لحظة الخشوع.

                  وما يشكل في الدين لحظتين، لا يشكل إلا لحظة احدة في الفلسفة، لأن في الفلسفة؛ الروح يفكر في الروح مباشرة. وفي اعتقاد هيجل؛ أن "فضل الفلسفة يمكن في أنها توحد ما هو مفصول في الدين.

                  وبناء على ذلك، فإن علاقة الدين بالفلسفة ـ من الناحية الفكرية النظرية، عند هيجل، تمر بالمراحل التالية:

1 ـ في بداية الوعي الإنساني لا يكون هناك تعارض بين الدين والفلسفة.

2 ـ بعد أن تقوى الفلسفة يظهر التمثل الديني والفكر الفلسفي وكأنهما متعارضان عدوان، ولا يكونا واعيين إلا باختلافهما وعداوتهما.

3 ـ الفكر في مرحلة تالية يتعرف على نفسه في الدين، ويصل إلى مرتبة إدراك هذا الآخر كلحظة من ذاته.

                  وأما من الناحية التاريخية، فإن علاقة الدين بالفلسفة فقد مرت ـ في نظره ـ بالمراحل التالية:

1 ـ في بداية الحضارة الإغريقية ؛ كانت الفلسفة محصورة في دائرة الدين التي شكّلها الدين الشعبي.

2 ـ خرجت الفلسفة من دائرة الدين، من خلال: أـ تهجم أكسينوفان على تمثلات الدين الإغريقي. ب ـ اشتداد التعارض بينهما من خلال ظهور الفلسفات الملحدة. ج ـ هجوم أفلاطون على الأديان الأسطورية (ألهة هوميروس وهيزيود).

3 ـ لاحقا، اعتراف الأفلاطونيون الجدد بالمضمون العام للدين الشعبي. وتحويلهم للتمثلات الأسطورية إلى صور فكرية واستعمالها.

استنتاج:

            فما يميّز علاقة الفلسفة بالدين، إذن، هو ثنائية الاختلاف في مواطن التوافق في أخرى:

ففيما يخص اختلاف الفلسفة عن الدين نجد:

                  أولا: من حيث الموضوع

تهتم الفلسفة بدراسة القضايا المعرفية المجردة للوصول إلى جوهر الإنسان والقيم الجمالية والاخلاقية والحضارية، أما الدين فهو يدور حول علاقة الإنسان بالخالق، وطرق التقرب إلى الله بالعبادات والإيمان.

الحقائق الفلسفية نسبية يصل إليها كل فيلسوف حسب وجهة نظره في الفلسفة بشكل عام، أما الدين فهو حقيقة واحدة مطلقة غير قابلة للشك أو التعديل وهي وجود الله والدين هو تعاليم الله السماوية.

ثانيا: من حيث المنهج

الفلسفة تعتمد على التفكير العقلي للإنسان وما يصل من حقائق عبر تأملاته الشخصية والحجج العقلية التي يصل إليها في النهاية وتجعله مؤمنا بحقيقة معينة، أما الدين فهو يعتمد على التسليم بكل التعاليم الإلهية والإيمان الكامل بها.

الفلسفة تعتبر العقل هو الأساس وكل الأفكار قابلة للتفكير ولا يوجد مسلمات لأن كل شيء قابل للشك فيه، ولا يقتنع بشيء إلا عبر التفكير فيه عقليا والاقتناع به، أما الدين فإن الإيمان به يعني التسليم ببعض الأمور وعدم إخضاعها للعقل لأن مصدرها إلهي مثل الإيمان بالملائكة والديانات السماوية والرسل والديانات.

ثالثا: من حيث الغاية

                  إن الدين والفلسفة تجمعهما غاية واحدة ألا وهي إدراك الحقائق الكاملة مهما كانت الطريقة المتبعة: فالفلسفة تتطلع إلى "معرفة أصل الوجود وغايته، ومعرفة سبيل السعادة الإنسانية وهذان وهي نفس الغاية التي يسعى إليها الدين .

                  أما فيما يخص التوفيق بين الفلسفة والدين، فقد علماء الدين والفلاسفة إلى شكل جديد من الفلسفة يتفق مع تعاليم الدين ولا يتنافى مع أفكار ومبادئ الفلسفة، حيث أصبحت العلاقة التي تجمعهما؛ هي علاقة تكاملية تعتمد على حقيقتين رئيسيتين وهما:

إن الفلسفة والدية وجهان لعملة واحدة حيث أنهما يشتركان في الهدف والغاية، وهي البحث عن الحقيقة المطلقة والاستدلال على الله أو الصانع الأول عبر دراسة الموجودات، كما تتفق الفلسفة مع الدين في بحث كلا منهما عن السعادة عبر التفكير والبحث عن الحقيقة.

إن الأديان لا تعارض التفكير وإعمال العقل، فهي دائما ما دعت للتأمل والتفكير في الكون لإدراك عظمة الخالق وبلوغ الحقيقة وراء حياة الإنسان وحقيقته وعلاقته بالوجود، وهي نفس التساؤلات التي تبحث فيه.

 

مصادر ومراجع المحاضرة:

ـ محمد عثمان الخشت: "مدخل إلى فلسفة الدين"، دار قباء للنشر والتوزيع، القاهرة، 2001. 

ـ هيك ، جون : فلسفة الدين ، ترجمة طارق عسيلي ، دار المعارف الحكمية ــ بيروت، ط1، 2010. 

ـ كانط، إيمانويل: الدين في حدود مجرّد العقل، ترجمة فتحي المسكيني، دار جداول، بيروتـ لبنان، ط1، 2012.  

ـ فريدريك هيجل: محاضرات فلسفة الدين، الحلقة الاولى (مدخل الى فلسفة الدين )، ترجمة مجاهد عبد المنعم مجاهد، دار الكلمة، القاهرة، 2001. 

ـ سولمون روبرت س: الدين من منظور فلسفي (دراسة ونصوص )، ط1، العارف للمطبوعات، بيروت، 2009.

ـ الحيدري ، إحسان علي : فلسفة الدين في الفكر الغربي ، الرافدين للطباعة والنشر ، ـلبنان ، ط1، .2013.

ـ صعب ، اديب : المقدمة في فلسفة الدين ، دار النهار للنشر ، بيروت ، ط2 ، 1995.


المحاضرة الرابعة:

المقدس في الفكر الفلسفي المعاصر.

تمهيد: 

                  إن الإنسان في وجوده؛ محكوم بثنائية الغيب والواقع، وأنه في حياته الواقعية داخل عالم الشهادة أسير لمقدسات ومحرمات تمتلك الصفة الدينية وقوة التأثير على الوجدان والتفكير، وهي قوة ذات سلطة غيبية. والسؤال الذي يثار بداهة في هذا السياق؛ يتعلق بماهية ومصدرية المقدس. ولماذا وصف شيء أو ظاهرة ما بالمقدس؟ فعلى سبيل المثال، لماذا اعتبر هذا المكان وذلك الجبل مقدسا...؟ هذا السؤال؛ سؤال المقدس، طرح بحدة في الفكر الفلسفي الغربي المعاصر في سياق تنظيره ونقده لمسلمات الدين وقضاياه وتصورته الوجودية والمعرفية والقيمة. من منطلق أن "المقدس" يعتبر الفكرة الجوهرية في فلسفة الدين، بل تكاد تكون الفكرة المركزية التي تدور حولها كل فلسفة تتناول الدين بشكل عام

التحديدات الاصطلاحية والمفهومية لـ "المقدس": 

                  يتسم  مفهوم المقدس بتعدد وتنوع المرجعيات المعرفية والحقول العلمية في تحديده ومقاربته وتأويله، من أنثروبولوجية وفلسفية ودينية واجتماعية...  

                  "المقدس" في لسان العرب من قدس، تقديس، أي تنزيه الله عز وجل، وفي التهذيب : القدس تنزيه الله تعالى، وهو المتقدس القدوس المقدس. ويقال : القدوس فعول من القدس، وهو الطهارةوالتقديس: التطهير والتبريك، وتقدس أي تطهر.

                  وفي قاموسLe Petit Robert  يقال المقدس على ما ينتسب إلى «ميدان منفصل، محظور، منيع (غير قابل للاختراق)». ومفاد هذا  التعريف أن المقدس مرتبط بالأمر والنهي عن الاقتراب مما هو محضور. لأن الوقوع في المحضور يدنس قدسية المقدس (المنفصل)، فالمقدس دائما محل إجلال ديني، ولذلك فهو أهل للاحترام.

                  وفي موسوعة لالاند الفلسفية، يعتبر "المقدس" كل ما يتعين عليه أن يكون موضوع احترام ديني من قبل جماعة من المؤمنين.

                  وفي القاموس الانتروبولوجي، "المقدس" هو صفة يطلقها المجتمع على أشياء وأماكن وأعمال يعتبرها واجبة الاحترام، فيقيم لها طقوسا دينية لاعتقاده باتصالها بعبادة الإله، أو الآلهة، أو المعبودات والقوى فوق الطبيعية، أو لأنها ترمز إلى القيم الأساسية للمجتمع، ولهذا فهي مصونة من العبث أو التخريب. في كتابه le sacré et la violation des interdits، يعتبر الباحث الفرنسي ليفي ماكاريوس أن البحث في المقدس في ذاته إبطال لمفعول قدسيته، بل إنه شكل من أشكال انتهاك المحرم. بعبارة مغايرة، يحول البحث في المقدس، هذا الأخير، إلى موضوع شبيه بجميع موضوعات الفكر، يقال باللغة ويفكر بها وفيها، الأمر الذي يخضعه لمنطقها وعقلانيتها الداخلية. ومن ثم يدخل عليه ما هو غريب عنه، ومتعارض معه.

                  نفس التعريف نجده عند عالم الاجتماع إ. دوركايم، الذي حدد قدسية المقدس بما يعارضها بشكل كامل عن مجال المدنس، فبقدر ما يحيل المقدس داخل سياق تعارضه مع المدنس إلى ما هو طاهر وخالص، فإن المدنس يحيل إلى ما هو دنيوي ونجس.

                  إن المقدس في تصور إ.دوركايم متماثل مع الديني الذي يعتبر ابتكار جمعي، لذا فإنه مميز بالتعالي عن حياة الأفراد، وهو الوجه المفارق والمتعالي لحياة الجماعة الدنيوية، وبسبب سماته وخصائصه تلك، لا يستطيع التعايش مع ما يعارضه ويهدمه أي المدنس.

                  في نفس هذا الطرح الدوركايمي، يذهب مارسيل ماوس إلى القول بأن كل سؤال عن المقدس يتحول إلى سؤال عما يعارضه ويخالفه، وكل تعريف للمقدس يحيل إلى تعريف ما يعارضه، بل يصبح تعريفا لهذا الحد الذي نصطلح عليه بالمدنس.

                  وبهذا التحديد المفهومي للمقدس تتحدد وطبيعته وخصوصيته، حيث يرى الفلاسفة وعلماء الاجتماع أن القداسة شعور يتخلل سلوك الإنسان في جميع منظوماته الفكرية والمجتمعية والطبيعة الخارجية، فهي ليست مرحلة عاشها الإنسان. وإنما تتخلل كلًا من بنية الشعور الإنساني والزمان والمكان بمعنى آخر أفكارنا المقدسة قوة حدسية تنشأ من أعماق الشخصية.                

                  ولذلك؛ فالقدسي لا يتعلق بالكائن الأسمى فقط ولا يرتبط بظاهرة الألوهية وأولانية السامي فحسب، بل ينغرس في الظواهر النفسية والمجتمعية واللغوية ويتبدل بتغير الحقب التاريخية والعوامل الاقتصادية ويتنزل ضمن دائرة التقييم ومنطق التسويغ وجهات الحكم والنظرة المعيارية للعالم ويمثل استجابة لنداء أقاصي الوجود

                  ومقابل تعدد مفهوم المقدس، فإن هناك تعدد لمجالات تجلياته، تختلف من مجتمع لآخر، حيث تشمل على سبيل المثال لا الحصر الوجود الطبيعي (الأمكنة، الأنهار، والأشجار...)، وما فوق طبيعي ( الكائنات السماوية، والآلهة...)، وكذا الزمان ( كدورات الفصول، والليل...)، والأشخاص (كالأنبياء والصلحاء...)، وأخيرا اللغة والأساطير والشعائر والطقوس. فمجتمعات كالهندوس مثلا، يقدسون البقرة لأسباب دينية، لأنهم يشعرون حيالها بما يسمى ( الأهيمسا ahimsa)، وهو قانون أخلاقي يفرض تجنب إيقاع الأذى بأي كائن حي، أو قتله.

من مفهومية المقدس إلى تاريخية بحثه ودراسته:

                  لقد نالت فكرة "المقدس" اهتمام فلاسفة الدين، باعتباره قيمة دينية عليا، وتطورت دراساته بداية من القرن التاسع عشر لدى "شلير ماخر 1768 ـ 1834". ثم اهتم به "رودولف أوتو 1869 ـ 1937" في كتابه "فكرة القدسي"، وهو الكتاب الرائد الذي ترك أثرًا بالغًا في علم اللاهوت وفلسفة الدين، وقد كان له أثر واضح على "ميرسيا إلياد" في كتابه "المقدس والدنيوي"، وعلى فلاسفة الدين الذين تناولوا فكرة المقدس من وجهة نظر فينومينولوجية، مثل "ناتان سودربلن" و"بريد كرستنسن" و"جيرادروس فان دي ليو" و"جواشيم واتش".


                  وقد نالت فكرة "المقدس" اهتمام فلاسفة الدين، باعتبارها قيمة دينية عليا، وتطورت دراساتها بداية من القرن التاسع عشر لدى "شلير ماخر 1768 ـ 1834". ثم اهتم بها "رودولف أوتو 1869 ـ 1937" في كتابه "فكرة القدسي"، وهو الكتاب الرائد الذي ترك أثرًا بالغًا في علم اللاهوت وفلسفة الدين، وقد كان له أثر واضح على "ميرسيا إلياد" في كتابه "المقدس والدنيوي"، وعلى فلاسفة الدين الذين تناولوا فكرة المقدس من وجهة نظر فينومينولوجية، مثل "ناتان سودربلن" و"بريد كرستنسن" و"جيرادروس فان دي ليو" و"جواشيم واتش".

                  أما عن بحث إشكالية "المقدس" من المنظور العلمي، فقد حضي باهتمام واسع في الحقول الاجتماعية والسيكولوجية والأنثروبولوجية: فهذا دوركايم يربط المقدس بالديني و يعتبره ابتكارا جمعيا، وأنه مميز بالتعالي عن حياة الأفراد، وهو الوجه المفارق والمتعالي لحياة الجماعة الدنيوية، وبسبب سماته وخصائصه تلك، لا يستطيع التعايش مع ما يعارضه ويهدمه وهو المدنس. ومن هنا جاءت الدراسة السوسيولوجية لدى دروكايم لترسي الحدود بوضوح بين ما هو مقدس وما هو مدنس.

                  و في هذه الدراسة التأسيسية النظرية، عاد إميل دوركايم Emile Durkheim ومدرسته. إلى الأشكال الأولية للحياة الدينية Les formes élémentaires de la vie religieuse، وعمق بحثه عن الأديان البدائية الأسترالية وبحث عن الأساس السوسيولوجي للديني؛ وقد جمع، في فعله هذا، بحو ًثا عدة حول معان مختلفة تنطبق عليها لفظة مقدس، ومن ثم اتخذ المصطلح دلالات متمايزة. فالصيغة، التي بقيت مشهورة، والتي عليها يفتح الكتاب تعرف المقدس بتعارض مع الدنيوي، ذلك أن «الأشياء المقدسة هي تلك التي تحميها المحظورات وتعزلها»، والمدنسة هي ما «تنطبق عليها هذه المحظورات والتي ينبغي أن تظل بعيدة عن الأولى». إ ّن صياغة كهذه تتيح تعريف المقدس دون المرور عبر معنى الدين، ومن ثّم، وفي مرحلة ثانية، تعريف الديني بوصفه تسيًير ا للمقدس. 

                  هناك دلالة ثانية، وليست هي الأدنى، ُتنسب من طرف دوركايم للمقدس، هي تلك الخاصة «بقوة لا شخصية ومنتشرة» التي نجدها، في الحالة الأسترالية، ضمن الكائنات الطوطمية. في هذه المصطلحات، لم يعد المقدس فقط مجرد مفهوم تحليلي، بل حقيقة متعالية يمكن للإنسان أن يجربها: الذوبان داخل جماعة، أثناء تجربة طقسية، يكون على سبيل المثال المشاركة في هذه القوة اللاشخصية. هنا إذن لم تعد المسألة متعلقة بتعارض أولي بين مقدس ومدنس، إنما المقدس بوصفه موضوع تجربة متعالية؛ وحسب دوركايم، كل كائن بشري بمستطاعه أن يقوم بتجربة هذا المقدس، على اعتبار أ ّن مرجع التعالي هنا هو المجتمع، بالمعنى الذي يكون فيه تعاليها لوعي الأفراد الذين تشكلهم 

                  وقد عملت الأبحاث الكثيرة التي جاءت بعد إ.دوركايم على رفع التعارض بين المقدس والمدنس من جهة، ومن جهة أخرى، على فك وصال التماهي بين المقدس والديني، من دون نفي العلاقات والتشاركات الحاصلة بينهما. حيث نجد من الباحثين من يؤكد على الانفصال التاريخي بين المقدس والمؤسسات الدينية، مثلما نجد من يؤكد أن الديني لا ينشئ المقدس ويؤسسه، بل يحاربه من دون هوادة.

 

                  في سياق هدم هذه الهوة التعارضية بين المقدس والمدنس، ورفع التماهي والمماثلة بين المقدس والديني، اعتبر ايفانس بريتشارد أن العلاقة بين المقدس والمدنس حركية ومطاطية، وليست تعارضية ومتوازية، فما يعتبر مقدسا في مجتمع معين، يكون مدنسا في مجتمع أخر والعكس صحيح.

                  إن المؤرخ وأنثربولوجي الديني ألفونس ديبرون Alphonse Dupront، في دراسة ضخمة حول التمظهرات المقدسة في العصر الوسيط المسيحي، يقترح مقاربات مثيرة لهذين المعنيين. فقد تصور التقديس مثل عملية يصير أثناءها المقدس مصطلًحا وموضوًعا، ومن ثّم فالقداسة «عمل إنساني مشروع....حيث تنفجر وأحياًنا تشتد الحاجة إلى المقدس

                  في نفس المنحى، استعمل ميرسيا الياد لفظ التجلي، الذي سمح بتجاوز الثنائيات التعارضية، ومن تم إعلان أشكال التواصل القائمة بين المقدس والمدنس. فالمقدس هو فقط تجلي للديني في الزمان والمكان والسلوك والعمران والهندسة والطبيعة...الخ، ومن حيث هو كذلك تظل إمكانية العبور من المدنس إلى المقدس، ومن المقدس إلى المدنس حاضرة على الدوام.

استنتاج حول القيمة المعرفية لمساءلة الفلسفة لموضوع المقدس:

                  إن القيمة  الإبستيمولوجية والمنهجية لفكرة "القداس" في سياق اهتمام الفكر الفلسفي المعاصر  ببحثها، تظهر في محاولة التوفيق بين الدين والعقل من خلال إسقاط صفة التقديس على أمكنة وأزمنة وأدوات مختلفة لمحاولة إدراك المقدس، بطريقة غير مباشرة، ولكن لا يمكن أن يخضع المقدس كلية إلى العقل أو الحدس، ولذلك يلجأ الإنسان بطريقة غير ملموسة في الذات من جانب الفرد إلى إخضاع بعض الأزمنة والأماكن لخدمة إدراك المقدس، فيضفي على تلك الأزمنة والأماكن معنى قدسيًا فيحوّل الدنيوي إلى مقدس.

مراجع المحاضرة:

ـ مجموعة مؤلّفين: "فلسفة الدين، مقول المقدّس بين الايديولوجيا واليوتوبيا وسؤال التعددية"، إشراف على عبود ـ ـ ـ ـ المحمداوي، عن منشورات دار الاختلاف والضفاف ودار الأمان، الجزائر، 2012

ـ ابن منظور:  "لسان العرب "

ـ موسوعة لالاند الفلسفية، المجلد الثالث، منشورات عويدات، بيروت ، تعريب خليل أجمد خليل، الطبعةالثانية،2001
ـ شاكر مصطفى سليم، قاموس الانتروبولوجيا، جامعة الكويت، الطبعة الأولى، 1981،

ـ نور الدين الزاهي، المقدس الإسلامي، دار توبقال للنشر، الطبعة الأولى 2005،

ـ سجمود فرويد، الطوطم والتابو، ترجمة بوعلي ياسين، دار الحوار للنشر والتوزيع اللاذقية سوريا،1971 

ـ  ميرسيا إلياد: ملامح من الأسطورة، ترجمة حسيب كاسوحة، منشورات وزارة الثقافة، دمشق، 1995.

ـ مرسيا إليادالمقدس والمدنس، ترجمة، عبد الهادي عباس، دار دمشق، ط1، دمشق، 8891 

ـ فراس السواحمغامرة العقل الأول، ط2، دار الكلمة للنشر، بيروت،