جامعة حسيبة بن بوعلي الشلف

كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية

قسم العلوم الاجتماعية

شعبة الفلسفة

 

محاضرات في مقياس الفلسفة الإسلامية

لطلبة السنة الثانية ليسانس

من إعداد الدكتور: معمر جلول خدّة



 

 

المحاضرة الأولى: الفلسفة الإسلامية النشأة والتاريخ. 3

المحاضرة الثانية: عوامل نشأة التفكير العقلي عند المسلمين. 4

المحاضرة الثالثة: تابع عوامل نشأة الفلسفة الإسلامي. 6

المحاضرة الثالثة: الفلسفة الإسلامية ومنزلتها من الفكر الفلسفي الإنساني. 7

المحاضرة الرابعة: الاجتهاد الفقهي وظاهرة الاختلاف.. 9

المحاضرة الخامسة: حركة الترجمة والنقل: 12

المحاضرة السادسة: المحور الثاني (الفلسفة وقضاياها) 14

المحاضرة السابعة: تابع قضايا الفلسفة الإسلامية 18

المحاضرة الثامنة: تابع  قضايا الفلسفة الإسلامية 21

المحاضرة التاسعة: التصوف.. 23

المحاضرة العاشرة: مراحل التصوف وتطوره : 26

المحاضرة الحادية عشر: طرق التصوف (بوصفه تجربة ذاتية) 32

 

 

 

 


 

 

المحاضرة الأولى: الفلسفة الإسلامية النشأة والتاريخ

إذا كانت الفلسفة اليونانية هي الصورة الكاملة الأولى للفكر الفلسفي الإنساني. فهل تعد الفلسفة الإسلامية مجرد استمرار للحركة الفلسفية عند اليونان أم أنها إنتاج عقلي أصيل ينتمي إلى البيئة التي أصدرته بأكثر من سبب؟ بمعنى آخر: هل أسس المسلمون لفلسفة أصيلة أم أنهم كانوا مجرد ناقلين للتراث اليوناني؟ وإذا كان للمسلمين فلسفة فما هي الفلسفة الإسلامية؟ وما هي العوامل التي أدت إلى نشوئها؟ 

1 ـــ مفهوم الفلسفة الإسلامية: إنّ الفلسفة الإسلامية فلسفة مؤمنة مبنية على أساس عقيدة التوحيد، وعلى الإسلام كمرجعية دينية؛ لذلك فهي تعبر عمّا أنتجه فلاسفة الإسلام ومفكروهم من إبداع ثقافي، وفلسفي يعبران عن نمط حضارة متميزة.

لكن وجب علينا أن لا نخلط بين ما أنتجه أهل الإسلام في شتى الميادين العلمية والشرعية المتعلقة بضرورة الواقع والحياة، وبين الإنتاج الفلسفي المتعلق بمجال التأمل في الخلق والخالق ، ومحاولات فهم مظاهر الوجود والحياة والمصير، وإمكانية التوفيق بين متطلبات الوحي واجتهاد العقل.

لهذا فالفلسفة الإسلامية، فلسفة متميّزة من حيث الشكل والمضمون، لأنها معبرة عن روح عصرها، ومناقشة للقضايا التي أثيرت فيه، فهي ليست كما يذهب بعض المستشرقين – بوصفها- "أنها شارحة لأفكار اليونان ، وتمثالاً محنطاً لما ذهبوا إليه، دون نكران استفادتها من أفكارهم ، فالفكر تواصل عالمي بين الأجيال.

وفي هذا السياق يقول الدكتور محمد عبد الرحمن مرحبا في كتابه « من الفلسفة اليونانية إلى الفلسفة الإسلامية» ص 352: «إنه وإن نفذت إلى الثقافة الإسلامية تيارات مختلفة ، اجتمعت فيها ، وتفاعلت معها إلآ أنها مع ذلك أنبتت نباتا جديدا طيّبا، لا هو باليوناني ولا هو بالفارسي ولا هو بالهندي ، إنه نبات عربي إسلامي له طابعه الخاص، الذي لا يقلل من شأنه – استفادته من غيره ــ لأنّ الفلاسفة الإسلاميين يخالفون الفلاسفة اليونان في المفاهيم  والأدلة والغاية، وليس هذا الخلاف من وجهة نظر الدين وحده، بل هو في بعض المسائل الكبرى خلاف عقلي فلسفي من الطراز الأول...»

وعليه فالفلسفة الإسلامية مختلفة عن فلسفة اليونان بمميزاتها وخصائصها ، برغم استفادتها من تيارات التراث الفلسفي اليوناني  وغيره ، وهذا ما يضعنا أمام التساؤل عن الدوافع التي حركت هذه الفلسفة والعوامل التي أدت إلى نشأنها.


 

 

المحاضرة الثانية: عوامل نشأة التفكير العقلي عند المسلمين

أولا: العوامل الداخلية:

إنَّ تفحص واقع العرب قبل مجيء الإسلام، وطريقة عيشهم وأسلوب تفكيرهم ، ومميزات القيّم عندهم ومناحي اعتقادهم ... ثمّ فهم التغيّر الذي حصل فيهم ... يدل ذلك حقيقة على أنّ هناك عوامل أساسية قلبت أحوالهم ، و موازين حكمهم ، وتصوراتهم ، وغيّرت المجتمع العربي القبلي إلى أمة لها وجود فعلي، وحضارة ، ودين وفلسفة ، فما هي هذه العوامل؟

1ــ العقلية الإسلامية: التي أسسها وبناها الدين الإسلامي، كروح جديدة تؤسس لتصور مختلف للحياة، والإنسان، والإيمان، واللّه، والغاية من الوجود، ... وغيرها من القضايا الميتافيزيقية والواقعية... التي تهدف إلى تشكيل كيان الفرد المسلم بكل أبعاده: الفكرية والسلوكية والاعتقادية .

وهذا من خلال الأصول التي قام عليها الدين الإسلامي المتمثلة في القرآن الكريم وسنة النبي محمد صلى اللّه عليه وسلم

فهل في القرآن ما يدعو إلى التفلسف؟

أ/ القرآن الكريم: الذي يعتبر كتاب اللّه المحفوظ، والمعبر عن الديانة الخاتمة التي أرسل بها محمد صلى اللّه عليه وسلم، حيث كان نزول القرآن الكريم أعظم حدث تاريخي وحضاري في ذلك الزمان ، لأنه ولّد نقطة تحوّل في الفكر العربي ، وفي تاريخ الحضارة الشرقية والعالمية... لما عبّر عنه من قضايا، ودعا إليه من مبادئ قلبت مفاهيم العرب السياسية ، والاجتماعية ، والأخلاقية ، والعقائدية ، والفكرية ... "لأنّ القرآن الكريم ليس مجرّد مواعظ أخلاقية ، أو تاريخا للعبرة عن قرون ماضية، بل هو أكثر من هذا ، هو كتاب ميتافيزيقي ، وإنساني ، وأخلاقي، وعامي.. وضع الخطوط الرئيسية للوجود كله، فهو كتاب الكون منذ نشأته إلى فنائه"[1].

ومن هذا المنظور نجد أنّ القرآن الكريم حتى وإن لم يحمل فكرا علميا ملخصا ، وفلسفة منظمة ، فإنه عبّر عن كثير من القضايا العلمية والمواضيع الفلسفية واهتماماتها. فقد أعلن عن وحدانية اللّه وفاعليته، وفكرة الخلق ومصدرها، وأنكر قدم المادة ، وأعلن أنها محدثة... وأكد كرامة الإنسان وقوة عقله، واعتبره مسئولاً عن أفعاله.

وأنكر القرآن الكريم فكرة التثليث، وصلب المسيح، والتشبيه...وأعلن أنّ اللّه متصف بصفات الكمال. سميع ، عليم، بصير، مطلق، قادر كل القدرة... ليس كمثله شيء .

وعبر عن طبيعة الروح والإيمان بالقضاء والقدر والخير والاختيار في افعال العباد ... وغيرها من القضايا التي أشار إليها القرآن الكريم، من هذه الآيات قوله تعالى: ﴿ذلكم اللّه ربكم لا إله إلاّ هو خالق كل شيء فاعبدوه﴾الأنعام، الآية 102.

وقوله تعالى: ﴿أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها، ومالها من فروج، والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي، وأنبتنا فيها من كل زوج بهيج، تبصرة وذكرى لكل عبد منيب﴾( ق، الآية 6، 8.).

وقوله تعالى: ﴿ قل هو اللّه أحد اللّه الصمد، لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفؤا أحد﴾ (الإخلاص).

وقوله تعالى:  ﴿ ليس كمثله شيء وهو السميع البصير﴾ (الشورى، الآية 11).

فكل هذه القضايا التي عبر عنها القرآن الكريم وغيرها أصبحت فيما بعد كلها موضوعا وحقلا خصبا لتفكير المسلمين وفلاسفتهم، وظهور فرقهم، مما يؤكد أنّ القرآن الكريم قد وضع الحجر الأساس للتفكير الفلسفي في الإسلام، وحثّ على النظر العقلي وجعله لزاما على القادرين ، بل واشترط سلامة العقل لسلامة الدين، وسوى بين الشهادة والعلم، وجعل النشاط العقلي والعلمي أرقى مراتب العبادة.

ب ـــ السنة النبوية: وهي الأصل والمصدر الثاني في الإسلام بعد القرآن الكريم ، والسنة هي كل ما صدر عن النبي صلى اللّه عليه وسلم من قول أو فعل أو تقرير أو صفة، وهي تعتبر شارحة للقرآن الكريم والترجمان السلوكي له، والعامل الأساس في تكوين العقلية الإسلامية، وصفاتها المعبرّة عن الهوية المتميزة.

لذلك نجد أنّ السنة النبوية، قد تضمنت ما لا يحصى من الأفكار والمبادئ التي عبرت عن كثير من البذور لقضايا التفكير الفلسفي، في إطار توضيح المبادئ والأفكار التي جاء بها القرآن الكريم، ومن هذه الأحاديث قول الرسول صلى اللّه عليه وسلم: «إنما الأعمال بالنيّات»، وقوله في الحديث الطويل الذي يرويه عمر ابن الخطاب: « الإيمان أن تؤمن باللّه ، وملائكته، وكتبه، وورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقضاء والقدر خيره وشره، قال صدقت، فعجبنا له يسأله ويصدقه، قال فاخبرني عن الإحسان؟ قال: أن تعبد اللّه كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك».

وقوله : "إنّ الله لما خلق القلم قال له أكتب، قال رب وماذا أكتب؟ قال: أكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة".

وقوله أيضا: " لا يزال الرجل عالماً ما طلب العلم، فإذا ظنّ أنه علم فقد جهل".

وقوله :"الحكمة ضالة المؤمن أنّ وجدها فهو أحق بها".

كل هذه الأحاديث تعبر عن أبعاد فلسفية، وجذور للتأمل العقلي، التي أصبحت فيما بعد موضوعات ومسائل للتفكير الفلسفي، خاصة بعد أن انتشر الإسلام وتوسعت الفتوحات ، وتعددت مشكلات المجتمع، وبدأت تظهر أفكار جديدة لم يعرفها المسلمون من قبل، مما اقتضى التعامل معها والاجتهاد في فهمها والرّد عليها مما يتناسب مع طبيعة الدين الصحيح( كقضية أدعياء النبوة... ووضع الأحاديث الكاذبة وقضية خلق القرآن...).

2/ العقلية العربية ولغتها: فالعرب قبل الإسلام، برغم انتشار الشرك باللّه، والجاهلية في الحكم ، والعصبية في التصور ، وشيوع الرذيلة، واستعباد الانسان ... فهذا كله لا يعني أنهم قوم لا يفهمون، ولا يعملون العقل ولا يتدبرون.. فهذا حكم فيه كثير من الخطأ .. نعم نحن لا نجد لهم نظاما فكريا متكاملا، لكن ما بلغنا عنهم أنهم قوم يتميّزون بالفطرة والسليقة والصفاء الذهني والاهتمام ببعض مسائل الدين والأخلاق والأنساب وتدبير المصير، وشؤون السياسة، وبعض معطيات العلوم كالطب والفلك والحساب والفراسة والحرف والزراعة..وانتشار الخطابة والأمثال، والحكم الشعرية وغيرها.

فكل هذه المناحي العقلية لا تدل على عقلية عربية قاصرة ولا منغلقة، بل تدل على عقلية مرنة ومستوعبة لواقعها وبيئتها، ودليلنا على هذا أنّه لا يعقل أن ينزل القرآن الكريم بلغة قمّة في الدقة  والبلاغة والإعجاز  وموجه إلى العرب ومخاطباً لهم وهم لا يفهمون كلامه، ولا يدركون معانيه. فهذا تناقض لأنّ رقي التعبير دلالة على رقي التفكير.

المحاضرة الثالثة: تابع عوامل نشأة الفلسفة الإسلامي

ثانياً: العوامل الخارجية: (أثر الثقافات الأجنبية)

إن حركية الإسلام كرسالة عالمية، بعقيدتها ومبادئها وأفكارها، لم تنغلق على نفسها في شبه الجزيرة العربية، بل انطلق أهلها يدعون إلى هذه الرسالة ويبلغونها إلى غيرهم من الأمم  تحت شعار الآية الكريمة ﴿ أدع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن﴾ (النحل: الآية 125).

فانفتح أهل الإسلام على أمم وحضارات لها ثقافتها ومذاهبها وأفكارها واعتقاداتها.. كل ذلك كان له انعكاسات على الكثير من التطورات الفكرية والسياسية، مهدت لظهور الروح الفلسفي، وازدهار التفكير العقلي.

ومن أهم الثقافات التي تأثر بها المسلمون وكانوا أكثر ولعاً بها الثقافة اليونانية وأفكارها، لما تميزت به من دقة، وشمولية، وارتقائها إلى مستوى التعبير عن نسق فكري متكامل.

وقد برز هذا التأثر مع حركة الترجمة، التي بدأت في العهد الأموي في نطق محدود، ثم اشتدت في العهد العباسي، حيث زادت فرص التفاعل مع الثقافة اليونانية، واتساع مجال الترجمة في عهد هارون الرشيد، والمأمون من خلال دار الحكمة كمنارة للترجمة والمطالعة والجدل.

لقد عكف المسلمون على ترجمة أمهات الكتب، ومن أهمها: كتب الحكيمين "أفلاطون" و "أرسطو" غير أن اطلاع المسلمين على فلسفة اليونان لم يكن مباشراً، وإنما كان من خلال شروحات وآراء فلاسفة الإسكندرية(العصر الهيليني) في القرن الرابع بعد الميلاد ومن أشهر فلاسفة العصر "أفلاوطين" و"فرفوريوس".

ويظهر بوضوح تعلق فلاسفة الإسلام بفلسفة اليونان من خلال أعمال: "الكندي"، "الفارابي"، "ابن سينا"، و "ابن رشد" وغيرهم... لما اتسمت به تلك  الفلسفة اليونانية من تناول للقضايا الإلهية والإنسانية والطبيعية، وكذا الفضول العلمي  والدافع الحضاري لدى المسلمين في الاطلاع على ثقافات غيرهم، والاستفادة منها.

وهذا ما أدى إلى تفاعل حضاري وتلاقح فكري بين العقلية اليونانية وما أنتجته، وبين الفكر الإسلامي كرؤية حضارية جديدة.

ومن ناحية أخرى نشير أيضا أن تأثر المسلمين لم يقتصر على فلسفة اليونان وحدها، بل تواصل مع ثقافات أخرى: كاللاهوت اليهودي ، والمسيحي كديانتين سماويتين، وما عبرتا عنه من عقائد ، وكذلك أفكار الثقافة الفارسية، والهندية، والبوذية.. وغيرها.

وكل ذلك يعبر عن الوسط الثقافي العالمي الذي تعايشت معه الأفكار الإسلامي، وتفاعلت معه تأثيرا وتأثراً، أنتج كثيراً من القضايا والموضوعات، والمظاهر الفلسفية التي عبرت عنها، وناقشتها الفلسفة الإسلامية.

 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المحاضرة الثالثة: الفلسفة الإسلامية ومنزلتها من الفكر الفلسفي الإنساني

إذا كانت الفلسفة اليونانية هي الصورة الكاملة الأولى للفكر الفلسفي الإنساني، فهل تعدّ الفلسفة الإسلامية مجرّد استمرار للحركة الفلسفية عند اليونان أم أنها إنتاج عقلي أصيل ينتمي إلى البيئة التي أصدرته بأكثر من سبب؟

لقد اختلف الباحثون في تقدير منزلة الفلسفة الإسلامية من التراث الإنساني الفلسفي، فذهبت طائفة من المؤرخين إلى أنّ المسلمين لم تكن لهم فلسفة خاصة بهم، بل لقد بالغ نفر من هذا الفريق فـأرجع ذلك إلى ضحالة العقلية الإسلامية وعجزها عن تعمق مشكلات الفكر وسبر أغوار المذاهب الفلسفية ، والإسهام فيها بجديد يذكر ، ويستحق أن يضاف إلى حصيلة الفكر العالمي المتصل.

ولا شك أنّ الفريق الأول من الطائفة المنكرة لأصالة الفلسفة الإسلامية إنما يرجع في دعواه إلى أنّ الفلسفة اليونانية قد سدت منافذ الإبداع الفلسفي على اللاّحقين إذ أنها- بحسب رأيهم- قد أكملت رسالة الفلسفة في تفسير الكون والإنسان المبدع الأول، ومن ثمّ لم يبق للخلف إلاّ أن يجيد النقل عنها  ويتقن الشرح لنصوصها والإبانة عن متعلقاتها، والتعليق على مسائلها.

وقد سار على هذا الدرب الهللينيون والرومان والمسيحيون ومنهم السريان، وكان على المسلمين أن يتسلموا هذا التراث عن هؤلاء  فيسلموه إلى المدرسين وفلاسفة القرون الوسطى من المسيحيين واليهود. فكأنّ دور المسلمين في هذه السلسلة لم يخرج عن كونهم نقلة للعلم الفلسفي اليوناني.

وكان قصارى جهدهم – بحسب هذا الزعم الأخير- أن يجيدوا نقله إلى اللغة العربية بدون تعديل أو تحوير أو معارضة جدية ، فتكون الفلسفة الإسلامية هي بعينها فلسفة اليونان كتبت بلغة عربية ، وبذلك ينتفى أن يكون للمسلمين أي فضل في المشاركة في تكوين هذا التراث والإسهام في حل قضاياه، أو بمعنى أخر إنكار أن يكون للعرب أو المسلمين إنتاج فلسفي ذو أصالة أو ابتكار.

أولاّ:  مشكلة التسمية:

وثمة صورة أخرى للخلافات الدائرة حول مشكلة الفلسفة الإسلامية وهي تتعلق بتسمية هذا التراث ، فهل هو تراث فلسفي عربي استنادا إلى أنّ اللغة العربية كانت لغة الإنتاج الفلسفي ، وأنّ القرآن وهو دستور المسلمين قد نزل بالعربية ، وكذلك لأنّ العرب هم أصحاب الفورة الإسلامية التي حددت مصير الإسلام وأعطته الدفعة الأولى القوية على طريق النجاح والانتشار، أم أنّ هذا التراث يعد فلسفة إسلامية من حيث أنّ منتحليها وكبار شخصياتها كان معظمهم من شعوب إسلامية غير عربية، أي من الفرس والخراسانيين  والأتراك ؟

1/ رأي القائلين بأنها فلسفة عربية: يرى أصحاب هذا الرأي ومنهم مستشرقون( منك، ودي وولف، وأميل برييه، ونللينو، ومن العرب: لطفي السيد) وقليل منهم من المؤرخين العرب أنّ الفلسفة العربية نشأت في أحضان الثقافة العربية التي تمثلت في القرآن وفي العلوم العربية التي صدرت عن الجنس العربي ، فالعرب هم الدعامات الأولى للحضارة العربية بما فيها من أنشطة مادية ومعنوية، ومن ثمّ فإنّ التراث العقلي الفلسفي العربي إنتاج عربي مدين بوجوده للجنس العربي من حيث أنّ العرب هم الذين حملوا لواء الدفعة الأولى للدين والثقافة الإسلامية.

2/ القائلون بأنها فلسفة إسلامية:( هورتن وديبور وجوتييه، وكارادفو) على أنّ هذا الرأي القائل بأنها فلسفة عربية لا يثبت أمام النقد العلمي الدقيق ، فعلى الرغم من أنّ العرب هم الرواد الأوائل للثقافة الإسلامية ، إلاّ أنّ اطراد تقدمها وسعة انتشارها لم يتحقق إلاّ بفضل مساهمة الشعوب الإسلامية غير الناطقة بالعربية من فرس وخراسانيين ومصريين وأتراك ، وقد كتب بعضهم بالعربية أو بلغاتهم الأصلية ، هذا بالإضافة إلى مجهودات أفراد من المسحيين واليهود ممن أظلتهم الحضارة الإسلامية في عهدها الزاهر.

ومن ناحية أخرى فإنه لو لم تتح للعرب فرصة حمل رسالة الإسلام والخروج بها من دائرة حياتهم الجاهلية شبه المنغلقة ، لما تيّسر لهم التعرف المتكافئ على التراث العقلي للعالم القديم ، فتاريخ العرب العقلي في العصر الجاهلي لم يحمل أي بذور تصلح للتطور بقوتها الذاتية فتنشأ عنها مواقف فلسفية جادة.

ملاحظة: وقد أشار فريق من الإسلاميين ت ومن بينهم الشيخ مصطفى عبد الرازق إلى أنه لا يصح أن نجري أي تغيير في التسمية التي ارتضاها كتاب المسلمين السابقين من أصحاب هذا التراث ، فقد وضعوا لهذا التراث العقلي اسما خاصا فلا يجب أن نحيد عنه. من كتابه (تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية ص21) فقد تكلموا عن الإسلام أو الفلسفة الإسلامية أو فلاسفة الإسلام أو متفلسفة الإسلام.

* المنكرون لأصالة الفلسفة الإسلامية: أصحاب هذا الرأي ينكرون على فلاسفة الإسلام الجدة والأصالة في تفكيرهم الفلسفي، ويعتبرونهم مجرّد نقلة للتراث اليوناني الفلسفي، أي وسطاء أدوا دورا كان لا بدّ أن يؤدوه في عملية نقل التراث، فقد كان عليهم أن يؤدوا دورهم في نقل تراث اليونان الفلسفي والععقلي إلى المسلمين في عهد ازدهارهم.

وهذه الطائفة من المنكرين تبني آراءها على أساس دعوة عنصرية خطيرة تشكك في قدرة العقل العربي على التفلسف ، وترى أنه ليس في مقدور العرب أن يتفلسفوا لأنهم من الجنس السامي، وهذا الجنس لا قدرة له على تناول الأمور المجرّدة ، بينماشعوب الجنس الآري – واليونان القدماء منهم – هم وحدهم أصحاب المقدرة على ذلك.

وكان الكونت جوبينو هو أول من أثار هذه المشكلة وميّز الجنس الآري على الجنس السامي بصفة عامة ، وجاء مستشرق آخر وهو كارل هينرش بيكر ، وقارن بين الفن عند الساميين والفن عند الآريين، وذكر أنّ الفنون السامية تظهر فيها المصغرات السيمترية المتكررة التي لا تجمها وحدة تركيبية ، أما الفنون الآرية فإنها تتميز بالتركيب القائم على وحدة الموضوع ، وفيما يختص بالفلسفة  يرى بيكر أنه بينما تخضع الروح الإسلامية للطبيعة الخارجية فتنفي الذوات الفردية في كل لا تمييز فيه فلا نتصور الأفكار إلاّ على الإجماع – نجد أنّ الروح اليونانية تمتاز بالفردية واحترام الذاتية وهما محك النظر الفلسفي، ولهذا فقد كان اليونانيون أقدر على التفلسف من المسلمين.

وكذلك استند رينان وكوزان وجوتييه إلى الدراسات اللغوية ليخرجوا منها إلى تقييم الشعوب إلى سامية وآرية ، وأفردوا خصائص ثابتة لكل من الجنسين. وقال رينان بهذا الصدد: « أنا أول من عرف أنّ الجنس السامي إذ قوبل بالجنس الهندي الأوروبي يعتبر حقا تركيبا أدنى للطبيعة الإنسانية ، فالروح السامية تمتاز بالوحدة والبساطة ، أما الروح اآرية فإنها تمتاز بالكثرة والتعقيد والساميون يعتقدون التوحيد المطلق الذي يتماشى مع فطرتهم الساذجة ، وقد أثر هذا على نظمهم السياسية والاجتماعية والدينية".  

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المحاضرة الرابعة: الاجتهاد الفقهي وظاهرة الاختلاف

في عهد الرسول صلى الله علية وسلم كان رسول الله هو المصدر للفتوى، وكان قوله الفصل في كل شيئ، وكان الاجتهاد موجودا عند الصحابة، لكن لم  يكونوا يجتهدون إلاّ إذا  كانوا في سفر، أو في حالة لا يستطيعون فيها الرجوع إلى الرسول ليسألوه، فكانوا في تلك الحالات يجتهدون، فإذا عادوا ولقوا  الرسول سألوه، فإما أن يقول لهم بأنّ هذا الاجتهاد كان صحيحا، أو يصحح لهم ما أخطأوا فيه، وبعد وفاته صلى الله عليه وسلم كان الاختلاف قليلا، والمرجع غالبا إلى الخليفة وكبار الصحابة، والخليفة كان يجمع علماء الصحابة ويناقشون المسألة، ثمّ يفتي بها، فكان الاختلاف بين الصحابة قليل في ذلك الوقت، لكنه كان موجودا، ثمّ تفرّق بعض الصحابة في الأرض، فصار كل أهل  بلد يتبعون الصحابي الذي عندهم خاصة في نهايات عصر الصحابة، فكانوا يتبعون فتوى الصحابي العالم الذي في بلدهم كونه الأفقه فيهم، وكونه لقي الرسول (ص)، وعاش بين أصحابه، وأخذ العلم الصافي من المنبع الصافي، فكانوا لا يخالفونه إلاّ باليسير من الأمور، فاتبّع أهل المدينة في الغالبية فتاوى عبد الله ابن عمر، وأهل الكوفة فتاوى عبد الله ابن مسعود وأهل مكة فتاوى عبد الله ابن عباس و أهل مصر فتاوى عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عن الجميع، واستمر التابعون بعد عصر الصحابة على هذا النسق، وكان الناس يسألون كبار التابعين ممن تتلمذ على الصحابة، ثمّ في عصر أتباع التابعين ومع كثرة الحوادث والمسائل الجديدة التي تحتاج إلى فتوى برز نجم عدد من أهل العلم الجهابذة كأبي حنيفة ومالك والأوزاعي وجعفر الصادق وامحمد الباقر والليث ابن سعد وغيرهم، وفي الفترة التالية برز بعض الفقهاء الكبار كالشافعي وأحمد ابن حنبل وإسحاق ابن رهوي وعلي ابن المديني، وداود ابن علي وغيرهم من أهل العلم، وكل واحد من هؤلاء العلماء كان له اجتهاداته، والعالم عندما يكون له رأي في مسألة ما، فهذا الرأي  يسمى مذهباً، هذا الرأي استقلالا يسمى مذهبا، و أيضا مجموع أرائه تسمى مذهبا، فكان كل واحد من هؤلاء الأئمة المجتهدين له مذهبا خاصا ومستقلا ، ثم تلاميذ كل عالم من هؤلاء صار مذهبه مذهب هذا العالم، لأنه فهم أراءه واقتنع بها واقتنع بأدلته وأتقن طريقته في الاستنباط وأصول الفقه، فصار مذهب هؤلاء التلاميذ هو مذهب شيخهم الإمام ،حتى لو خالفوه في بعض الأراء إلاّ أنهم في الغالب يوافقونه لأنهم تتلمذوا على يديه، وكذلك الذين جاءوا بعدهم تتلمذوا على يديهم فأصبح مذهبهم مذهب ذلك العالم، لكن مع مرور الزمن أكثر هذه المذاهب اختفت ، ولم يبق منها إلاّ بقايا ونقولات في بعض الكتب، والذي بقي وانتشر هو خمسة مذاهب: الحنفي والمالكي والشافعي والحنبلي والظاهري، إلاّ أنّ الظاهري قلّ انتشاره جدا، وسبب بقاء هذه المذاهب هو كثرة تلاميذ إمام المذهب، ووجود من يخدم  هذا المذهب من خلال تأليف الكتب وتدوين أراء هذا المذهب، وتدريس هذا المذهب للطلبة، فالمذهب الظاهري على سبيل المثال مع أنّ أتباعه اليوم قلة جدا ، لكنه موجود ومحفوظ من خلال التدوين.

 *- مشكلة الخلافة والإمامة:

الخلافة أو الإمامة مسألة مصلحية اجتماعية كما يقول ابن خلدون، فهي ترجع إلى أمور السياسة ونظام الدولة، ومدار الخلاف فيها يقوم حول تساؤل عريض عن أحق المؤمنين بتولي رئاسة الدولة الإسلامية.

لقد اتضح لنا إذن كيف أن خلافاً سياسياً حول مسألة  من مسائل الفروع. تكشف في مسيرته الزمنية الطويلة عن خلافات عقائدية مستحكمة فكيف نبتت البذور الأولى لهذا الخلاف؟

نحن نعلم أن الرسول عليه السلام لم ينص صراحة على من يخلفه في رياسة الدولة الإسلامية بعد وفاته تحقيقاً للآية الكريمة ﴿ وأمرهم شورى بينهم﴾ لكي تكون الإمامة عن طريق البيعة، ولكنه أناب أبا بكر الصديق لكي يؤم المسلمين في الصلاة حين أقعده المرض من حيث أنه كان من الضروري ألا يتعطل أداء هذه الفريضة والرسول طريح الفراش، فعندما وافته المنية وارتفع إلى الرفيق الأعلى، اجتمع نفر من خيرة المسلمين من بين صحابة الرسول واستحكم النقاش بينهم في السقيفة، ورأى البعض أن إنابة الرسول لأبي بكر في الصلاة تعتبر إشارة منه إلى استخلافه بالإضافة إلى مكانته الأثيرة عنده وأنه ثاني اثنين في غار حراء في الهجرة، فتقدم عمر ابن الخطاب وبايع أبا بكر وانحازت إليه الأكثرية، وبذلك صحت ((البيعة)) وكان علي بن أبي طالب يرى في الخلافة حقاً شرعياً له، فهو ابن عم رسول الله وزوج ابنته فاطمة وأول من آمن بالرسالة.

والتف حوله أتباع كانوا يرون أن الخلافة يجب أن تؤول إلى آل البيت وعلى رأسهم علي ابن أبي طالب، ولقد قبل علي خلافة أبي بكر ثم عمر ثم عثمان على مضض.

وكان عثمان ضعيف الشخصية، هذا مع ميله إلى إيثار أقاربه وتعيينهم في مناصب الدولة الكبرى في الأقاليم والأمصار التي غزاها المسلمون، ولهذا فقد ثارت الفتن، واشتد الطالبيون في دعوتهم لمناصرة آل البيت وحقهم في الخلافة، وكان أن قتل عثمان عام 35ه- 656م.

ويذكر المقريزي أن عبدالله بن سبأ اليهودي الذي أظهر الإسلام وأبطن الكفر، هو الذي أثار فتنة أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه حتى قتل. ((أي أن ابن سبأ هذا هو الذي دس مبادئه الفاسدة بين المسلمين وأضل البعض منهم. وما زال يؤلب الثوار على عثمان حتى قتلوه، وزعم أصحابه أنه إنما فعل ذلك انتصاراً لعلي ولحقه في الإمامة)).

وبعد مقتل عثمان بويع علي بالخلافة، ولكن معاوية والي الشام رفض مبايعته متهماً إياه بالتهاون في التحقيق في مقتل عثمان والتستر على قتلته، وكذلك رفض كل من طلحة والزبير مبايعته، واتفقا مع السيدة عائشة على الأخذ بثأر عثمان، وكانت وقعة الجمل حيث قتل طلحة والزبير وأسرت عائشة وأعيدت إلى المدينة.

صفين والتحكيم:  ثم التقى علي ومعاوية في صفين وكاد معاوية أن يُهزم لولا أن أشار عليه عمرو ابن بن العاص بأن يرفع جنوده المصاحف على أسنة الرماح كناية عن رغبتهم في الكف عن القتال والاحتكام إلى كتاب الله. وتلا أحد رجال معاوية الآية: ﴿ ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم ثم يتولى فريق منهم وهم معرضون﴾. وقد مال بعض أصحاب علي إلى التحكيم ونصحوه بقبوله.

نشأة الحرورية (من الخوارج):

ولكن فريقاً من أصحاب علي رفضوا مبدأ التحكيم وثاروا عليه مدعين أن الفصل في موضوع الخلافة لا يصح أن يوكل إلى البشر وقالوا : ((لا حكم إلاّ الله)) وانفصلوا عن جيش علي وساروا إلى حروراء بالقرب من الكوفة.. وجعلوا من عبدالله بن وهب الراسبي أميراً عليهم وسموا بالحرورية.

نتيجة التحكيم: اختار علي أبا موسى الأشعري. واختار معاوية عمرو ابن العاص، واجتمع الحكمان في دومة الجندل في شوال سنة37ه- آذار 658م واستطاع عمر بدهائه إلى أن يقنع أبا موسى بخلع كل من علي ومعاوية وتولية عبدالله بن عمرو خليفة على المسلمين، وكانت خدعة كبرى إذا لم يكد يعلن أبو موسى خلع علي حتى قام عمرو بن العاص قائلاً: ((أيها الناس هذا أبو موسى شيخ المسلمين، وحكم أهل العراق، ومن لا يبيع الدين بالدنيا، قد خلع علياً، وأثبت معاوية)).

الخوارج: واستاء نفر من أصحاب علي من نتيجة التحكيم بعد أن عين معاوية أميراً على المؤمنين، فخرجوا عليه وانضموا إلى الحرورية وسمي بالخوارج.

الشيعة: لقد كانت مشكلة الإمامة وهي مشكلة سياسية في أصلها هي السبب في ظهور الخوارج والشيعة، وهاتان الفرقتان تتقابلان تقابل التضاد كما يقول الشهرستاني، فبينما يكفر الخوارج علياً وأصحاب التحكيم، ويتربصون به حتى يقتلوه، نجد الشيعة من ناحية أخرى يتمسكون بإمامة آل البيت ابتداء من علي بمقتضى الوراثة الدموية للرسول، ومن ثم فإن علي ابن أبي طالب هو أحق المسلمين في نظرهم بالخلافة بعد الرسول أي أنهم شايعوا علياً وانتصروا له فسموا ((بشيعة علي)) أو شيعة آل البيت.

خلاصة: يمكن القول أن مشكلة تالخلافة من أهم القضايا المختلف فيها بين المسلمين بعد وفاة الرسول ، واشتدت حدة الاختلاف أكثر بعد مقتل عثمان  رضي الله عنه، وبعده علي كرم الله وجهه، وما ترتب عن ذلك من انقسام المسلمين، وظهور أشهر الفرق في الإسلام كالخوارج في مواجهة الشيعة.

وكل هذه التطورات السياسية، والاجتماعية أدت إلى نقاش فكري عنيف ترتب عليه كثير من القضايا الدينيةوالسياسية والفلسفية، ومنها علم الكلام.

المحاضرة الخامسة: حركة الترجمة والنقل:

لم يكن العرب على علم باللغة اليونالنية. فاعتمدوا على السريان الذين نقلوا إليهم ما وصلهم من تراث اليونان، ومن المعروف أنه قد سبقت هذه الحركة حركة أخرى للنقل من اليونانية إلى السريانية، وكان لهؤلاء النقلة السريان فلسفات وآراء خاصة ولذلك كانت تلرجماتهم متأثرة أحياناً بهذه الآراء، بل كان بعضهم يؤلف كتباً خاصة لشرح هذه الآراء.

وعرف من أوائل المترجمين من اليونانية إلى السريانية القس بروباس  probus وقد عاش في النصف الأول من القرن الخامس الميلادي، وكذلك سرجيوس الرسعني من رجال القرن السادس الميلادي ومن تلامذة الأسكندرية توفي بالقسطنطينية عام 536م وكان راهباً درس الطب في العراق وترجم في الإلهيات والأخلاق والطب. واشتهر من بين هؤلاء النقلة ستيفن بأرصديلة، وكان من مترجمي القرن الخامس الميلادي وعرف عنه أنه أستاذ للراهب المسيحي الذي كتب كتاباً في طبيعة المسيح ونسبه إلى ديونيزيوس الأريوباغي. ومن كانت لهم لآراء وكتب خاصة من النقلة شمعون الراهب الذي عاش في القرن السابع الميلادي. ويقال أنه ألف في الطب، وكذلك أبو إسحاق قويري إذ ألف في المنطق، ويورد صاحب الفهرست أسماء كتب أرسطو التي ترجمها وهي المقولات والعبارة والتحليلات الأولى والتحليلات الثانية.

ومهما يكن من أمر حركة النقل من السريانية إلى العربية فإنه يجب البحث عن حقيقة الاتصال المباشر بالثقافة اليونانية قبل عهد الترجمة. فهل اتصل العرب بهذه الثقافة باعتبار أنهم قد عاشوا في الوسط الذي ذاعت فيه؟

الواقع أن انتشار المدارس المسيحية في مدرسة الاسكندرية الفلسفية وما كان يقوم حولها من جدل فلسفي في العقائد المسيحية وكذلك انتقال الفلسفة مدارس إلى فارس القديمة ثم فتح العرب لفارس والشام كل هذا هيأ نوعا من الاتصال المباشر بين العرب وثقافات الأقاليم التي فتحوها قبل عصر الترجمة لفترة طويلة. فاتصل العرب بالرهبان في الأديرة واستمعوا إلى مناقشتهم، بل وتأثروا بما عاينوه في حياتهم من زهد وتقشف مما قد يكون له أثره في حركة التصوف الإسلامي لا سيما في الفترة الأولى التي تعرف بفترة الزهد وذلك قبل عصر الترجمة.

وكذلك كان الاتصال بالمسيحيين سابقاً على الإسلام. فقد كان المسيحيون يسكنون أجزاء في شبه الجزيرة العربية: في نجران وحضرموت وفي شرقي الحجاز في وادي أم القرى وبين قبائل قاعة وكذلك بين قبائل بني تنوخ وبني صالح بالقرب من أنطاكية.

كذلك كان الاتصال بالفرس سابقاً على عهد الترجمة ومتقدماً على انتشار الاسلام. فقد اتصل عرب الجاهلية بفارس وتعلم بعضهم بها، ويشير القفطي إلى أن الحارث بن كلدة تلقى العلم بجنديسابور زاشتغل بالطب في أرض فارس.

حركة النقل في العصر الأموي:

تعد هذه الفترة التي استغرقت حوالي ستين عاماً الفترة الأولى في تاريخ حركة الترجمة من السريانية إلى العربية. على أنه من المعروف أن العرب في هذه الفترة عكفوا على شؤون الرئاسة والحكم واهتم نفر قليل منهم بالحركة العلمية، وتجدر الإشارة إلى أنه كانت هناك حركتان ثقافيتان، الأولى تمثلت في تشجيع خالد بن زيد للنقلة لكي ينقلوا كتب الصنعة. وقال أنه هو نفسه ألف كتباً في ثلاث مسائل في الكيمياء، ولكننا لا نعرف عنها شيئاً

وأما الحركة الثانية فقد تمثلت في حركة التأليف في العلوم الإسلامية والعربية فاشتهر رجال من أمثال الخليل بن أحمد وأبو الأسود الدؤلي.

حركة الترجمة في العصر العباسي:

بدأت الترجمة في هذا العصر في خلافة المنصور ونشطت حركة الترجمة من اليونانية إلى السريانية

وتنقسم حركة النقل والترجمة في العصر العباسي إلى ثلاث مراحل.

المرحلة الأولى: وتمتد من سنة 136ه إلى سنة 198ه، أي من خلافة المنصور إلى وفاة الرشيد، ومن أشهر المترجمين في هذه المرحلة: يوحنا البطريق وعبدالله ابن المقفع.

يوحنا البطريق: ترجم كتاب إقليدس في الهندسة وكتاب طيماوس لأفلاطون

عبداله ابن المقفع(142ه): عُرف عنه أنه هو الذي نقل كتب كليلة ودمنة من الفارسية إلى العربية، وقد أذاع بعض مؤرخي التراجم أنه نقل كتب أرسطو المنطقية إلى اللغة العربية ومنها كتاب كاتيغورياس وكتاب العبارة والتحليلات الأولى والثانية.

المرحلة الثانية (198- 300ه):

تمثل هذه المرحلة عصر المـأمون ، حيث ازدهرت حركة الترجمة وازداد النشاط العلمي، وترجمت الكتب في كل العلوم ، وفي الأخلاق والفلسفة والنفسيات بعد أن كانت الترجمةقاصرة عبى كتب الكيمياء والطب.

لقد اشتدت حركة الإقبال على الترجمة في هذا العصر برعاية المأمون لهذه الحركة، فأسس في بغداد مدرسة الحكمة أو بيت الحكمة سنة 217ه 832م.

 لقد أتمم المأمون ما بدأ به جده المنصور، فأقبل على طلب العلم من موطنه،  واستخراجه من معادنه، بفضل همته الشريفة وقوة نفسه الفاضلة. فراسل ملوك الروم وأتحفهم وسألهم صلته بما لديهم من كتب الفلاسفة، فبعثوا إليه بما حضرهم من كتب أفلاطون وأرسطو ,بقراط وغيرهم من الفلاسفة فاختار لها مهرة التراجمة، وكلفهم إحكام ترجمتها، ثم حض الناس على قراءتها ورغبهم في تعليمها.

المرحلة الثالثة (300- 350ه):

استمرت هذه المرحلة نصف قرن على وجه التقريب، ومن أشهر المترجمين أبو بشر متى بن يونس، أو ابن يونان: وكانت له مدرسة في الترجمة في بغداد في خلافة الراضي سنة 320ه، وهو نصراني نسطوري كانت نشأته الأولى في دير الرهبان وقد انتهت إليه رئاسة المنطقيين وكان هو أول من اختص بهذا اللقب كما يذكر ابن النديم، ثم أطلق من بعده على تلميذه يحي ابن عدي..

ويبدو أن مدرسة أبي بشر كان يغلب عليها الاشتغال بكتب أرسطو المنطقية والطبيعية وربما بعض كتبه الإلهية

استنتاج:

 استفاد العرب كثيراً من نقل الثقافات الأجنبية إليهم، فقد عملت على إذكاء روح البحث والتأمل العقلي بينهم. فنشأت حركة فكرية جديدة متعددة النواحي دعتهم إلى التفكير في دينهم وفي كل ما يحيط بهم وكذلك في أنفسهم.

ويبدو تأثير الثقافات الأجنبية أكثر وضوحاً في حركة علم الكلام الإسلامي ثم في الحركة الفلسفية الإسلامية، فقد نشأ علم الكلام أولا ثم لم يلبث أن أعقبه الفكر الفلسفي الإسلامي.

 

 

 

 

المحاضرة السادسة: المحور الثاني (الفلسفة وقضاياها)

تعريف الفلسفة (تعريف الفلاسفة المسلمين بالمقارنة مع اليونانيين)

الفلسفة الإسلامية هي: "مجموعة الأفكار التي ارتآها الكندي والفارابي وابن سينا، ومن سار على نهجهم في الله والعالم والنفس الإنسانية".

- الكندي(175/256ه)(801-870م)  هو أبو يوسف يعقوب بن إسحاق الكندي، فيلسوف العرب وأول فلاسفة الإسلام.

ذهب الكندي إلى القول بأن الفلسفة هي "علم الحق الأول الذي هو علة كل حق، ولذلك يجب أن يكون الفيلسوف التام الأشرف هو المرء المحيط بهذا العلم الأشرف، لأن علم العلة في نظره أشرف من علم المعلول، والعلم التام هو علم العلة)).

إن الكندي كغيره من فلاسفة الإسلام يحاول التوفيق بين الفلسفة والدين، فلما كانت الفلسفة علم بالعقل وكذلك الدين علم الحق عن طريق الوحي وكان ما جاء به الوحي موافقاً للعقل، فإن الحقائق التي تأتي بها الفلسفة تتفق مع حقائق الدين.

يقول الكندي في رسالته إلى المعتصم ((في علم الأشياء بحقائقها)) (أي الفلسفة): علم الربوبية وعلم الوحدانية وعلم الفضيلة وجملة كل نافع والسبيل إليه والبعد عن كل ضار والاحتراس منه، واقتناء هذه جميعاً هو الذي أتت به الرسل الصادقة عن الله جلّ ثناؤه، فإن الرسل الصادقة صلوات الله عليها إنما أتت بالإقرار بربوبية الله وحد وبلزوم الفضائل المرتضاة عنده وترك الرذائل المضادة للفضائل في ذواتها وأثارها))[2]. ويُفهم من نص هذه الرسالة أن الكندي يؤكد موافقة العقل للنقل أو الفلسفة للدين.

الفارابي (339ه- 950م): يرى أن الفلسفة هي العلم بالموجودات بما هي موجودة ويقسمها إلى حكمة إلهية وطبيعية ورياضية)).

ابن سينا (428ه- 1037م): أما الشيخ الرئيس فيعطيها طابعاً نفسياً، فيقول: (( الحكمة استكمال النفس الإنسانية بتصور الأمور والتصديق بالحقائق النظرية والعملية على قدر الطاقة الإنسانية))، ويقسم ابن سينا الحكمة كذلك إلى" نظرية يتعلمها الإنسان، ولا يعمل بها، وحكمة عملية مدنية ومنزلية وأخلاقية".

وحول هذه المفاهيم كان يتناول فلاسفة الإسلام الفلسفة مقتفين أثر الأساتذة القدماء من حكماء اليونان، فكانوا تارة يقتربون من أساتذة اليونان وتارة يتعدون عنهم، ولم ينتهجوا منهجاً مستقلاً في التفلسف ولم يُخالفوا رأي القدماء إلاّ في المسائل التي تخرجهم من ملة الإسلام، وظلوا أساتذة في هذا العلم في ظل أساتذة الفلسفة السابقين.

- ابن رشد (595ه- 1198م): ويرى في فصل المقال "أن النظر في كتب القدماء. يقصد بالقدماء هنا فلاسفة اليونان مثل أفلاطون وأرسطو واجب بالشرع ، إن كان مغزاهم في كتبهم ومقصدهم هو المقصد الذي حثنا الشرع عليه ، وأن من نهى عن النظر فيها من كان أهلاً للنظر فيها. وهو الذي جمع بين أمرين: أحدهما ذكاء الفطرة، والثاني العدالة الشرعية، والفضيلة العلمية والخلقية. فقد صد الناس عن الباب الذي دعا الشرع منه إلى معرفة الله، وهو باب النظر المؤدي إلى معرفته حق المعرفة، وذلك غاية الجهل والبعد الله تعالى". فالفلسفة عند ابن رشد تفتح باب العلم بالله ومعرفته حق المعرفة،  لأنها باختصار النظر في الموجودات.

ابن خلدون(808ه- 1406م) ويرى ابن خلدون في المقدمة "أن الفلسفة من العلوم التي استحدثت مع انتشار العمران، وأنها كثيرة في المدن"، ويعرفها قائلاً: "بأن قوماً من عقلاء النوع الإنساني زعموا أن الوجود كله، الحسي منه وماوراء الحسي، تدرك أدواته وأحواله، بأسبابها وعللها، بالأنظار الفكرية والأقيسة العقلية وأن تصحيح العقائد الإيمانية من قبل النظر لا من جهة السمع، فإنها بعض من مدارك العقل، وهؤلاء يسمون فلاسفة جمع فيلسوف، وهو باللسان اليوناني محب الحكمة. فبحثوا عن ذلك وشمروا له وحوّموا على إصابة الغرض منه ووضعوا قانوناً يهتدي به العقل في نظره إلى التمييز بين الحق والباطل وسموه بالمنطق)).

ويحذر ابن خلدون الناظرين في هذا العلم من دراسته قبل الاطلاع على الشرعيات من التفسير والفقه، فيقول: (( وليكن نظر من ينظر فيها بعد الامتلاء من الشرعيات والاطلاع على التفسير والفقه ولا يُكبَّن أحد عليها وهو خلو من علوم الملة فقلَّ أن يَسلم لذلك من معاطبها)).

ولعلّ ابن رشد وابن خلدون اتفقا على أن البحث في هذا العلم يستوجب الإلمام بعلوم الشرع حتى لا يضل العقل ويتوه في مجاهل الفكر المجرّد، لأنّ الشرع يرد العقل إلى البسيط لا إلى المعقد وإلى التجريب لا إلى التجريد، ومن هنا كانت نصيحة هؤلاء العلماء إلى دارسي الفلسفة أن يعرفوا الشرع والنقل قبل أن يُمعنوا في التجريد العقلي.

قضايا الفلسفة الإسلامية:

من المشكلات التي تعرض لها فلاسفة الإسلام بالجدال مشكلة إثبات وجود الله، وصفاته، ووجود العالم أحادث هو أم قديم، ومشكلة النفس الإنسانية، وهل هي موجودة وخالدة أم فانية؟

القضية الأولى: الله

تناقش هذه القضية من خلال آراء الكندي والفارابي وابن سينا وابن رشد، وأما الكندي فقد ألف رسالة في الفلسفة الأول، وهي البحث عن الإلهيات، وهي عنده من أشرف العلوم، لأنها علم الحق. فالله هو عنده هو العلة الأولى، وهو الفاعل الأول والمتمم لكل شيئ ومؤيس الكل عن ليس، والأيسُ* هو الوجود وضده اللَّيس وهو العدم، فالله هو موجد الكل من العدم.

وقد تأثر الكندي في هذه الرسالة بكتاب الربوبية (إيثولوجيا) المنسوب لأرسطو، وهو كتاب يبحث في الإلهيات كتبه أفلوطين الإسكندريونسبه فلاسفة الإسىلام خطأ إلى أرسطو، وفكرة الأيس عن ليس: خلق الوجود عن عدم فكرة أصلية عند الكندي، وهي فكرة إسلامية تعني خلق العالم من عدم. والكندي في هذه الرسالة يُخالف أرسطو الذي يقول بقدم العالم، وهذه إحدى المسائل التي جعلت الكندي مفكراً أصيلاً في نظر بعض النقاد.

تعد دراسة الكندي الفلسفية لمشكلات الألوهية استمراراً لموقفه الكلامي الإعتزالي، ونجد صورة لهذا الموقف في رسالتيه المعنونتين: ((في الفلسفة الأولى))و ((في وحدانية الله وتناهي جرم العالم)) وفي هاتين الرسالتين يبحث الكندي في طبيعة الله ووجوده وصفاته.

فالله من حيث طبيعته هو الآنية الحقة (التي لم تكن ولا تكون أبداً لم يزل ولا يزال أيس أبداً) فالله هو الوجود التام الذي لم يسبقه وجود ولا ينتهي له وجود ولا يكون وجود إلاّ به، وهو كذلك من حيث الصفات واحد تام فالوحدة من أخص صفات الله إذ هو واحد بالعدد واحد بالذات، وواحد في فعله بحيث لا يمكن أن يحدث تكثر في ذاته نتيجة لفعله، وهو لا تجوز فيه الكثرة لأنه ليس له هيولى أو صورة أو كمية أو كيفية أو إضافة، وليس له جنس أو فصل أو شخص أو خاصة أو عرض عام، وكذلك فهو ليس متحركاً ومن ثم فهو وحدة محضة، وكذلك هو أزلي أي أنه ليس هناك ما هو أقدم منه....وهو كذلك لا يخضع للفساد  ولا يتحرك، ولهذا الموجود الأزلي فعل خاص به أي الإبداع ويعرفه بأنه : "تأييس الأيسات عن ليس" ومن ثم فالله هو العلة الأولى وهو الفاعل الأول والمتمم لكل شيئ.

براهين وأدلة وجود الله:

وللكندي براهين وأدلة على إثبات وجود الله وهو يقيم هذه البراهين على وجود الحركة والكثرة والنظام كما فعل أرسطو وغيره من فلاسفة اليونان، وبرهانه الأول يستند إلى صفة الحدوث، فالشيئ في نظره لا يمكن أ، يكون علة لذاته، أي موجدا لذاته، فالعالم حادث وله بداية في الزمان لأنه متناهي.

أما الدليل الثاني: فهو برهان الكثرة، فقد رأى الكندي أن الأشياء المحسوسة متكثرة بالأنواع ومتحدة بالأجناس، فالحيوان واحد بالجنس كثير بالأنواع، حيث يضم الانسان والحمار والحصان...إلخ، فالإشتراك في الوحدة يرجع إلى علة أ,لى أو ما بعدها علة، هي علة اشتراكها في الوحدة، وهذه العلة الأولى هي الله.

أما البرهان الثالث على وجود الله فهو برهان التدبير، وهو دليل الغائية في الوجود المحسوس، فالعالم المحسوس لم يوجد عبثاً، بل لا بد له من مدبر، ولا يمكن معرفة المدبر إلاّ بمعرفة تدبيره، وهو الكون المحسوس المنظم.

2- الفارابي(870-950م): ويعد الفارابي وهو تركي الأصل من إقليم فاراب بتركيا وأمه فارسية، لقبه مؤرخو الفلسفة بالمعلم الثاني، نظرا لتأثره بأرسطو المعلم الأول، وقد عرفت فلسفته بأنها فلسفة توفيقية يحاول فيها الفارابي أن يوفق بين عقيدته الإسلامية وفلسفة اليونان.

ودليله على وجود الله فهو دليل الوجوب والإمكان، حيث يقسم الموجودات إلى قسمين: ممكن الوجود وواجب الوجود. فواجب الوجود عنده هو الموجود الذي وجوده من ذاته، فإذا فرض عدم وجوده لكان ذلك محالا، أ/ا ممكن الوجود فهو الذي وجوده من غيره، فإذا فُرض عدم وجوده لما كان ذلك محالا. والوجود الممكن يتعادل وجوده وعدمه، أي أن وجوده وعدمه سواء إلا إذا تلرجح أحدهما على الآخر. فإذا ترجح وجوده كان لابد له من مرجح يرجح وجوده على عدمه، أي لابد له من موجد ترجح عنده الوجود على العدم فأخرجه إلى الوجود. فلابد لكل موجود ممكن الوجود من مرجح لوجوده على عدمه، ولا يمكن أن تمضي سلسلة المرجحات الممكنة الوجود إلى ما لانهاية لأن هذا محال، فلا بد إذن أن نصل إلى مبدأ أول هو علة وجود كل الممكنات في العالم.

وقد رفض الفارابي دليل الحكماء الطبيعيين الذين يرون أنه لابد من الاستدلال على وجود الله بأثاره لأن الصنعة تدل على الصانع، وهذا يعني أنهم يصعدون من الفعل إلى الفاعل، ومن المخلوق إلى الخالق، لكنه يرى أنهم يفكرون في الأفعال التي تصدر في العالم فلا يتجاوزون عالم الحوادث المتناقضة، ولا يجدون تصورات شاملة للموجودات. أما الفارابي فقد أراد الوصول إلى العلة الأولى والوحيدة، وهذه العلة هي واجب الوجود، الذي يحمل في ذاته البرهان على أنه واحد لا شريك له، فلو وجد موجودان كل منهما كامل الوجود وواجب الوجود لكانا متفقين من وجه ومتباينين من وجه آخر، وما به الاتفاق غير ما به التباين، فلا يكون كل منهما واحدا بالذات، فالموجود له غاية الكمال يجب أن يكون واحدا.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

المحاضرة السابعة: تابع قضايا الفلسفة الإسلامية

2- قدم العالم

يرى الكندي أن العالم خُلق من العدم، وهذا الرأي مخالف لرأي أستاذه أرسطو الذي يقول بأن العالم قديم وأنه ليس مخلوقاً من العدم ، أما أفلاطون فإنه قال بحدوث العالم، وهذا ما جعل فلاسفة الإسلام ينحازون إليه. وقد استطاع الكندي أن يصل إلى دليل أصيل لخلق العالم يُبين فيه أن العالم ليس قديم كما كان يقول أرسطو. واتفق الكندي مع أرسطو في القول بدليل الحركة لكنه وصل إلى نتيجة تختلف عن النتيجة التي وصل إليها أستاذه. وفحوى دليل الكندي أنّ كل ما في العالم متحرك، والحركة لا تتم إلاّ في زمان، فإذا كانت حركة كان الزمان، وإذا لم تكن حركة لم يكن زمان.

والحركة هي حركة فإذا كان جرم كانت حركة وإذا لم يكن جرم لم تكن حركة، فالجرم أو الكتلة والحركة والزمن لا يسبق بعضها بعضاً، بل تتساوى في الحدوث. والجرم متناه وحركته متناهية ولا يجوز أن تنخيل زمناً لا متناهيا إلاّ بالقوة(الإمكان). وبما أن الزمن في حقيقته متناه فلابد أن تكون له بداية. وبما أنه مقياس الحركة والحركة لا يمكن أن تكون بدون الموجودات المتحركة في العالم؛ فالحركة إذن محدثة والعالم محدث لأن له بداية في الزمن، وهو مخلوق لله تعالى. وهذا الدليل يتفق مع الاعتقاد الإسلامي في أن الله تعالى خلق العالم من العدم وهو الذي أبدع ما فيه من آيات لأنه سبحانه هو الخالق البارئ المصور والمبدئ والمعيد.

3- النفس:

أ‌)        تعريف النفس:

يعرف الكندي النفس في رسالة ((حدوث الأشياء ورسومها)) بأنها "تمامية جرم طبيعي ذي آلة قابل للحياة" أو "استكمال أول لجسم طبيعي ذي حياة بالقوة"[3]، وهذا ن التعريفان لأرسطو كما نعلم، والواقع أن الكندي ليس له رأي جديد في النفس، وإنما هو يُردد أقوال الأقدمين عنها وما يورده في رسالتيه الوجيزتين عن النفس مستمد من كتاب الربوبية المنسوب خطأ لأرسطو، وليس من كتاب ((النفس)) لأرسطو.

وإلى جانب التعريفين الأرسطيين السالفين نجد عند الكندي تعريفاً ثالثاً يظهر فيه تأثير أفلاطون، فهو يعرف النفس بأنها ((جوهر عقلي متحرك من ذاته))، وأنها جوهر إلهي روحاني بسيط لا طول له ولا عمق ولا عرض وهي نور الباري، والعالم الأعلى الشريف الذي تنتقل إليه نفوسنا بعد الموت هو مقامها الأبدي ومستقرها الدائم، أي أن الكندي يعترف صراحة بخلود النفس ولكنه لا يذكر هل وجدت قبل البدن كما يقول أفلاطون أم أنها وجدت معه كما تذكر النصوص الدينية.

رحلة النفس إلى العالم الأعلى:

وتختلف النفوس من حيث وصولها إلى المستقر الأعلى، فمنها ما يكون في غاية النقاء فيخلص إلى العالم الشريف ساعة مفارقته للبدن، ومنها ما فيه دنس وأشياء خبيثة فيقيم في كل فلك من الأفلاك مدة من الزمان حتى يتهذب وينقى ويرتفع إلى فلك كوكب أعلى، فيترقى صعداً من فلك القمر إلى فلك عطارد، ثم يصير إلى الفلك الأعلى: ((فإذا صارت إلى الفلك الأعلى ونقيتغاية النقاء، وزالت أدناس الحس وخيالاته وخبثه منا، ارتفعت إلى عالم العقل وطابقت نور الباري.

قوى النفس:

يذكر الكندي في موضع آخر من رسائله أن في النفس قوتين متباعدتين هما: الحسية والعقلية، وبينهما أخرى متوسطة هي القوة المصورة والغاذية والنامية والغضبية والشهوانية

1-   القوى الحاسة: وهي التي تدرك صور المحسوسات في مادتها، وينصب إدراكها على الصور الجزئية، وليست لها القدرة على تركيب الصور، وأما آلاتها فهي الحواس الخمس الخارجية

2-   القوى المتوسطة: ومنا القوة المصورة، أي المتخيلة وهي القوة التي توجد صور الأشياء الشخصية مع غيبة حواملها عن حواسنا، أي أنها تستحضر الصور المحسوسة مجردة من مادتها، وتستطيع مثلا أن تركب إنساناً برأس أسد.

3-   القوة العاقلة: وهي تدرك الموجودات أي صور الأشياء بدون مادتها. وموضوعات إدراكها على نوعين: المبادئ العامة كقانون العلية وقوانين الفكر الأساسية.

ابن سينا:

يعد ابن سينا "إمام فلاسفة الإسلام في دراسة النفس واهتم بها اهتماماً لا نجد له مثيلا لدى أحد من الفلاسفة السابقين عليه إطلاقاً. واهتمامه بالنفس جعله يُصنف أكثر من ثلاثين رسالة معرفة أحوالها وقواها وتعلقها بالبدن وجوهريتها وبقائها.فاتفق مع أرسطو بالقول إن النفس حادثة، وإن النفس صورة للبدن، واتفق مع أفلاطون بالقول بخلود النفس، ولعله لم يقف هذا الموقف الوسط إلا بتأثير العقيدة الإسلامية التي تقرر أن لا قديم إلا الله، وأن القول بخلود النفس ضروري لتحقيق معنى الثواب والعقاب"[4].

تعريفه للنفس: يعرف ابن سينا النفس بأنها"كمال لجسم طبيعي آلي ينمو ويتغذى"[5]، ويلاحظ على هذا التعريف أنه ينطبق تماماً على تعريف أرسطو للنفس في كتابه المسمى ((بالنفس))؛ وتعريف ابن سينا للنفس (بأنها كمال) إنما يرجع إلى النفس تعد كمالاً من جهة القوة التي يستكمل بها إدراك الحيوان، وتلك التي تصدر عنها أفاعيله[6].

أقسام النفس:

قسم ابن سينا النفس إلى ثلاثة أقسام، النفس النباية وهي كمال أول لجسم طبيعي آلي في إدراك الجزئيات وتحريك الإرادة، والنفس الحيوانية هي"كمال لجسم طبيعي آلي في إدراك الجزئيات وتحريك الإرادة، والنفس الإنسانية وهي "كمال أول لجسم طبيعي آلي في فعل الاختيار الفكري والاستنباط والاستقراء، أي إدراك الكلي بالنظر إلى أجزائه وإدراك الكليات المجردة.

براهين وجود النفس:

البرهان الطبيعي: وهو دليل استفادة ابن سينا من فلسفتي أفلاطون وأرسطو، ومؤداه أن أفعال الكائن الحي من تغذّ ونمو وتوليد وإحساس وحركةبالإرادة، لا يمكن أن تصدر عن الجسم وحده، ومن ثم لابد من التسليم بأنها تصدر عن مبدأ آخر في ذاتها غير الجسم وهو النفس.

البرهان النفسي: النفس المدركة عند الإنسان تختلف عن الكائنات غير المدركة، فأفعال الإنسان كالنطق وتصور المعاني الكلية العقلية المجردة ومعرفة المجهولا من المعلوم، كل هذه ليست أفعالً للجسم فلا بد أنها أفعال النفس.

البرهان الاستمراري: الجسم يخضع للتغير والتبدل ، لكن جوهر النفس يظل هو هو، ونستطيع أن نعرف ذلك من خلال الذكريات المترابطة، فّإذا تأمل الإنسان نفسه وجد أنه خلال عشرين سنة ظل هو هو، وإن تبدل جسمه وطرأ عليه كثير من التغيير والتبدل، فالذات مستمرة الوجود.

برهان الإنسان المعلق: فحوى هذا الدليل أن الإنسان، وإن كان طائراً أو معلقاً في الهواء، يستطيع أن يغفل عن أعضاء بدنه، لكنه لا يستطيع أن يغفل عن نفسه وشعوره بإنيته، وهذا برهان على وجود النفس

استنتاج: وإذا كان ابن سينا قد أخذ كثيراً من آرائه النفسية عن أفلاطون وأرسطو والفارابي، إلاّ أن النتائج التي توصل إليها تختلف عن نتائجهم اختلافاً بيناً، سواء من حيث العمق أم من حيث الاتساع والشمول، أم من حيث الغرض والغاية.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

المحاضرة الثامنة: تابع  قضايا الفلسفة الإسلامية

4- نظرية الصدور(الفيض):

 تعد فكرة (( الخلق من العدم)) فكرة دينية في المقام الأول، ويقابلها فكرة((الصنع أو الإحداث)) في الفلسفة[7]؛  والدين المنزل حينما بلغ الإنسان بواسطة الرسل والأنبياء، صور الله تعالى ووصفه بصفات مباينة لغيره من موجودات، وترتب عن هذا التباين الكلي تباين آخر في الفعل والإيجاد، ومن هنا أقرت الديانات السماوية المنزلة أن الله تعالى قد خلق هذا العالم بعد أن لم يكن له وجود، خلقه من العدم دونما سابقة، ودون مدة من الزمن.

أما العقل الإنساني ممثلا في الفلسفة فلم يستطع ((تعقل)) هذه الفكرة الدينية(على الأقل قبل نزول الديانات)، ومن ثم حاول أن يفسر العلاقة بين الله سبحانه علة للإيجاد والصنع، وبين العالم باعتباره معلولا لله تعالى، ومن جملة هذه المحاولات ظهر لنا القول بالفيض أو الصدور الذي ذاع صيته وانتشر في العالم الإسلامي.

والواقع أن مشكلة الموجودات، وكيف صدرت عن الله سبحانه، قد شغلت فلاسفة العرب إلى حد كبير جدا، أي كيف صدرت الكثرة عن الواحد؟

منهم من اتجه في حلّها اتجاهاً أفلوطينياً من بعض زواياه لا من كلها، مضيفاَ إليه أبعاداً إسلامية قليلة جدا، وعلى رأس القائلين بذلك الفارابي وابن سينا اللذين ارتضيا القول بأنه ((لابد أن يصدر عن الواحد واحد مثله)) وهو ما نعرفه بالفيض أو الصدور، ومنهم من لم يرتض القول بذلك، بل فسر مشكلة العلاقة بين الواحد والكثير تفسيراً بعيداً كل البعد عن موقف الفارابي وابن سينا، ومن بين القائلين بهذا ابن رشد فيلسوف المغرب العربي الذي نقد القول بالفيض نقدا عنيفاً

والفيض في مفهومه الفلسفي يعد مشكلة فلسفية وضعها أصحاب الأفلاطونية لتفسير كيفية خلق العالم، ثم انتقلت إلى العالم الإسلامي فصاغها بعض فلاسفة الإسلام صياغة  عقلانية جديدة دينية.

يقول الفارابي كما قال أفلوطين(352ق.ه- 270م) في كتاب الربوبية(إيثولوجيا) إن الله لم يخلق هذا العالم الفاسد(المتغير) لكن العالم فاض عنه فيضاً وصدر عنه صدوراً عقلياً. والموجودات جميعاً تصدر عن علم الواحد. فالله يعقل ذاته ويصدر عنه العالم نتيجة لعلمه بذاته. والفيض يصدر آلياً عن الواحد. وهنا يكرر الفارابي نظرية الفيض الأفلوطينية الإشراقية دون تعديل أو تبديل في مضامينها الأساسية التي تخرج عن الاعتقاد الإسلامي، لأن القول بفيض الوجود عن الله تعالى تلقائياً دون إرادة منه سبحانه، فيه تعطيل لصفة من صفاته، جلّ شأنه هي صفة الخلق، فالله هو الخالق الرازق المحيي المميت، وفيه تعطيل لصفة الإرادة، فالله مريد لما يخلق، فعّال لما يريد، والفارابي بقوله هذا قد دخل في زمرة المعطلة.

أما كيف تصدر الموجودات عن الله، فالواحد عند الفارابي لا يصدر عنه إلا واحد لأنه عقل مفارق للمادة لا يقبل التكثر، فالفيض يصدر عن فعل التعقل الإلهي، ويتم صدور العقول عنه تنازلياً. ومراتب الوجود حسب هذا الترتيب تكون ستة.

يصدر في المرتبة الأولى العقل الأول، وهو ممكن الوجود بذاته وواجب الوجود بالأول. والعقل الأول يعقل ذاته فتصدر عنه الموجودات التي هي دونه لكونه عالماً بذاته وبأنه مبدأ النظام والخير في الوجود على ما يجب أن يكون عليه، وإنما علمه هو العلة لوجود الأشياء. ومن العقل الأول يفيض العقل الثاني الذي هو أيضاً جوهر غير مادي فيعقل الأول فيلزم عنه وجود العقل الثالث، ويعقل ذاته فتصدر عنه السماء الأولى. وكذلك العقل الثالث يعقل الأول فيصدر عنه عقل رابع ويعقل ذاته فتصدر عنه كرة الكواكب الثابتة. والعقل الرابع يعقل الأول فيصدر عنه عقل خامس ويعقل ذاته فيصدر عنه كرة زحل. والعقل الخامس يعقل الأول فيصدر عنه  عقل سادس ويعقل ذاته فتصدر عنه كرة المريخ ، والعقل السابع يعقل الأول فيصدر عنه عقل ثامن ويعقل ذاته فيصدر عنه وجود كرة الشمس. والثامن يعقل الأول فيصدر عنه عقل تاسع ويعقل ذاته فيصدر عنه وجود كرة الزهرة. والتاسع يعقل الأول فيصدر عنه عقل عاشر ويعقل ذاته فيصدر عنه وجود كرة القمر. أما العقل الحادي عشر، فهو عقل يعقل ذاته ويعقل الأول وعنده ينتهي وجود العقلا والمعقولات، كما تنتهي عنده كرة القمر والأجسام السماوية التي تتحرك دوراً. ويوجد دون فلك القمر عالم الكون والفساد أي عالم الصيرورة والتغير، وتتسلسل الكائنات في عالم الكون والفساد من الأخس من الأخس إلى الخسيس حسب العنصر والمادة إلى أن تصل إلى مراتب المعادن فالنباتات والحيوانات غير الناطقة فالحيوان الناطق الذي لا يوجد أفضل منه. وكل موجود يحتاج في وجوده إلى مادة يُخلق منها وصورة يُخلق عليها. وهكذا كان تصور الفارابي للخلق.

يقول أبو البركات البغدادي(560ه- 1165م) عن عقول الفارابي: ((إن فلاسفة الإسلام أوردوها بدون برهان ووضعوها وضعاً بدون تحقيق أو بحث))، ويضيف قائلا: (( كان الأحرى بهم أن يقولوا إنها وحي حتى يكف الناس عن التشنيع عليهم))، ويقول ابن رشد: ((إن هذه الأشياء هي التي أضاعت هيبة فلاسفة الإسلام وجعلت الغزالي يُنعى عليهم تهافتهم)).

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

المحاضرة التاسعة: التصوف

مقدمة:

يمثل التصوف بشكل عام نزعة إنسانية ظهرت في كل الثقافات بصورة متفاوتة، وهي في جوهرها تعبير عن إشباع الجانب الروحي والزهد في متع الحياة الفانية، والركون إلى قوة أعلى، ورغبة في التعالي عن الشهوات المادية، بغية الارتقاء في سلم الصفاء الروحي والوصول إلى السعادة.

والمسلمون ليسوا بدعاً في نزوع طوائف منهم إلى التحلي بهذه الصفة ونبذ المتع والزهد في الشهوات، والسعي نحو الرقي الروحي، غير إن لكل مجتمع خصائصه التي تميزه من منطلق عقيدته التي ؤمن بها، لذلك نجد التصوف في المجتمع الإسلامي في منطلقاته وقيمه يستند إلى تعاليم الدين، فهو امتداد لطريقة الزهد عند الرسول صلى الله عليه وسلم وعند الصحابة والتابعين رضوان الله عنهم جميعا، وظهور التصوف كان حالة طبيعية لمجتمع تكون ثقافته إسلامية متكاملة، فهو قائم على النزعة الروحية المستمدة من الزهد على أساس الدين، وسنتعرف من خلال هذه المحاضرة على مفهوم التصوف، وعلى مصادره ونشأته والمراحل التي مر بها في تطوره.

الإشكالية:  فما هو مفهوم التصوف في اللغة والاصطلاح؟  وكيف نشأ التصوف الإسلامي؟ وما هي أبرز المراحل التي مر بها؟ وما هي مصادر التصوف الإسلامي؟

أولا: ــــــ المفهوم اللغوي للتصوف:

تعددت الآراء واختلفت وجهات نظر الباحثين ومؤرخي التصوف في الأصل الاشتقاقي اللغوي لمفهوم التصوف، ولقد ورد مفهوم التصوف في معاجم وقواميس اللغة تحت مادة (صوف) على عدة معان منها إطلاق كلمة (صوف) على الصوف المعروف من شعر الحيوانات، قال الله تعالى: ﴿ ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثا ومتاعا إلى حين﴾ (سورة النحل: 80).

والطوسي أيضا يؤكد ذلك حيث يقول: " كذلك الصوفية عندي نسبوا إلى ظاهر اللباس، ولم ينسبوا إلى نوع من أنواع العلوم والأحوال التي هم بها متمرسون، لأن لبس الصوف كان آداب الأنبياء عليهم السلام، والصديقين وشعار المساكين المتسكعين"[8] فلبس الصوف خشن، وكانوا يؤثرون لبسه دليلا على التقشف والخشونة.

وقيل: " إن الصوفية ينتسبون إلى الصفاء، وأنهم سموا صوفية لصفاء أسرارهم وشرح صدورهم وضياء قلوبهم، صفاء القلب والروح والخلق، فالصوفية أكثر الناس صفاء"[9].  وهذا يرجع إلى حال الصوفية، وليس إلى الاشتقاق اللغوي، ويرى القشيري أن هذا غير صحيح لأن نسبة الصفاء هي صفائي"[10].

وأنها مشتقة من الصف الأول، لأن الصوفية يقفون فيه أمام الله جلا وعلا لارتفاع همومهم إليه وتقربهم إليه، ووقوفهم بسرائرهم بين يديه[11].  

وبالعودة إلى القواميس اللغوية نجد أن أغلب التعريفات ترجع لفظ التصوف إلى لباس الصوف، الذي هو لباس التواضع، ولذلك فإن الأنبياء والنساك يرتدونه، ثم صار يُطلق على الزهاد حتى ولو لم يلبسوه؛ لأن زهدهم قائم في عزوفهم عن كل الرغبات والأهواء في حياتهم، ولأن قلوبهم متعلقة بالله وحده .

ثانيا:  المفهوم الاصطلاحي للتصوف :

مفهوم التصوف من المفاهيم التي لم يُتفق على تعريفها لغة واصطلاحا ، فمن الصعب أن نحصر تعريفاً جامعاً مانعاً للتصوف ؛ لأن التصوف مرّ بالعديد من الأدوار والمراحل والتغيرات ، فلابد أن يختلف مفهومه من عصر لآخر، بالإضافة أن التصوف تجربة روحية فردية ، وهذه التجربة تختلف من شخص إلى آخر ، فيختلف معنى التصوف من صوفي إلى آخر باختلاف تجاربه. وسوف نعرض بعض من هذه التعريفات على سبيل المثال لا الحصر :

1-   تعريف الجرجاني: " هو علم القلوب الذي يبحث في أحوال النفس الباطنة ، ويسعى إلى تصفية القلوب والطهر والتجرد ، ويؤدي إلى الاتصال بالعالم العلوي"[12] .

2-   تعريف أبو حامد الغزالي: ويعرفه حجة الإسلام أبو حامد الغزالي بأنه : "هو طرح النفس في العبودية، وتعلق القلب بالربوبية ، فإن تصفية القلب عن مرافقة البرية ومفارقة الأخلاق الطبيعية وإخماد الصفات البشرية ومجانية الدواعي النقائية ومنازلة الصفات الروحانية، ) والتعلق بالعلوم الحقيقية ، وإتباع رسول الله في الشريعة"[13].   

3-   تعريف ابن سينا :"هو ذلك الإنسان المنصرف بفكرة إلى قدس الجبروت ، مستديماً لشروق نور الحق في سره"[14].

4-   تعريف ابن خلدون:  التصوف هو:" العكوف على العبادة والانقطاع إلى الله تعالى والإعراض عن زخرف الدنيا والزهد فيما يقبل عليه الجمهور من لذة ومال وجاه والانفراد عن الخلق في الخلوة للعبادة"[15].

ويعرف الطوسي الصوفية في اللمع بأنهم : "هم العلماء بالله وأحكام الله العاملون بما علمهم الله تعالى ، المتحققون بما استعملهم الله عز وجل ، الواجدون بما تحققوا  ) الفانون بما وجدوا ، لأن كل واجد قد فنى بما وجد"[16].  

ويفهم من كل ما سبق أنّ التصوف تهذيب النفس وتطهير القلب من الرذائل والخطايا ،ومجاهدة النفس للحد من الشهوات ،فهو يرتقي بالإنسان إلى تهذيب سلوكه ،عن طريق السمو عن الشهوات ، للفوز برضا الله والفوز بسعادة الدارين .يترجح لدى الباحثة من خلال عرض التعريفات السابقة تعريف ابن خلدون للتصوف ،لأنه يدل على معنى التصوف وجامع لمعظم التعريفات السابقة

 

نشأة التصوف ومراحل تطوره :

أولا:  نشأته:

يعتبر التصوف الإسلامي امتداداً لحركة الزهد التي نشأت في القرنين الأول و الثاني الهجريين ، فالزهد إسلامي النشأة ، والقرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة حثا على الزهد قال الله تعالى في سورة آل عمران الآية 14: ﴿ زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَٰلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللهُّ عِندَ هُ حُسْنُ الْمَآبِ﴾، فهذه الآية الكريمة تحذر المسلمين من متع الحياة وملذاتها كالنساء والأبناء والذهب والفضة ؛ لأنها تبعد العبد عن إخلاص العبادة لله، فما عند الله أبقى والحياة زائفة..ولنا في رسول الله  أسوة حسنة ، فقد كان زاهداً في أكله وشربه ولباسه ، وكان لباسه الصوف وهو لباس الفقراء والمساكين .

يرى بعضهم أن مفهوم التصوف استحدث بعد عهد الرسول والصحابة ، فابن الجوزى يؤكد على أن لفظ الصوفية استحدث ولم يكن معروفاً في عهد الرسول والصحابة " كانت النسبة في عهد رسول إلى الإيمان والإسلام فيقال : مسلم ومؤمن ، تم حدث اسم زاهد وعابد ، تم نشأ أقوام تعلقوا بالزهد والتعبد فتخلوا عن الدنيا، وانقطعوا إلى العبادة ، واتخذوا في ذلك طريقة تفردوا بها ،

وأخلاقاً تخلقوا بها ... وهذا الاسم ظهر للقوم قبل سنة مائتين ، ولما أظهر أوائلهم تكلموا فيه ، وعبروا عنه صفته بعبارات كثيرة"[17].

ويرد الطوسي على من قال إن الصوفية لفظ مستحدث " إن سأل سائل فقال : لم نسمع بذكر الصوفية في أصحاب رسول الله )صلى الله عليه وسلم ( ورضي الله عنهم أجمعين ، ولا فيمن كان بعدهم ، ولا تعرف إلا العباد والزهاد والسائحين والفقراء ،

وما قيل لأحد من أصحاب رسول الله صوفي ، فنقول وبالله التوفيق : الصحبة مع رسول الله وسلم  لها حرمة ، وتخصيص من شمله ذلك ، فلا يجوز أن يعلق عليه اسم على أنه أشرف من الصحبة ، وذلك لشرف رسول الله صلى الله وعليه وسلم ( وحرمته ... وأما قول القائل : إنه اسم محدث أحدثه البغداديون فمحال ؛ لأنه في وقت الحسن البصري* (رحمه الله ( كان يعرف هذا الاسم وكان الحسن قد أدرك جماعة من أصحاب رسول الله) ورضي عنهم ) ففي الصدر الأول من الإسلام لم تكن هناك حاجة إلى التصوف ؛ نظراً لقربهم من الرسول واتصالهم به ، فلفظ الصحابة أشرف من أي لفظ آخر ، شرف صحبة رسول الله ، ولا يعلو عليه شرف ، فكان يطلق عليهم لفظ الصحابة والتابعين وأهل البيعة والمؤمنين والمسلمين ، فهم أهل تقوى وورع وعبادة ومجاهدة ، فهم صوفيون فعلاً ، وإن لم يطلق عليهم متصوفة ، فهم لم يكتفوا بفروض الإسلام ، واقترنت لديهم بالتذوق والوجدان ، وابتعدوا عن المحرمات والمكروهات ، حتى استنارت قلوبهم وفاضت بالإسرار الربانية بصائرهم .

وفي القرن الأول لم يعرف اسم التصوف؛ بل كان أهله يعرف باسم الزهاد والنساك والبكائين ، وليس باسم الصوفية ، وكان اعتقادهم صافياً وإيمانهم نقياً خالصاً، وما كان ابتعادهم عن الدنيا إلا لارتياعهم من عذاب الآخرة ، وهرعوا إلى الكهوف 97والمغاور ورؤوس الجبال حيت الوحدة الصافية والانعزال عن صخب الحياة المادية،  وقد ظهرت مجموعة من الزهاد الأوائل منهم الحسن البصري المتوفى 110 ه ، ومالك بن دينار المتوفى 131 ه ، وإبراهيم بن الأدهم المتوفى 161 ه ، وغيرهم كمثال الزهد الممتد من عهد الصحابة )رضي الله عنهم (" وكان الحسن البصري أشهر هؤلاء الزهاد في العصر الأول ، وظهرت من بينهم طائفة عرفوا ب )البكائين( لفرط بكائهم تحسراً على ما اقترفوه من الذنوب، ولو كانت يسيرة، طمعاً في نيل عفو الله ورجاء لغفرانه، فكانت السمات المميزة لتلك الحركة الزهدية العظيمة المبالغة في التعبد تقرباً إلى الله بالنوافل والذكر وشدة العناية بالناحية الأخلاقية ، ومن أهم  مظاهرها التوكل باعتباره أساً من أسس الأخلاق الصوفية[18]. وكان أول ظهور للتصوف في البصرة وهذا ما أكده ابن تيمية  فإنه" أول ما ظهرت الصوفية في البصرة"[19] .

بعد الفتوحات الإسلامية اختلط المسلمون بشعوب وحضارات وثقافات مختلفة ، وانغمس المسلمون في حياة الترف والملذات ، كرد فعل على هذه الحياة اتجه المسلمون المتشددون ، وخاصة عند أهل البصرة والكوفة إلى المغالاة في سلوكهم التعبدي ، الانعزال عن الدنيا والابتعاد عن النهج الإسلامي الصحيح ، وأيضاً ما حصل في المجتمع الإسلامي من الفتوحات والحروب وإراقة الدماء أسهم في ظهور المتصوفة الذين فضلوا العزلة على إراقة دماء المسلمين[20] .

المحاضرة العاشرة: مراحل التصوف وتطوره :

لقد مرّ التصوف الإسلامي بعدة أدوار ومراحل تاريخية ، و تميز كل دور بخصائص مميزة ، ولمع فيها العديد من الشخصيات التي كان لها تأثير كبير في بيئتها المعاصرة وفي العصور اللاحقةن وتتجلى هذه المراحل على النحو الآتي:

-1 المرحلة الأولى: مرحلة القرنين الأول والثاني الهجريين( مرحلة الزهد) :نشأت تحت تأثير عوامل إسلامية صرفة وكان سبب نشأته سببان :السبب الأول: تعاليم الإسلام ، التي منبعها القرآن والسنة والتي تدعو إلى الزهد والتبتل والعبادة وقيام الليل. 198

والسبب الثاني:- اتساع الرقعة الإسلامية ، وما نتج عنها من حياة البذخ والترف التي صاحبت الفتوحات الإسلامية ، واطلاعهم على حضارات وثقافات الشعوب الأخرى، فأثار ذلك حفيظة مجموعة من المسلمين فاعتزلوا حياة البذخ والترف، والحياة السياسية وإراقة الدماء كمقتل عثمان بن عفان ) رضي الله عنه ( ، ومقتل على بن أبي طالب ) رضي الله عنه ( ، ومقتل عدد من الصحابة ، جعل بعضاً من المسلمين يعتزلون الحياة تعففاً منهم ، والاتجاه إلى القرآن والسنة ، فظهر الزهد ، ويعد الحسن البصري  مثالاً لهذه الحركة.

-2 المرحلة الثانية : مرحلة القرنين الثالث والرابع الهجريين، تطور الزهد لم يعد فردياً بل أصبح حركة منتظمة يطلق عليها التصوف ، وأخذ الصوفية يتحدثون في مواضيع جديدة كالسلوك والمقامات والأحوال والمعرفة ومناهجها والتوحيد والفناء ، وهناك نوعان من التصوف في هذين القرنين أحدهما : سني يتقيد بالكتاب والسنة ويعتمد عليهما باعتبارهما مصدرين من مصادر التصوف ، ويبتعد هذا النوع من التصوف عن الشطحات الصوفية والكرامات الخارقة ، وهذا هو التصوف المقبول، والثاني فلسفي يمتزج فيه الذوق بالنظر العقلي ، ينطلق هذا النوع من الفناء ، إلى مرحلة الاتحاد والحلول ، وهذا النوع مرفوض " وفي هذا القرن وما بعده تولدت بعض الأبحاث الصوفية ، وظهرت تعاليم القوم ونظرياتهم التي تواضعوا عليها ، وأخذت هذا الأبحاث تنمو وتتزايد كلما تقادم العهد عليها ، وبمقدار ما اقتبسه القوم من المحيط العلمي الذي يعيشون فيه تطورت هذه الأبحاث والنظريات، ولقد استفاد المتصوفة من الفلاسفة والمتكلمين والفقهاء ، ما كان له الأثر الأكبر في هذا التطور الصوفي ، غير أنهم أخذوا من الفلسفة بحظ وافر، بل كونوا فلسفة خاصة بهم ، حتى أصبحنا نرى بينهم رجالاً أشبه بالفلاسفة منهم بالمتصوفة ، وأصبحنا نرى بعضهم

يدين بمسائل فلسفية لا تتفق ومبادئ الشريعة، مما أثار عليهم جمهور أهل السنة، وجعلهم يحاربون التصوف الفلسفي، ويؤيدون التصوف الذي يدور حول الزهد، والتقشف وتربية النفس وإصلاحها"[21].

لقد تعرض بعض المتصوفة ومن بينهم الحلاج*  إلى الاضطهاد من قبل الفقهاء والمتشددين "وظهر الخلاف على حقيقته حوالي منتصف القرن 3ه/ 9 م بين فقهاء البصرة والكوفة ومتصوفتهما ، تم تلته سلسلة من الاضطهادات في مصر والشام والعراق انتهت بمأساة الحلاج  بتعذيبه ومقتله، وفي القرن الخامس الهجري  استمر التصوف السني المعتدل ويمثله أبو حامد الغزالي* ، حيث حاول إرجاع التصوف إلى مسلكه الصحيح وإلى مصدره الإسلامي السني المعتدل، وقد أصبح كتابه ) إحياء علوم الدين( مصدر اً  للتصوف السني من غير جدال. فتصوف الغزالي مثال للتصوف الإسلامي المعتدل المستمد من القرآن الكريم والسنة النبوية ، ومن أبرز كتبه في التصوف إحياء علوم الدين والمنقذ من الضلال .

-3 المرحلة الثالثة : مرحلة القرنين السادس والسابع الهجريين، و تتميز بظهور التصوف الفسلفي ، نظراً لتأثيره بالمؤثرات الخارجية كالفلسفة اليونانية ، والفارسية والهندية والمسيحية واليهودية ، ويبدو تأثير الفلسفة اليونانية على التصوف الإسلامي من خلال الأفلاطونية المحدثة وتأثيره على المذهب الإشراقي، ويعد السهروردي  * مثالاً لهذا المذهب، والذي لا يخرج عن كونه نسيجاً محكماً (على منوال مدرسة ابن سينا الإشراقية المتأثرة بالأفلاطونية المحدثة[22]، وتأثيرها أيضاً يظهر واضحاً على محي الدين ابن عربي**** القائل  بوحدة الوجود كوسيلة حاول بها الجمع والتوفيق بين نصوص الشرع المنزل والأنظار الفلسفية التي استمدها من دوائر الفكر الأجنبي .

وبعد هذه المرحلة أصيب التصوف بنوع من التدهور ، فلم يُضَف جديد بعد القرن السابع الهجري ، إلا مجرد شروح وترديد لمن سبقهم من المتصوفة الأقدمين.

مصادر التصوف :لقد تأثر التصوف في مراحل تطوره المختلفة بمصادر إسلامية داخلية ومصادر خارجية.

أولا: المصادر الداخلية :

التصوف الإسلامي منبعه القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة ، فهما عبارة عن مدرستين عمليتين لتطبيق العقيدة والشريعة ، والسلوك الإسلامي الصحيح للصحابة والتابعين ، فهو تطبيق عملي لأحكام الشريعة والموعظة الحسنة .فلا شك أن المصادر الداخلية هي السبب في النشأة ؛ لأنها أكثر تأثيراً من المصادر الخارجية ؛ لأنه لابد أن يكون مهيأ ومستعداً للاستقبال بما هو موجود لديه من موروث ، قال تعالى: ﴿ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَىٰ رَبِّي ﴾( الصافات الآية 99) ، هذه أية قرآنية وقد علمها المسلم قبل أن يعلم الأفلاطونية المحدثة أو النصرانية أو اليهودية أو الهندية أو الفارسية ، وذكر الغزالي أنه أطلّع علي كتب الصوفية ولم تجعل منه متصوفاً ،لأن التصوف ذوق ومشاهدة وتصفية القلب » فابتدأت بتحصيل علمهم من مطالعة كتبهم مثل قوت القلوب لأبي طالب المكي - رحمه الله - وكتب الحارث المحاسبي ، المتفرقات المأثورة عن الجنيد والشبلى ، وأبي يزيد البسطامى- رحمهم الله - وغير ذلك من كلام يمكن أن يحصل عن طريقهم بالتعليم والسماع[23]. 

أ- القران الكريم :

يتضمن القرآن الكريم العديد من الآيات التي تشير إلى الإعراض عن الدنيا والتوجه إلى الآخرة . قال تعالى: ﴿ اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ﴾(الحديد: 20 ) ، وقال أيضا ﴿ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَ لَا أَوْلَادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللهِّ وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ﴾(المنافقون:9) ، فالقرآن الكريم هو المصدر الأول للشريعة الإسلامية دعا إلى الزهد، ويحذر من أن الحياة لعب ولهو ومتاع الغرور وإنها فانية وزائلة والبقاء للآخرة ، كما يحتوي على آيات تشير إلى المقامات والأحوال عند الصوفية فهذه الآية تشير إلى التقوى " ﴿قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخرةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً سورة الحجرات، الآية 13، وأخرى تشير إلى الزهد ﴿ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخرةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى﴾ (النساء: 77 (، وأيضاً إلى التوكل﴿وَعَلَى اللهِّ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ( التوبة: 51)، وفي الأحوال هناك آيات تشير إلى الحزن كما جاء في سورة فاطرن الآية 34 ﴿ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلهِّ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَن المعنى :الحزن أي الدنيا لأنها دار الحزن ، والخوف ﴿ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ ﴾( السجدة : 16)،  كما دعاهم إلى التحمل والصبر ﴿ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُ وبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى ( طه:130) ، فالصوفية يستمدون إلهامهم من القرآن الكريم ، ففيه إشارات واضحة إلى الزهد والانصراف عن الملذات الدنيوية ، فبعض من صفات الصوفية موجودة في القرآن الكريم ، وأشار الله إليها بقوله سورة التوبة الآية الآية 112:﴿التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللهِّ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ﴾  وقوله تعالى:﴿ مُسْلِمَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ﴾(التحريم: 5) ، فالقرآن الكريم يدعو إلى الزهد ويؤكد عليه في الكثير من آياته ، حتى يتمكن الإنسان من أن يطهر قلبه عن طريق التعبد والتنسك ويكون هناك اتصال بين الله والعبد ، وهذا ما فسح المجال أمام الصوفية .

ب- السنة النبوية المطهرة :

هي المصدر الثاني للدين الإسلامي ، وقد استمد من القرآن الكريم ، فهو التطبيق  العملي له  وتفسير لما جاء فيه ﴿وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ [24]. وقوله تعالى ﴿ لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِّ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللهَّ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ﴾ (الأحزاب: 21)  ، لنا في رسول الله أسوة حسنة وقد كان مثالاً للزهد ، فكان زاهداً في الحياة وزخرفها ، زاهداً في أكله وشربه ولباسه ، حتى قبل نزول الوحي عليه وقبل البعثة ، فكان يتعبد في غار حراء ، زاهداً ومتأملا في الحياة ، إن تعبد الرسول في غار حراء مع زهده في الأكل والشرب جعلت الصوفية يستمدون منها مشروعية اعتزالهم في زهدهم في الحياة ، فمعرفة الله هي معرفة إشراقية إلهامية لدينه استنادا لما جاء في القرآن الكريم﴿وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا [25]، فالرسول كان زاهداً عابداً ، وكانت نساء الرسول وأهل بيته وأمهات المسلمين زاهدات أيضاً قانعات بقلة المال وضعف الحال ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَ رَاحًا جَمِيلًا وَإِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ اللهَّ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللهَّ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ أَجْرًا عَظِيمً  ﴾( الأحزاب: 28-29).

فالصوفية مستمدة أيضا  من الأحاديث النبوية الشريفة ، فعن أبي هريرة ، قال رسول الله يقول الله عز وجل ﴿ أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه حين يذكرني، إن ذكرني في نفسه، ذكرته في نفسي ﴾.

لقدكان رسول الله قدوة حسنة لنا ، فقد كان زاهداً ولكنه لم يكن مبالغاً في تزهده ، فلم يكن منقطعاً على العمل؛ لأن العمل عبادة ، ولا على الجهاد في سبيل الله ، ولا على الزواج ولا على النوم ، فعن أنس بن مالك - رضي الله عنه قال : " جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي ، فلما أخبروا كأنهم تقالوها ، فقالوا: وأين نحن من النبي ، قد غفر الله له من ذنبه ما تقدم وما تأخر؟ قال أحدهم أما أنا فإني أصلى الليل أبداً ، وقال آخر أنا أصوم الدهر ولا أفطر ، وقال آخر أنا اعتزل النساء فلا أتزوج أبداً ، فجاء رسول الله إليهم فقال» أنتم الذين قلتم كذا وكذا" أما والله لأخشاكم لله واتقاكم له ، لكنى أصوم وأفطر ، وأصلى وأرقد، وأتزوج النساء ، فمن رغب عن سنتي فليس مني[26]. فمن خرج عن سنة الرسول خرج عن ملته ، لأنه بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار .وقد سار الصحابة على منهج الرسول) ، وقد أوصى الرسول بالسير على نهجه ونهج الصحابة فقال عليه السلام " فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عضواً عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة[27] ، وأوصى عليه السلام بأصحابه والاقتداء بهم ، فمن أحبهم أحب الرسول ، ومن آذاهم فقد آذى الرسول ومن آذي الرسول فقد آذى الله .

لقد كانت حياة الصحابة والخلفاء الراشدين مصدر اً للزهد ومن ثم التصوف المعتدل، ويجمل الطوسي الحديث عنهم في كتابه اللمع فيقول " فمن ترك الدنيا كلها وخرج من جميع ما يملك فجلس على بساط الفقر والتجريد بلا علاقة فإمامه أبوبكر الصديق رضي الله عنه ، ومن أخرج بعضها وترك البعض لعياله ولصلة الرحم وأداء الحقوق فإمامه فيها عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ومن جمع لله ومنع لله وأعطى لله وأنفق لله فإمامه فيها عثمان بن عفان رضي الله عنه ، ومن لا يحوم حول الدنيا ، وإن جمعت عليه من غير طلبه رفضها وهرب منها فإمامه في ذلك علي بن أبي طالب رضي الله عنه[28] ، كان الصحابة في زهدهم وإعراضهم عن زخرف الحياة وملذاتها نموذجاً للمسلمين وقد اقتدوا بالرسول، فكانوا يقرءون القرآن بتمعن وتأمل في الليل ، وفي النهار يمارسون أشغالهم ، فحياة الصحابة يغلب عليها الزهد المعتدل القائم على الكتاب والسنة ، وكان الصحابة مثالاً للزهد والتصوف المعتدل وكذلك التابعون أساس التصوف هو القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة ، حيت استمد منه المسلمون التصوف المعتدل.

ثانيا : المصادر الخارجية :

التصوف الإسلامي ظاهرة إسلامية نبتت في جو الإسلام وبيئته ، وتأثرت أساساً بفعل النبي وأصحابه ، واعتمدت على ما جاء في الكتاب والسنة من حكمة وموعظة ، لكنها لم تسلم مما سرى إلى العالم العربي من عوامل خارجية، وكان لابد لها أن تتأثر بها وتأخذ عنها ، و لا ننكر تأثر التصوف بعناصر غير إسلامية في مراحل تطوره ، ولكن ليس معنى ذلك إن هذه العناصر هي الأساس في التصوف الإسلامي كما برغم الكثير من المستشرقين ، ومن هذه المصادر :

أ- الديانة المسيحية : انتشرت المسحية في ربوع الجزيرة العربية والبلاد التي امتد إليها الفتح الإسلامي ، وإلى جانب أن معظم من قام بحركة الترجمة في العصور الإسلامية كانوا من النصارى ، كما ذكر بعض مؤرخو الفرق إن بعض متصوفة  الإسلام كان في الأصل مسيحياً ، وإن يرتد أصله إلى المسيحية.

يؤكد بعض المستشرقين على أثر المسيحية في التصوف الإسلامي ، من خلال التواصل بين العرب والنصارى قبل الإسلام وفي الإسلام ، كما يؤكدون _ أيضاً _على أن هناك تشابهاً بين الرهبان المسيحيين في الأقوال واللباس وبين المتصوفة في ) التعاليم كالخلوة والعزلة والرياضة وكثرة الذكر والصلوات وهذا ما أكده نيكلسون " من الجلي أن ميول الزهد والتأمل التي أشرت إليها كانت على وفاق مع الفكرة المسيحية ، ومنها استمدت أسباب قوتها ، فكثير من نصوص الإنجيل ومن الأفعال المنسوبة إلى المسيح مقتبس في أقدم تراجم الصوفية ، والرهبانية المسيحيون كثيراً ما كانوا يظهرون في مقام المعلمين ، يولون النصح والتسديد لزهاد المسلمين المتنقلين ، وقد رأينا أن ثوب الصوف - الذي منه جاء الصوفي - مسيحي الأصل ، ونذروا الصوم عن الكلام ، والذكر ، ورياضيات الزهد الأخرى لعلها ترد إلى هذا الأصل نفسه.  

ويمكن الرد على دعاوى المستشرقين أن هناك فرق اً واضح اً وجلي اً بين التصوف والرهبنة ، فالتصوف الإسلامي لا يتجه إلى تعذيب البدن والانقطاع عن العالم كالرهبان المسيحيين ، بل يكون بالصوم والصلاة والصبر والمجاهدة ،وقد ذكر القرآن الكريم الرهبانية المسيحية وأنها مبتدعة من بعد عيسى عليه السلام﴿ "ورهبانية ابتدعوها   ابتدعوها الرهبان من عند أنفسهم عبادة  والتزموا بها من أجل إرضاء الله وما رعوها حق رعايتها ، ولنا في رسول الله والصحابة خير قدوة في التصوف الإسلامي الصحيح.

لا ننكر أن هناك تشابه اً بين التصوف والمسيحية ، ولكن هذا ليس دليلاً على أن التصوف مبادئه مسيحية ، ولقد أشار القرآن الكريم إلى الرهبان والقسيسين قال تعالى ﴿ أقربهم مودة للذين أمنوا الذين قالوا إنا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون﴾. فالمسيحين أقرب وألين في التعامل مع المسلمين .

ب- الديانة الفارسية : انتشر الإسلام في بلاد فارس ، وأعتنق أهلها الإسلام ، وتؤكد هذه الديانة أن التحرر من القيود المادية للوصول إلى الحياة الروحية لا يكون إلا بالتحرر من قيود الجسد للوصول إلى الطهارة ، ويرى بعض المستشرقين أن أهل فارس لما اعتنقوا الإسلام نقلوا هذه التعاليم إلى الإسلام ، وأثر ذلك على التصوف الإسلامي .

ج- الديانة البوذية الهندية:  يرى البعض أن تأثير الديانة الهندية على التصوف الإسلامي في التأمل والحلول الذي قال به حكماء الهنود من البراهمة فالكهنة يصلون بالتأمل إلى الكمال الروحي ومنه إلى الحلول ، وأيضاً إلى التناسخ والفناء حيت تخرج

الروح من جسد لآخر، والفناء المطلق هو عودة الروح إلى أصلها وتحل في الله ، هناك اختلاف واضح وصريح بين التصوف الإسلامي وبين الفكر البوذي الهندي فالمتمعن في تجارب الصوفية تبين له إن هناك اختلاف اً بينهما وبين نظريات التناسخ

والحلول عند الهنود .

إن تأثير البوذية ليس قويا على التصوف الإسلامي " الفحص الدقيق يظهر أن التأثير البوذي لا يمكن أن يكون قوياً جداً ، إذ ثمة خلافات أساسية بين النظريات الصوفية والبوذية ، ولكن التشابه الظاهري موجود بين البوذية وفناء النفس في الروح الإلهي عند الصوفية، ولكن العقيدة البوذية تمثل النفس على أنها تفقد ذاتها في الطمأنينة اللاعاطفية التي هي السكينة المطلقة ، في حين أن المذهب الصوفي رغم قوله بفقدان الفردية يعتبر أن الحياة اللامتناهية موجودة للتأمل الزهدي للجمال الإلهي، أما الشبه الهندي للفناء فليس موجوداً في البوذية بل في وحدة الوجود .

خلاصة:

ومما سبق توضيحه يمكن القول أن التصوف الإسلامي ظاهرة ثقافية دينية اجتماعية نشأت في ظل الثقافة العربية الإسلامية، وتغلغلت في الحياة الإسلامية بكل جوانبها، وأماكنها.

التصوف الإسلامي ظاهرة ذات عراقة تاريخية، وتأثير بالغ في الفكر والعمل والفن والثقافة، والوجدان والضمير.

ويعد التصوف من أهم مرتكزات الفكر الإسلامي، فهو بذلك يمثل نزعة إنسانية وظاهرة دينية روحية لها مكانة في العالم العربي والإسلامي، كما تشير كلمة التصوف إلى نمط من الفكر والسلوك الذي يقوم على إصلاح القلوب، وتدريب النفس على عبادة الله تعالى طمعا في رضاه، وذلك من خلال العزوف عن ملذات الدنيا وشهواتها، حيث تأثرت به تيارات فكرية استوحت منه مشارب الأدبية، فالتصوف جاء كرد فعل على الأوضاع السائدة آنذاك (كالترف والبذخ والتفسخ الأخلاقي...ألخ) داخل الأمة الإسلامية.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

المحاضرة الحادية عشر: طرق التصوف (بوصفه تجربة ذاتية)

الطريقة الصوفية:

للتصوف الإسلامي جزئين متكاملين هما: الطريقة والحقيقة، أو علم المعاملة وعلم المكاشفة، أو بعبارة ثالثة: السلوك والمعرفة[29]

أولا: الطريقة:

ويعرفها القاشاني بقوله: (( الطريقة هي السيرة المختصة بالسالكين إلى اللهمن قطع المنازل والترقي في المقامات))، وهو ما أخذ الجرجاني عنه بحروفه. ولعلهما آثرا لفظ الطريقة إلماعاً إلى قوله تعالى: ﴿وألو استقموا على الطريقة لأسقينهم ماءً غدقا﴾(الجن: 16)، ولكن الجرجاني يقول أيضاً – في موضع آخر- (( إنّ الطريق عند اصطلاح أهل الحقيقة عبارة عن مراسم الله- تعالى- وأحكامه التكليفية المشروعة التي لا رخصة فيها، فإن تتبع الرخص يسبب التنفيس للطبيعة المقتضية للوقفة والفترة في الطريق))[30].

إن الصوفية من جميع الثقافات – كما بين المستشرق ((نيكسون)) يمثلون أطوارهم الروحية بسفر أو رحلة، أو حج أو معراج، يجتاز السالك مراحلها المتوالية من المقامات مقامًا بعد مقام حتى يصل إلى أو يبلغ القرب أو يحقق الهدف، وهو المعرفة بالله والفناء فيه.

والصوفية المسلمون يجرون على هذا التقليد نفسه.. ولكن قواعد السلوك بالنسبة لهم هي الشريعة الإسلامية والمتابعة الدقيقة الصارمة لمسلك النبي وأحواله الظاهرة والباطنة بشرط أشار إليه الجرجاني فيما سبق، وهو تجنب الرخص التي لا نتيجة لها إلاّ التوقف أو البطء في السير. وهذا ما يؤكده ابن عربي كثيراً: ((فلا تطلب مشاهدة الحق إلا في مرآة نبيك))، فالطريقة اتباع الشريعة ولكن بقيدين:

أولهما: هو عدم الإكثار في الترخص.

والثاني: هو التركيز على روح العبادة من الإخلاص والذكر، لا مجرد الشكل الظاهري الدقيق.

هذه الرحلة هي رحلة روحانية تتم داخل القلب الإنساني نفسه، فالسفر- كما يعرفه القاشاني- : ((هو توجه القلب إلى الحق))[31]، واتجاه المسافر فيه إلى الأعلى لا الأمام، إن المسافات هنا نفسية روحية لا حسية مكانية، ولذا فإن رمز المعراج هو أدق تصوير لهذه الرحلة، حيث يعرج الصوفي روحياً(بينما معراج الرسول بالروح والبدن)[32]، وذلك بمعونة التطهر والتجرد من أثقال المادة، وقطع العلائق، واجتياز العوائق، متوجها إلى الملأ الأعلى، فيطلع على الحقائق التي سبق له أن آمن بها تقليداً أو بمجرد القبول العقلي، (وهو أيضا نوع من التقليد عندهم)فيرى الحقائق الدينية كشفاً وشهوداً في مرتبتي حق اليقين وعين اليقين.

وإذا كان التوحد أو الفناء هو آخر نتائج الرحلة، فهو لا يعني انسحاق الذات الإنسانية أو ذوبانها، وإنما هو صقلها في أنوار الذات الإلهية، فالأسفار ثلاثة عندهم: إلى الله، وفي الله، ومن الله، وغاية الأول: قاب قوسين، والثاني: القيام لله، والثالث: القيام بالله ﴿فلما تجلى ربه للجبل جعله دكّا وخرَّ موسى صعقاً فلما أفاق قال سُبحنك﴾ (الأعراف: 143)، فهناك عودة أو رجوع ليقوم العارف برسالته.. وإن كانت الرحلة نفسها لا تنتهي؛ لأن الله عزّ وجل هو غايتها ولا نهاية له ﴿ آلا إلى الله تصير الأمور﴾ (الشورى: 53).

على أن هناك شرطاً جوهرياً قبل الشروع في الرحلة، وهو أن يكون المُريد للسلوك أو الراغب فيه على استعداد روحي خاص، أي: أن يكون من الراغبين في تحقيق الكمال الإنساني وتذوق المعرفة الروحية، وآية ذلك ألاَّ يكون مستغرقاً في الأمور الدنيوية أو معظماً لها، من مال أو جاه أو شهوة، وليس معنى ذلك أن يمتنع عن أي نشاط  دنيوي، ولا أن يتوقف عن الكسب والسعي، ولكن أن تكون الدنيا في يده لا في قلبه، وأن يشعر بالإقبال على الله والعزوف عن الدنيا، فتلك علامة التوفيق والاصطفاء..(( وإذا دخل النور القلب انشرح وانفسخ، قيل: فهل لذلك من علامة؟ فقال: الإعراض عن دار الغرور، والإنابة إلى دار الخلود، والاستعداد للموت قبل نزوله)). ﴿ أفمن شرح اللهُ صدره للإسلم فهو على نور من ربه فويلُ للقسية قلوبهم من ذكر الله أوزلئك في ضلل مبين﴾(الزمر: 22).

أما عن الطريق نفسه فله بداية وغاية ومراحل بينهما؛ أما البداية فالتوبة، وأما الغاية فهي الله – سبحانه- أي: المعرفة به وتوحيده. وغالباً ما تعد التوبة في المقامات باعتبارها أولى هذه المقامات، وشروطها الضرورية- كما يُحددها الطوسي في أوصاف الأشراف:

1-   الإيمان.

2-   الثبات.

3-   النية.

4-   الصدق والإنابة.

5-   الإخلاص.

وبمقدار صدق البداية يكون الكمال في النهاية.

*- مفهوم الحال والمقام:

ثم بعد ذلك تتوالى المقامات، وتتخللها الأحوال والفرق بينهما- كما شرحه الجرجاني- أنّ الحال عند أهل الحق، معنى، يرد على القلب من غير تصنع، ولا اجتلاب ولا اكتساب: من طرب أو حزن، أو قبضأو بسط، أو هسئة أو أنس، ويزول بظهور صفات النفس، سواء أعقبه المثل أولا. فإذا دام وصار ملكة سم ((مقاماً)) فالأحوال مواهب والمقامات مكاسب، والأحوال تأتي من عين الجود، والمقامات تحصل ببذل المجهود، ويتضح من هذا أنّ هناك فرقين أساسيين بين الحال والمقام، وإن كان هناك خلاف بين القوم فيما يعد حالاً وما يعد مقاماً.

ولا يعني تغيير المقام ترك المقام السابق، فهو قد صار جزءًا  من شخصية السالك الذي تحقق به فلا يفارقه، وإن انتقل إلى مابعده.

ونظرا لأن الطرق إلى الله –تعالى- هي بعدد رؤوس بني آدم- كما يقولون- فإن عدد المقامات وترتيبها يختلف من صوفي إلى آخر غالباً، باختلاف تجاربهم واستعداداتهم، فيحدد بعضهم المقامات بسبع، وآخرون بتسع كالمكي في القوت، وآخرون بعشر كالغزالي في الإحياء...بل ويبلغ بها آخرون إلى ألف مقام، وكهذا يدل على تنوع التجربة الصوفيةوعدم التزامها بأسلوب واحد أو قاعدة ملزمة.

 وأيًّ ما كان عدد المراحل والمنازل على هذا الطيق الصاعد، الذي لا يقوى على اجتيازه إلا من اجتباه مولاه واجتذبه إليه، فإن القاعدة التي يؤكد عليها أكثر الصوفية أو جلهم؛ أنه لا بد لهذا الطريق من رفيق أو مرشد ومن زاد أو عدة.

وأما الرفيق: فالشيخ الذي سبق له سلوك الطريق ومعرفة أخطاره وأسراره.

وأما الزاد: فهو الذكر الدائم ، القلبي واللساني، لأن أسماء الله عز وجل بالإضافة إلى التقرب إليه سبحانه بألوان النوافل كما أوضحه خاتم الأ،بياء ومرشد العارفين في الحديث القدسي: ((وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه...))(من حديث البخاري عن أبي هريرة).

وعليه فالشيخ والذكر قيمتان أساسيتان من قيم السلوك الصوفي والتربية الروحية.

وأهم التطورات أثناء السلوك هو التخلي عن أوصاف الخَلق والتحلي بأوصاف الحق.. وهو نتيجة أخلاقية أثناء السير ومن خلاله، وتكتمل بتحقيق العبودية بل العبودية الخالصة.. حين يصير مراد الحق هو مراد العبد .. بل يصير العبد سيفاً في يد القدرة تقذف به على الباطل فيدمغه.. فالطريق يبدأ بالتخلي، ويتوسطه التحلي، ويُوج بالتجلي وهو الغاية الحقيقية: أي المعرفة بالله وهي جانب لا يمكن الكلام عنه لدى أصحابه إلا إلماحاً وإشارة؛ حيث تعجز اللغة عن المقام، وتكاد تفقد قدرتها على الإيضاح والبيان.

ملاحظة: تختلف الطرق التي يتبعها مشايخ الطرق في تربية طلابها ومريديها باختلاف مشاربهم واختلاف البيئة الاجتماعية التي يظهرون فيها، فقد يسلك بعض المشايخ طريق الشدة في تربية المريدين فيأخذونهم بالرياضات العنيفة ومنها كثرة الصيام والسهر وكثرة الخلوة والاعتزال عن الناس وكثرة الذكر والفكر؛ وقد يسلك بعض المشايخ طريقة اللين في تربية المريدين فيأمرونهم بممارسة شيء من الصيام وقيام مقدار من الليل وكثرة الذكر، ولكن لا يلزمونهم بالخلوة والابتعاد عن الناس إلا قليلا، ومن المشايخ من يتخذ طريقة وسطى بين الشدة واللين في تربية المريدين.

كما نشير إلى أن الطرق الصوفية وإن اختلفت وتباينت لكنها تتفق في بعض الأمور يمكن ذكرها كما يلي:

-        طقوس الاحتفال بدخول المريد في الطريقة

-        اجتياز المريد مرحلة شاقة من الخلوة والصلاة والصيام؛

-        الإكثار من الذكر والحركات البدنية المختلفة؛

-        الاعتقاد في القوى السرية والأمور الخوارق التي تمكن المريدون من أكل الجمر، أو وجعل الثعابين تلسعهم، والطعن بالمدى والسكاكين، والإخبار بالمغيبا؛.

-        تقديس المريدين وأتباع الطريقة شيوخهم؛

*- أسباب نشأة الطرق الصوفية:

وعن أسباب نشأة الطرق الصوفية يقول ابن تيمية: ((فمن أسباب نشأة الفرق عموما والطرق الصوفية منها: كثرة البدع وانتشارها، والجدال والمراء والخصومة في الدين، ومجالسة أهل الأهواء والبدع ومخالطتهم، والجهل، ويشمل الجهل بمذهب السلف، والجهل باللغة العربية، والجهل بمقاصد الشريعة)).

 وهناك أسباب أخرى من أهمها:

-        أخذ الدين من غير الكتاب والسنة وآثار السلف.

-        التلقي عن أهل الكتاب وغيرهم.

-        اعتماد الرؤى والأحلام والمنامات.

-        الاعتماد على الأحاديث الضعيفة والموضوعة.

-        خوارق ظنوها آيات وهي من أحوال الشياطين.

-        حب الشهرة والجاه، واتباع الهوى.

-        الطمع المادي في الثراء والعيش الرغيد.

-        تسلط الصوفية في بعض البلاد الإسلامية على الجامعات والمراكز العلمية.

 

*- مفهوم الانسان الكامل

الإنسان الكامل بين الحلاّج وابن عربيّ

يعود مفهوم الإنسان الكامل الذي خلقه الله على صورته ومثاله إلى الحلاج*، وقد لعب دورا رئيسيا في محاولة تفسير العلاقة بين الله والإنسان تفسيراً عقلياً. وعند ابن عربي أنّ اللاهوت والناسوت ليسا طبيعيين متفاوتتين، بل وجهان أو خاصتان عند كل مرتبة من من مراتب الوجود. فاللاهوت هو ما يقابل الوجه الباطن من كل موجود، بينما الناسوت هو ما يقابل الوجه الظاهر منه. وبالاصطلاح الفلسفي يقابل الأول الجوهر ، بينما يقابل الثاني العرض. وتبلغ الخليقة ذروتها في الإنسان، العالم الصغير، وهو صورة مختصرة للكون، تنطوي على جميع أنحاء الكمال التي يتصف بها العالم الكبير، فضلا عن الذات الإلهية نفسها. ولذلك دعي الإنسان في (القرآن الكريم) خليفة الله في الأرض.

الإنسان الكامل والحقيقة المحمدية:

ومع أن ابن عربي يتحدث عن الجنس البشري عامّة، أو سلالة آدم بعبارات الثناء المفرط هذه ، فقد اختص الأنبياء والأولياء بفضل التقدم على سائر البشر، واعتبر محمدا الإنسان الكامل الحقّ. ولما كان الإنسان الكامل التجلي الأكمل للذات الإلهية، كان عبارة عن الكلمة لنبوية، التي تتجلى في ((الحقيقة المحمدية)). إلا أنه ينبغي أن نفهم من هذه العبارة الروح أو الذات الأزلية التي تحمل آخر تجليات الكلمة الإلهية  وأعلاها، لا شخصية النبي محمد التاريخية.

ويرد ابن عربي هذه الذات إلى العقل الأول، أو العقل الكلي عند الأفلاطونيين المحدثين. وما مجموع الإناس الكاملين أو الأنبياء إلا تجليات مباشرة لهذا العقل الذي أنزل محمدا منه في المنزلة العليا وسواه من الأنبياء في منازل متتالية. وليست الحقيقة المحمدية الكلمة الأولى التي يفصح الله من خلالها عن إرادته وحسب، بل هي مبدأ الخلق أو الإبداع الذي بواسطته أوجد الله العالم. من هذه الناحية كانت هذه الحقيقة شبيهة بالكلمة في المسيحية التب ((بها كُوّن كلّ ما كُوّن)). وهي كذلك شبيهة بالمفهوم الشيعي للإمام، الذي اعتبر خليفة الله على الأرض والقطب الذي تدور الخليقة حوله وعلة وجودها الجوهرية.

 

 

 

 



[1] - الشيباني عمر، مقدمة في الفلسفة الإسلامية،  ص: 56.

[2] - أبو ريان محمد علي، تاريخ الفكر الفلسفي في الإسلام، دار النهضة العربية للطباعة والنشر، بيروت، ط2، 1973، ص، ص: 222، 223.

* - الأيس: هو الموجود والليس هو اللاّموجود، فيقول تأييس الأيسات عن اليس، أي وجود الموجودات عن اللاّوجود، وهذا هو تعريف الفعل الإبداعي الحقيقي، أي إيجاد الموجودات من العدم أ, من لا شيئ.

[3] - أبوريان محمد علي، تاريخ الفكر الفلسفي في الإسلام، مرجع سابق، ص 229.

[4] - مقبل محمد عبدالقوي، مدخل إلى الفلسفة العربية الإسلامية، كلية التربية ، جامعة عدن، 2010، ص 54.

[5] - أبوريان محمد علي، تاريخ الفكر الفلسفي في الإسلام، مرجع سابق، ص 293.

[6] - المرجع نفسه، الصفحة ذاتها.

[7] - المرزوقي جمال، دراسات في علم الكلام والفلسفة الإسلامية، .....................

[8] - الطوسي، اللمع، تحقيق: عبد الحليم محمود وطه عبد الباقي سرور، دار الكتب الحديثة، مصر، مكتبة المثنى بغداد، د.ط، 1960، ص 41.

[9] - الكلابادي، التعرف لمذهب أهل التصوف، مكتبة الكليات الأزهرية، القاهرة، مصر، ط3، ص 28.

[10] - القشيري، الرسالة القشيرية، دار الكتاب العربي، بيروت، د.ت، د.ط، ص 127.

[11] - الكلابادي، التعرف لمذهب أهل التصوف، مرجع سابق،ص 28، 29.

[12] - الجرجاني، التعريفات، طبعة حلبى، القاهرة، مصر، د.ط، 1938، ص 46.

[13] - الغزالي أبوحامد، روضة الطالبين وعمدة السالكين، دار السعادة، مصر، د.ط ، 1924، ص 143.

[14] - ابن سينا، الإشارات والتنبيهات، تحقيق سليمان دنيا، القاهرة، د.ط ، 1948، ص 45.

[15] - ابن خلدون عبدالرحمن، المقدمة، دار العلم، بيروت، ط5، 1984، ص 467.

[16] - الطوسي، اللمع، مصدر سابق، ص 47.

[17] - ابن الجوزي، تلبيس إبليس، عنيت بنشره وتصحيحه والتعليق عليه للمرة الأولى سنة 1403ه، دار العلم، بيروت، ص، ص: 156، 157.

* - الحسن البصري: (642- 728م) أحد العلماء الفقهاء الفصحاء الشجعان النساك، كان إمام أهل البصرة، ولد بالمدينة وشب في كنف علي ابن أبي طالب، وتوفي بالبصرة.

[18] - الطيب محمد، إسلام المتصوفة، رابطة العقليين العرب، دار الطلائع ، بيروت، لبنان، ط1، 2007، ص، ص: 34، 35.

[19] - ابن تيمية، الصوفية والفقراء، تقديم محمد جميل غازي، ، دار المدني، القاهرة، د. ت، ص 15.

[20] - مصباح عفاف بلق، التصوف الإسلامي، (مفهومه، نشأته، وتطوره، مصادره)، مجلة كليات التربية، العدد 14، يونيو، 2019، ص 198.

[21] - الذهبي محمد حسين، التفسير والمفسرون، مكتبة وهبة، القاهرة، ، ط7، 2000، ص، ص: 250، 251.

* - الحلاج: فيلسوف فارسي الأصل، نشأ بتستر وانتقل إلى البصرة ودخل بغداد وعاد إلى تستر، وادعى حلول الإلهية فيه، وكثرت الوشايات به إلى المقتدر العباسي فأمر بالقبض عليه فسجن وعذب وقتل وتوفي (309ه- 922م).

** - الغزالي أبو حامد: أحد أشهر علماء المسلمين في القرن الخامس الهجري، الملقب بحجة الإسلام، من أهم أثاره: إحياء علوم الدين، المنقذ من الضلال، تهافت الفلاسفة

*** - السهروردي: هو أبو الفتوح يحي بن حبش بن أميرك السهروردي، ويلقب بشهاب الدين، ولد في سشهرورد الواقعة شمال غرب إيران، قتل بأمر من صلاح الدين بعد أن نسب البعض إليه فساد المعتقد في حلب 586ه، من أشهر كتبه: الإشراق والمشارع والمطارحات وهياكل النور.

[22] - غلاب محمد، التصوف المقارن، مكتبة نهضة مصر ومطبعتها، القاهرة، د.ت، ص 113.

**** - ابن عربي: (558ه- 638ه)هو محمد بن علي بن محمد بن عربي الحاتمي الطائي الأندلسي الشهير بمحي الدين ابن عربي القائل بوحدة الوجود.

[23] - عبدالفتاح سيد أحمد محمد، التصوف بين الغزالي وابن تيمية، دار الوفاء، المنصورة، 2000، ص 15.

[24] - سورة النحل، الآية: 44.

[25] - سورة الكهف، الآية: 64.

[26] - صحيح البخاري، كتاب النكاح، باب الترغيب في النكاح لقوله تعالى "فانكحوا ماطاب لكم من النساء،  رقم الحديث 4776.

[27] - سنن ابن ماجة، كتاب المقدمة، باب اتباع سنة الخلفاء الراشدين المهديين، رقم الحديث 42.

[28] - الطوسي، اللمع، مصدر سابق، ص 179.

[29] - الشافعي حسن، العجمي أبو اليزيد، التصوف الإسلامي، دار السلام للطباعة والنشر والتوزيع والترجمة، ط1، 2007، ص، ص 28، 29.

[30] - المرجع نفسه، 29.

[31] - المرجع نفسه، ص نفسها.

[32] - ابن عربي: فتوحات(2/270) وما بعدها.

* - الحلاج: أبو مفيد الحسين بن منصور الحلاج، من كبار صوفية عصره، قيل أنه ولد بالبيضاء في فارس، وقيل أنه مجوسي الأصل، وقيل أنه من نسل الصحابي أبي أيوب. اتهم من كثير من علماء عصره، ومن السلطة بالخروج عن الدين، وبالتآمر على الدولة؛ حتى صدرت ضده فتوى قُتل على إثرها 309ه