كلية العلوم الانسانية والاجتماعية                                            ماستر 01، تخصص: فلسفة تطبيقية

قسم: العلوم الاجتماعية                                                        مقياس: الدولة والنظم السياسية01

شعبة: الفلسفة                                                                   د/ محمد جعرير

المحور الأول: ظاهرة الــــــــــــدولـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــة

كلمة دولة هي أساساً كلمة لاتينية تعني الحالة المستقرة، وهذا مفهومها لغوياً. لكن مفهوم الدولة اصطلاحا تخطى هذا المفهوم اللغوي، فأخذ مدلولاً سياسياً في العصور الرومانية، وفي عهد نظام الجمهورية.  أما في اللغة الحديثة فقد اعتمد مصطلح الدولة ليدل على المؤسسات السياسية، بغض النظر عن تنوع الأنظمة. واليوم أصبح لمصطلح الدولة في اللغة عدة معان. ومع هذا يحاول الفقهاء إيجاد تعريف موحد لمفهوم الدولة. كما أن المجتمع السياسي أصابه الكثير من التطور، ففي العصور القديمة اتخذ المُجتمع السياسي صورة المدينة السياسية والمملكة وما تفرع عنها مِنْ ظهور الإقطاع، وفى العصر الحديثْ اتخذ المُجتمع السياسي صورة الدولة الحديثة.

يدل الاهتمام المتواصل بالدولة على أن الفكر السياسي اعتبر في الماضي أن الدولة ظاهرة سياسية، وأن علم السياسة هو علم الدولة. ويري بعض المؤرخين أن الدولة مرت في تطورها بستة مراحل متتالية، نوجزها في: مرحلة الدولة القبلية. ثم مرحلة دولة أو نموذج دولة الإمبراطورية الشرقية القديمة. ثم مرحلة دولة المدينة في روما. ثم مرحلة الإمبراطورية الرومانية. ثم مرحلة الدولة الإقطاعية. ثم مرحلة الدولة القومية. وهي المستمرة حتى اليوم. أي أننا اليوم في عصر الدولة القومية. ومع كل هذا كانت توجد نماذج أخرى عبر كل المراحل والعصور. وظهرت فكرة الدولة المنظمة في العصر اليوناني، حيث كانت مدن اليونان تشبه الدولة في عصرنا الحديث.

مفهوم الدولة :

اختلف علماء الفقه والقانون في وضع تعريف موحد للدولة ويرجع هذا الاختلاف إلى التباين في وضع المعايير التي تبرز صفة الدولة لجماعة معينة، وقد نتج عن هذا الاختلاف تعدد المفاهيم للدولة، ورغم هذا الاختلاف في المفاهيم والصياغة

إلا ان معظم هذه التعريفات تتفق في مجملها على الأركان الأساسية للدولة، حيث يرى بعض فقهاء القانون أن الدولة وفقاً للمعنى اللغوي لا تخرج عن كونها جماعة منظمة ترتبط بروابط اجتماعية وقومية مشتركة، وذلك وفقاً للمعنى الشامل، أما الدولة في معناها الضيق فتعنى السلطات العامة.

وما يصاحبها من علاقات سواء بينها أو بين الحكام والمحكومين، بينما يرى البعض الآخر أن الدولة يمكن تعريفها من خلال أركانها الأساسية بأنها ظاهرة سياسية وقانونية تعنى جماعة من الناس يقطنون رقعة جغرافية معينة بصفة دائمة ومستقرة ويخضعون لنظام سياسي.

تعريف الدولة:

يرى الفقيه السويسري “بلتشيلي” أن الدولة هي، جماعة مستقلة من الأفراد يعيشون بصفة مستمرة على أرض معينة بينهم طبقة حاكمة واخرى محكومة.

بينما يعرف الفقيه الفرنسي “كاري دي وليبر” الدولة بأنها، مجموعة من الأفراد مستقرة على إقليم معين، ولها من التنظيم ما يجعل للجماعة في مواجهة الأفراد سلطة عليا آمرة وقاهرة، ويعرفها، “أسمان” بأنها، التشخيص القانوني لأمة ما، ويرى الرئيس الأمريكي الأسبق، “ويلسون ” ان الدولة هي شعب منظم خاضع للقانون يقطن ارضاً معينة.

ويعرف العميد “دوجي” الدولة على أنها، عبارة عن جماعة من الناس الاجتماعيين بينهم طبقة حاكمة وأخرى محكومة، بينما ينظر “فوشيه” للدولة على أنها، مجموعة دائمة مستقلة من الأفراد يملكون إقليماً معيناً. وتضمهم سلطة مشتركة منظمة بغرض ان تكفل لأفرادها الحماية ولكل منهم التمتع بحريته ومباشرة حقوقه، ويعرفها “ديفو” بأنها مجموعة من الأفراد مستقرة في إقليم محدد وتخضع لسلطة صاحبة سيادة مكلفة ان تحقق صالح المجموعة ملتزمة فى ذلك بمبادئ معينة، ويعرفها محسن العبودي بأنها تعنى مجموعة من الناس تقطن على وجه الاستقرار إقليما معيناً، وتخضع لسلطة سياسية تدير شئونها بهدف تحقيق أغراض سياسية واجتماعية واقتصادية محددة سلفاً.

ويعرف بطرس غالى الدولة بانها، مجموعة من الأفراد يقيمون بصفة دائمة في إقليم معين وتسيطر عليهم هينة منظمة استقر الناس على تسميتها بالحكومة.

ويرى إبراهيم درويش بأن الدولة هي، جماعة من المواطنين الذين يشغلون إقليماً محدد المعالم ومستقلا عن اى سلطان خارجي ويقوم عليه نظام سياسي له حق الطاعة والولاء من قبل الجماعة او على الأقل من اغلبيتهم.

ومن خلال استعراض المفاهيم السابقة للدولة يمكن القول بأن الدولة تعنى، ذلك الشخص المعنوي الذى يرمز إلى مجموع شعب مستقر على إقليم معين حكاماً ومحكومين بحيث يكون لهذا الشخص المعنوي سلطة سياسية ذات سيادة.

أركان الدولة:

هناك ثلاثة أركان رئيسية أو عناصر مهمة لابد من توافرها لكى تكتسب المجتمعات السياسية صفة الدولة وهى:

1-     الشعب: وهم جموع الأفراد المواطنين في الدولة.

2-  الإقليم:  وهو رقعة معلومة ومحددة من الأرض يعيش فيها الشعب وتشمل ما يعلوها من أجواء وما يخيط بها من مجال بحرى إقليمي.

3- السلطة: وتعبر عن إرادة الدولة وتتجسد في نظام سياسي له حكومة تمثل او تعكس الشخصية الاعتبارية للدولة فى علاقاتها وتعاملها مع الأفراد في الداخل ومع الدول الأخرى في الخارج.

لها تأثير عميق على المؤسسات السياسية ليس فقط في العصور القديمة ولكن أيضا في العصور الحديثة. السبب البسيط لذلك هو العقل العقلاني والنظرة العلمانية والإدارة الفعالة لدول المدن من قبل اليونانيين. في الواقع ، كانت ولايات المدن هذه بمثابة مختبرات للتجارب مع مختلف المؤسسات.

كانت التنظيم الاجتماعي والسياسي لدول المدن اليونانية يشبه مجتمع الكومنولث حيث كان هناك قدر كبير من المشاركة المتبادلة في الحياة والموئل. لم يكن للدين أي تأثير على حياة الناس. المجتمع اليوناني بأكمله يظن أن هذه الدولة هي مؤسسة طبيعية نشأت من أجل التطور الأخلاقي والشخصي للفرد.

كانت تعتبر الدولة وسيلة لتحقيق غاية. يعتبر الإنسان مواطنا مستقلا في مجتمع الحكم الذاتي وكانت هناك مساواة كاملة وكذلك الفرص والحقوق. علاوة على ذلك ، مارس عدد من الدول المدن اليونانية أشكالًا مختلفة من الحكومات مثل الأرستقراطية والملكية والديمقراطية.

الدولة في الفكر اليوناني

يعتقد الإغريق بقوة في مجتمع أخلاقي. من وجهة نظرهم، أن دولة المدينة ليست مجرد هيئة ذات اكتفاء ذاتي فحسب، بل هي أيضًا هيئة للحكم الذاتي. كان من المتوقع أن تكون حياة الرجل أخلاقية لأن الدولة كانت تعتبر مؤسسة أخلاقية.

كان رفاهية الإنسان الهدف الأساسي. كان هناك قدر كبير من التركيز على التعليم من أجل خلق حالة مثالية. الفلاسفة اليونانيون القديمة تهدف إلى جعل المجتمع حيث كان هناك تعاون أكبر بين الناس من مختلف الطبقات.

الدولة المدينة : المدينة اليونانية مستقلة سياسيا ومن ثم فكل مدينة بها نظمها الخاصة في الحكم والتشريع والجيش والمجموعة البشرية ،و حتى التنظيم الاقتصادي ،وقد تتبع هذه المدينة القرى القريبة منها والسهول وقد تكون بعض مدن الدول أوسع مساحة ، البعض الآخر وعليه فالمدينة الإغريقية عبارة عن دول صغيرة مشكلة من مدينة ومناطق ريفية محيطة بها وهذا ما سيغلب تناقضات بين المصالح الحضارية والمصالح الريفية، في المدن الإغريقية المواطن هو الوحيد الذي يحق له المشاركة في الحياة السياسية ، السكان الآخرون لا يلعبون أي دور رسمي في الحياة السياسية وهو حال العبيد الأجانب النساء والأطفال، فالمواطن الأثيني مثلا وهو مولود من أب و أم أثيني .

تختلف المدن الأثينية من حيث نمط الحكم وطبيعة الحياة السياسية .

النظام الإسبارتي : أما أثينا فهي دولة مدينة مثلها مثل اسبارتا لكن مختلفة سياسيا واقتصاديا حيث عرفت عدة أنواع للحكم من نظام ملكي ثم ارسطوقراطي فلطغياني ديمقراطي ليأتي العهد الفوضوي .

بداية تكون الأفكار السياسية ظهرت في الفكر الأثيني منذ زمن فكرة التميز بين أشكال الحكم نسبة للعدد الذي يحكم .

1- الملكيــــة : هي حكومة الفرد الواحد.

2- الأوليغارشية : هي حكومة الجماعة أو المجموعة أو الأقلية.

3- الديمقراطية : وهي حكومة الجميع أو المواطنين أو الكل.

بالنسبة للديمقراطية الأثينية عرفت ميلادها في القرن 5 ق.م على يد حركة إصلاحية أخذت على عاتقها ضرورة النهوض بأثينا استجابة للمطالب الشعبية ،وبهذا دخلت أثينا عهدا جديدا سمح لها ببعث الديمقراطية كأسلوب للحكم تحت دفع مجموعة من الحكام ،وترجع جذور الديمقراطية الأثينية إلى رغبة الحكام الفعلية إلى إشراك المواطن الأثيني في الحياة السياسية ،حول القضايا المهمة انطلاقا من فكرة فحواها أن الحياة في المدينة يشترك فيها الجميع ،وأي حدث خارجي له من الأثر ما قد يخل بالنظام العام ومن ثم مستقبل المدينة وعليه فأن أهم القواعد التي يقوم عليها النظام الأثيني أن سلطة التقرير النهائي بيد المواطن ،وتماشيا مع هذا الوضع ارسيت قواعد نظام يرتكز على مجموعة من المؤسسات .

1-     المؤسسات التشريعية :

أ- الإكليــــزيا : ( مجلس الشعب –الجماعة العامة ) هو سلطة تقريرية ،وهيئة تجمع كل المواطنين على اختلاف وضعهم الاجتماعي ،يخول لهذه الهيئة مناقشة القضايا المطروحة على الحكام في اجتماعات عادية أو استثنائية في مجلس يجمع فيه المواطنين ويعطيهم الحق في التدخل قبل اتخاذ القرار على ان ينتهي النقاش بتصويت علني من طرف 5000 مواطن على الأقل ويأخذ برأي الأغلبية الحاضرة بصرف النظر على العدد الإجمالي للمواطنين

مهامــــــــــــــــه: انتخاب القادة العشرة العسكريين ومراقبتهم كما ينتخب حكام المدنية التسعة ويراقبهم ويحاكم في حالة الخيانة العظمى ضد الدولة .

ب- مجلس النـــــــواب : ( مجلس 500-المجلس المحدد) يتكون من 500 عضو كل قبيلة يمثلها 50 عضو يتجاوزون 30 سنة ، يتم اختيارهم بواسطة القرعة وهو هيئة تحضيرية لمشاريع الأعمال التي تقدم للإكليزا.

2-  المؤسسات التنفيذيــــــــــــة:

أ‌-        مجلس القادة العشرة.

ب-  حكام المدينة الأراخنة.

ج-  الموظفون ،القضاة، الإداريين.

3-المؤسسات القضائيــــــــــــــة:

أ- المحكمة العامـــة

ب- محكمة الإشراف

من خلال الإشارة إلى دور هذه المؤسسات ندرك أن الإكليزيا ملك لجميع السلطات وهيئة عليا في هرم سلطة المدنية ويفوض سلطاته إلى مختلف الهيئات التي تكون النظام السياسي الأثيني كما يمكن القول أن القرن 05 ق.م شهد ظهور الديمقراطية في أثينا الدولة المدينة التي يقطنها 200 ألف ساكن لا يملكون نفس الحقوق والواجبات ويتمتع 40 ألف منهم بحق المواطن وبالتالي فهم أصحاب الحقوق المدنية والسياسية ، في حين تقصى فئات من صف المواطنة بحكم أصلها أو جنسها أو طبقتها فبالتالي المساواة التي تنادي بها الديمقراطية مهدرة لأنها تحرم فئات من المشاركة السياسية ،في ذات الوقت لا يمكن أن ننكر الخطوة العملاقة التي خطاها الأثينيون فلأول مرة في التاريخ دولة منظمة تبنت نظام سياسي قائم على السلطة التقريرية للشعب وبذلك أرست قواعد ديمقراطية حديثة .

التطور الحلقي وفساد النظام:

ظهور الديمقراطية في أثينا يرجع إلى الظروف التي أحاطت بها ، فالاهتمام الإغريقي بدراسة الأنظمة سمح لها بالوصول إلى حقيقة تطبيقية أو ممارساتية حيث أوضحت التجربة حقيقة تمثلت في فساد الأنظمة أو انحرافها عن الهدف الأساسي ، فالملّكية بإمكانها أن تتحول إلى تسلط ،وفي هذه الحالة لا تستند إلى القوانين بل على أهواء الحكام والارسطوقراطية حكم الأحسن تتحول إلى بلوتو كراسي

أي حكومة الأغنياء والديمقراطية حكم الجميع تتحول إلى فوضى وهي حكم (الغوغاء) بالإضافة إلى هذا التحول فكل نمط يخلف الآخر ما يشكل حلقة تطويرية أو تطور حلقي ،فالملكية تعوضها الأرسطوقراطية التي تعوضها الديمقراطية ثم الملكية ،ومن أجل تفادي الاختلافات التي يخلفها التطور الحلقي ، تحتل الإغريق حكومة تجمع بين الأشكال الثلاثة للحكم ( الملكية والأرسطوقراطية والديمقراطية) ،ويعبر هذا الحل عن الحكمة التي من خلالها إحداث التوازن والاستقرار،ويعتبر الحاكم صولون أول من طبق هذا الأمر في أثينا ومن بين الإصلاحات التي جربها صولون: الدستور الذي يقسم المواطنين إلى أربعة طبقات رئيسية :

1-      طبقة الأغنيــــــــاء: يملكون قدر معين من المال.

2- الطبقــة الوسطي : يملكون الأراضي الزراعية.

3- طبقة الفرســــــــان : مهمتهم الدفاع عن المدينة .

4-  طبقة المهجرون والكادحون .

وتتفاوت هذه الطبقات في الثراء كما تتفاوت في الحقوق السياسية والوظائف الاجتماعية ، حيث ينص الدستور الصولوني على تمتع الطبقات الثلاثة الأولى بجميع الوظائف العامة، في حين تحرم الطبقة الرابعة من ذلك ،لكن يحق لها المشاركة في الجمعية العمومية للإكليز.

ولقد شهدت الحياة السياسية في الدولة المدنية تطورا مع الحاكم كليستيناس الذي ألغى الامتيازات الارستقراطية ،ونقل الحكم إلى يد الجمعية الشعبية وتطبق الديمقراطية أكثر مع الحاكم بيركللس في القرن 05 ق.م الذي وضع دستور الديمقراطية الحقــــة وفتح الباب للموطنين للمشاركة في الأمور السياسية على مختلف أنواعها ،وسوى بين جميع المواطنين في الحقوق والواجبات ،في ضل هذه الحياة ظهر فكر سياســــي عبّر في الواقع عن ضرورة أخذ الفرد لدوره في الحياة السياسية، بناء على قدراته الخطابية التي تسمح له بالتأثير على الجماهير واكتساب الأغلبية داخل الإكليزيـــــــــــا.

الفكــــــر السفسطـــــــائي: وهي مدرسة ظهرت في أثينا في القرن 05 ق.م وهي تهتم بتلقين فن الكلام والمجاملة ,اهم روادها(بروتاقوراس، جورجياس، أنطيفون)، تترأس أهم الأفكار السفسطائية في اعتبار الفرد نقطة البداية والأساس في الأمور كلها كما يرون أن الدولة تقوم على تعاون الأفراد.

- يرفضون التفريق بين الناس على أساس الجنس والأصل .

- رفض نظام الرق والمطالبة بالمساواة بين لان أصلهم واحد.

- يمجدون القوة ويدعون إليها .

- لا يمثلون للقانون ويدعون عدم احترامه لأنه حسب اعتقادهم شريعة الضعفاء اخترعوه ليخضعوا به الأقوياء وهم أصحاب الفكرة القائلة :" افرض نفسك ،اثبت نفسك" عن طريق فن الكــــــــــــلام.

الفكر السياسي عند سقراط :

في الحقيقة أن سقراط لم يخلف كتب نستطيع من خلالها الخروج بمجموعة من الأفكار السياسية ،لكن خلف تلاميذ نقلوا أفكاره إما في مؤلفاتهم أو بإسنادها له، كما يمكن تحديد أفكاره عبر المواقف السياسية التي تبناها في الدولة المدينة ،ويلاحظ من هذه المواقف رفض سقراط التحرر من القوانين أو محاولة التغيير فيها كما يعارض فكرة الديمقراطية التي فتحت الباب للحديث عن كل شيء ورفعت من قيمة بعض الطبقات داخل المدنية ،ويعبر سقراط عن اختلاف كبير بينه وبين معاصريه من حيث اعتبر القوانين صادرة عن العقل المعبر بشكل من إشكال التربية والفضيلة وسر الثبات في ضل النظم القائمة على التغيير ( الديمقراطية).

الحكمة عند سقراط هي أعرف نفسك، وغاية وجودها ،وما هي مؤهلاتها.

وانطلاقا من هذه الفكرة بان الحاكم ربان في المدنية عليه أن يعرف فنه بعمق كما يعرف قائد السفينة فنه ويقضي منه ذلك التعلم حتى يتقنه لان الفن الأكثر صعوبة (لا يأتي بنفسه على غرار الفنون الأخرى ) ومن ثم لا ان نختار الحاكم على القرعة فقد يقع الاختيار على اسكافي او بناء او حرفي او صياد ....،وهؤلاء لا يعرفون السياسة ،والحل عند سقراط ارستوقراطية فكرية فالحاكم يجب ان يكون فيلسوفا لا تهمه مصلحته الفردية بقدر ما يبحث عن الخير العـــــــــــــــــــــام.

و ستؤثر أفكار سقراط على تلاميذه وخاصة (أفلاطون وإكزينوفون).

الفكر السياسي عند أفلاطون :

- ﻳﻌﺪ ﺃﻓﻼﻃﻮﻥ ‏( 427-347 ﻕ . ﻡ ‏) ﻭﺍﺣﺪﺍ ﻣﻦ ﺃﻫﻢ ﺍﻟﻤﻔﻜﺮﻳﻦ ﻓﻲ ﺗﺎﺭﻳﺦ ﺍﻟﺤﻀﺎﺭﺓ ﺍﻟﻐﺮﺑﻴﺔ ﻳﺘﺼﻞ ﺑﻘﺮﺍﺑﺔ ﻟﻠﻤﺸﺮﻉ ﺳﻮﻟﻮﻥ ﻣﻦ ﻧﺎﺣﻴﺔ ﺃﻣﻪ ، ﻭﻛﻠﻤﺔ ﺃﻓﻼﻃﻮﻥ ﺗﻌﻨﻲ " ﺫﺍ ﺍﻟﻜﺘﻔﻴﻦ ﺍﻟﻌﺮﻳﻀﻴﻦ " ﺃﻣﺎ ﺍﺳﻤﻪ ﺍﻟﺤﻘﻴﻘﻲ ﻓﻬﻮ " ﺃﺭﺳﺘﻮﻛﻠﻴﺲ ،" ﺗﺄﺛﺮ ﻛﺜﻴﺮﺍ ﺑﺄﺳﺘﺎﺫﻩ ﺳﻘﺮﺍﻁ ﺍﻟﺬﻱ ﺟﻌﻠﻪ ﻓﻴﻤﺎ ﺑﻌﺪ ﺃﺳﺎﺱ ﻣﺤﺎﻭﺭﺍﺗﻪ ﺍﻟﻔﻠﺴﻔﻴﺔ .

ﻋﺎﺻﺮ ﺃﻓﻼﻃﻮﻥ ﺍﻟﺼﺮﺍﻋﺎﺕ ﻭﺍﻟﺜﻮﺭﺍﺕ ﺍﻟﺪﺍﺧﻠﻴﺔ ﻭﺍﻟﺨﺎﺭﺟﻴﺔ ﺍﻟﺘﻲ ﻛﺎﻧﺖ ﺑﻼﺩ ﺍﻟﻴﻮﻧﺎﻥ ﻣﺴﺮﺣﺎ ﻟﻬﺎ ، ﻛﻤﺎ ﻋﺎﺻﺮ ﺃﻳﻀﺎ ﺃﻧﻈﻤﺔ ﺣﻜﻢ ﻋﺪﺩ ﻣﻦ ﺍﻟﻤﺴﺘﺒﺪﻳﻦ ، ﻭﻋﻠﻰ ﻫﺬﺍ ﺍﻷﺳﺎﺱ ﺳﻌﻰ ﺃﻓﻼﻃﻮﻥ ﻧﺤﻮ ﺍﻟﺒﺤﺚ ﻋﻦ ﺑﻴﺌﺔ ﻳﺠﺴﺪ ﻓﻴﻬﺎ ﺃﻓﻜﺎﺭﻩ .

ﺍﻗﺘﻨﻊ ﺃﻓﻼﻃﻮﻥ ﺑﺄﻥ ﺍﻟﻌﻠﻢ ﻭﺍﻟﻤﻌﺮﻓﺔ ﻻ ﻳﻤﻜﻦ ﻓﺼﻠﻬﻤﺎ ﻋﻦ ﺃﻱ ﻧﻈﺎﻡ ﺳﻴﺎﺳﻲ ﻋﺎﺩﻝ ، ﻛﻤﺎ ﺃﻧﻪ ﻛﺎﻥ ﻻ ﻳﺜﻖ ﻓﻲ ﺍﻟﺪﻳﻤﻘﺮﺍﻃﻴﺔ ﺍﻟﺘﻲ ﻗﺎﻣﺖ ﻓﻲ ﺃﺛﻴﻨﺎ .

ﻳﻤﻜﻦ ﺍﻟﺘﻄﺮﻕ ﺇﻟﻰ ﺃﻓﻜﺎﺭ ﺃﻓﻼﻃﻮﻥ ﺍﻟﺴﻴﺎﺳﻴﺔ ﻣﻦ ﺧﻼﻝ ﺛﻼﺙ ﻛﺘﺐ ﺭﺋﻴﺴﻴﺔ :

- ﺍﻟﺠﻤﻬﻮﺭﻳﺔ ‏( ﺍﻟﺠﻤﻬﻮﺭﻳﺔ ﺍﻟﻔﺎﺿﻠﺔ ) - ﺭﺟﻞ ﺍﻟﺪﻭﻟﺔ - ﺍﻟﻘﻮﺍﻧﻴﻦ .

ﺃﻟﻒ ﺃﻓﻼﻃﻮﻥ ﻛﺘﺎﺏ ﺍﻟﺠﻤﻬﻮﺭﻳﺔ ﻓﻲ ﺷﺒﺎﺑﻪ، ﻭﺗﻨﺎﻭﻝ ﺩﺭﺍﺳﺔ ﺍﻟﻔﺮﺩ ﺍﻟﺼﺎﻟﺢ ﻭﺍﻟﺤﻴﺎﺓ ﺍﻟﺼﺎﻟﺤﺔ ﺍﻟﺘﻲ ﻳﺠﺐ ﺃﻥ ﺗﻜﻮﻥ ﻓﻲ ﺩﻭﻟﺔ ﺻﺎﻟﺤﺔ، ﻭﺩﺭﺱ ﻣﺎﻫﻴﺔ ﺍﻟﺨﻴﺮ ﻭﺳﺒﻴﻞ ﺍﻟﺤﺼﻮﻝ ﻋﻠﻴﻪ، ﻛﻤﺎ ﺗﻨﺎﻭﻝ ﺍﻟﻨﺸﺎﻁ ﺍﻟﻔﺮﺩﻱ ﻭﺍﻟﺠﻤﺎﻋﻲ، ﻭﻋﻠﻢ ﺍﻷﺧﻼﻕ ﻭﺍﻻﻗﺘﺼﺎﺩ ﻭﺍﻟﻔﻠﺴﻔﺔ .

ﺗﺘﺠﺴﺪ ﺍﻟﻔﻜﺮﺓ ﺍﻷﺳﺎﺳﻴﺔ ﻓﻲ ﺍﻟﺠﻤﻬﻮﺭﻳﺔ ﻓﻲ ﺃﻥ ﺍﻟﻔﻀﻴﻠﺔ ﻫﻲ ﺍﻟﻤﻌﺮﻓﺔ، ﻭﺍﻟﻤﻌﺮﻓﺔ ﺍﻟﺤﻘﺔ ﻫﻲ ﺍﻟﻤﺜﻞ، ﻭﻫﻮ ﻣﺎ ﺟﻌﻞ ﻫﺬﻩ ﺍﻵﺭﺍﺀ ﺗﻨﺪﺭﺝ ﺗﺤﺖ ﻧﻈﺮﻳﺔ ﺍﻟﻤﺜﻞ .

ﺃﺳﺲ ﺃﻓﻼﻃﻮﻥ ﻧﻈﺮﻳﺘﻪ ﺍﻷﺧﻼﻗﻴﺔ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﻄﺮﺡ ﺍﻟﻘﺎﺋﻞ ﺑﺄﻥ ﻛﻞ ﺍﻟﺒﺸﺮ ﻳﺮﻏﺒﻮﻥ ﻓﻲ ﺍﻟﺴﻌﺎﺩﺓ، ﻭﻗﺪ ﺭﺃﻯ ﺃﻥ ﺍﻟﺴﻌﺎﺩﺓ ﻫﻲ ﺍﻟﻨﺘﻴﺠﺔ ﺍﻟﻄﺒﻴﻌﻴﺔ ﻟﺤﺎﻟﺔ ﺍﻟﺮﻭﺡ ﺍﻟﻤﺘﻤﺘﻌﺔ ﺑﺎﻟﺼﺤﺔ، ﻭﺑﻤﺎ ﺃﻥ ﺍﻛﺘﺴﺎﺏ ﺍﻟﻔﻀﺎﺋﻞ ﺍﻷﺧﻼﻗﻴﺔ ﻳﻨﺘﺞ ﻋﻨﻬﺎ ﺻﺤﺔ ﺍﻟﺮﻭﺡ، ﻓﺈﻥ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﻨﺎﺱ ﺃﻥ ﻳﻜﻮﻧﻮﺍ ﻓﺎﺿﻠﻴﻦ، ﻭﻟﻘﺪ ﺃﻛﺪ ﺃﻓﻼﻃﻮﻥ ﺃﻥ ﺍﻟﻨﻔﺲ ﺗﻨﻘﺴﻢ ﺇﻟﻰ ﺛﻼﺙ ﺃﺟﺰﺍﺀ :-ﺍﻟﺬﻫﻦ -ﺍﻹﺭﺍﺩﺓ - ﺍﻟﺸﻬﻮﺓ.

ﻭﻗﺪ ﺷﺒﻪ ﺍﻟﻤﺠﺘﻤﻊ ﺍﻟﻤﺜﺎﻟﻲ ﺑﺎﻟﻨﻔﺲ، ﻭﻗﺎﻝ ﺃﻧﻪ ﻳﻨﻘﺴﻢ ﺃﻳﻀﺎ ﺇﻟﻰ ﺛﻼﺙ ﻃﺒﻘﺎﺕ :- ﺍﻟﻤﻠﻮﻙ ﺍﻟﻔﻼﺳﻔﺔ - ﺍﻟﺤﺮﺍﺱ ﺃﻭ ﺍﻟﺠﻨﻮﺩ .

- ﺍﻟﻤﻮﺍﻃﻨﻮﻥ ﺍﻟﻌﺎﺩﻳﻮﻥ ‏( ﻣﺰﺍﺭﻋﻮﻥ، ﺣﺮﻓﻴﻮﻥ) ‏.

ﻭﺑﺬﻟﻚ ﺃﻭﺟﺪ ﺍﻟﻌﻼﻗﺔ ﺍﻟﻤﺘﻌﺪﻳﺔ ﻓﻲ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﺪﻭﻟﺔ ﺍﻟﻔﺎﺿﻠﺔ، ﻣﻦ ﺧﻼﻝ ﺳﻴﻄﺮﺓ ﺍﻟﻤﻠﻮﻙ ﺍﻟﻔﻼﺳﻔﺔ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﻤﻮﺍﻃﻨﻴﻦ ﺍﻟﻌﺎﺩﻳﻴﻦ ﺑﻮﺍﺳﻄﺔ ﺍﻟﺠﻨﻮﺩ .

ﻓﻲ ﻛﺘﺎﺑﻪ ﺭﺟﻞ ﺍﻟﺪﻭﻟﺔ ‏( ﺍﻟﺴﻴﺎﺳﻲ ‏) ﺗﺮﺍﺟﻊ ﺃﻓﻼﻃﻮﻥ ﻋﻦ ﺑﻌﺾ ﺃﻓﻜﺎﺭﻩ ﺍﻟﺘﻲ ﺗﻀﻤﻨﻬﺎ ﺍﻟﻜﺘﺎﺏ ﺍﻷﻭﻝ، ﻟﺘﻨﺎﻗﺾ ﻫﺬﻩ ﺍﻷﻓﻜﺎﺭ ﻣﻊ ﺍﻟﺸﻌﻮﺭ ﺍﻟﺴﺎﺋﺪ ﻟﺪﻯ ﺍﻷﺛﻴﻨﻴﻴﻦ ﺑﺨﺼﻮﺹ ﺍﻟﺪﻳﻤﻘﺮﺍﻃﻴﺔ ، ﻛﻤﺎ ﺃﻧﻪ ﻟﻢ ﻳﺮﻛﺰ ﻛﺜﻴﺮﺍ ﻋﻠﻰ ﻓﻜﺮﺓ ﺍﻟﺤﺎﻛﻢ ﺍﻟﻔﻴﻠﺴﻮﻑ، ﺧﺎﺻﺔ ﻣﻊ ﻣﻌﺎﻳﺸﺘﻪ ﻟﻮﺍﻗﻊ ﻣﺨﺘﻠﻒ ﺗﻤﺎﻣﺎ ﻋﻦ ﻣﺎ ﺃﺭﺍﺩﻩ، ﺣﻴﺚ ﻋﺎﺵ ﺍﻻﺳﺘﺒﺪﺍﺩ ﻭﺍﻟﺠﻬﻞ ﻟﺪﻯ ﺍﻟﺤﻜﺎﻡ، ﻭﺃﻋﻄﻰ ﻣﺜﺎﻻ ﻟﺬﻟﻚ ﺑﺪﻭﻟﺔ ﺇﺳﺒﺮﻃﺎ .

ﻳﻤﺜﻞ ﻛﺘﺎﺏ ﺍﻟﻘﻮﺍﻧﻴﻦ ﺛﺎﻟﺚ ﻛﺘﺐ ﺃﻓﻼﻃﻮﻥ ﺍﻟﺴﻴﺎﺳﻴﺔ، ﻭﻗﺪ ﺟﺎﺀ ﺑﻌﺪ ﻛﺘﺎﺏ ﺍﻟﺠﻤﻬﻮﺭﻳﺔ ﺑﺤﻮﺍﻟﻲ 30 ﺳﻨﺔ، ﻭﻳﻌﺒﺮ ﻋﻦ ﺃﻓﻜﺎﺭ ﺃﻛﺜﺮ ﻭﺍﻗﻌﻴﺔ، ﻭﻗﺪ ﺍﻋﺘﺮﻑ ﺃﻓﻼﻃﻮﻥ ﻋﺒﺮﻩ ﺑﻮﺟﻮﺏ ﺳﻴﺎﺩﺓ ﺍﻟﻘﺎﻧﻮﻥ، ﺃﻱ ﺃﻧﻪ ﺃﻋﺎﺩ ﺍﻻﻋﺘﺒﺎﺭ ﻟﻠﻘﻮﺍﻧﻴﻦ ﺍﻟﺪﺳﺘﻮﺭﻳﺔ، ﺍﻟﺘﻲ ﻫﻲ ﺟﺰﺃ ﻻ ﻳﺘﺠﺰﺃ ﻣﻦ ﺍﻟﺜﻘﺎﻓﺔ ﺍﻷﺛﻴﻨﻴﺔ، ﻭﻧﻘﻄﺔ ﺍﻟﺘﺤﻮﻝ ﻓﻲ ﻓﻜﺮ ﺃﻓﻼﻃﻮﻥ ﺍﻟﺴﻴﺎﺳﻲ، ﻫﻲ ﻗﻨﺎﻋﺘﻪ ﺍﻟﺠﺪﻳﺪﺓ ﺑﺨﻀﻮﻉ ﺍﻟﺤﺎﻛﻢ ﺍﻟﻔﻴﻠﺴﻮﻑ ﻭﺍﻟﻤﺤﻜﻮﻣﻴﻦ ﻋﻠﻰ ﺣﺪ ﺳﻮﺍﺀ ﻟﻠﻘﺎﻧﻮﻥ ﻭﺍﻟﺪﺳﺘﻮﺭ، ﻭﻟﻘﺪ ﺃﻗﺮ ﺃﻓﻼﻃﻮﻥ ﺃﻥ ﻣﺎ ﻃﺎﻟﺐ ﺑﻪ ﺳﺎﺑﻘﺎ، ﻫﻮ ﻋﻠﻰ ﺩﺭﺟﺔ ﻛﺒﻴﺮﺓ ﻣﻦ ﺍﻟﻤﺜﺎﻟﻴﺔ، ﻭﺃﻥ ﺍﻟﻮﺍﻗﻊ ﻳﻔﺮﺽ ﺿﺮﻭﺭﺓ ﺍﻟﻤﺸﺎﺭﻛﺔ ﻓﻲ ﺍﻟﺤﻜﻢ ﻣﻦ ﺑﺎﻗﻲ ﺍﻟﻤﻮﺍﻃﻨﻴﻦ .

ﺗﻨﺎﻭﻝ ﺃﻓﻼﻃﻮﻥ ﻓﻲ ﻛﺘﺎﺑﻪ ﺍﻟﻘﻮﺍﻧﻴﻦ ﻋﺪﺓ ﻣﻔﺎﻫﻴﻢ ﺃﻫﻤﻬﺎ ﺍﻟﺪﺳﺎﺗﻴﺮ ﻭﺍﻟﺘﺸﺮﻳﻌﺎﺕ ، ﻛﻤﺎ ﺍﻗﺘﺮﺡ ﺗﻨﻈﻴﻢ ﺍﻟﻤﺠﺘﻤﻊ ﻋﻠﻰ ﺃﺳﺎﺱ ﺍﻟﻤﻠﻜﻴﺔ ، ﻭﺗﺮﺍﺟﻊ ﻋﻦ ﻓﻜﺮﺓ ﻋﺪﻡ ﺗﻜﻮﻳﻦ ﺍﻷﺳﺮﺓ، ﻭﻓﻀﻞ ﻣﻦ ﺃﻧﻈﻤﺔ ﺍﻟﺤﻜﻢ : ﺍﻟﻨﻈﺎﻡ ﺍﻟﻤﺨﺘﻠﻂ ﺍﻟﺬﻱ ﻳﺸﻤﻞ ﺍﻷﺭﺳﺘﻘﺮﺍﻃﻴﺔ ﻭﺍﻟﺪﻳﻤﻘﺮﺍﻃﻴﺔ .

ﺭﺗﺐ ﺃﻓﻼﻃﻮﻥ ﺃﻧﻈﻤﺔ ﺍﻟﺤﻜﻢ ﺣﺴﺐ ﺍﻷﻓﻀﻠﻴﺔ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﻨﺤﻮ ﺍﻟﺘﺎﻟﻲ :

- ﺍﻟﺤﻜﻮﻣﺔ ﺍﻷﺭﺳﺘﻘﺮﺍﻃﻴﺔ : ﻭﻫﻲ ﺣﻜﻮﻣﺔ ﺍﻟﻔﺮﺩ ﺍﻟﻔﺎﺿﻞ ، ﺣﻴﺚ ﻻ ﻳﻜﻮﻥ ﺑﺤﺎﺟﺔ ﺇﻟﻰ ﻗﻮﺍﻧﻴﻦ ﺗﻘﻴﺪﻩ ، ﻓﻔﻀﻴﻠﺘﻪ ﻭﺣﻜﻤﺘﻪ ﺗﺠﻌﻼﻧﻪ ﻳﺘﺨﺬ ﺍﻟﻘﺮﺍﺭ ﺍﻟﺼﺎﺋﺐ ﻭﻳﻘﻤﻊ ﺩﻭﻣﺎ ﺍﻟﻔﺴﺎﺩ .

- ﺍﻟﺤﻜﻮﻣﺔ ﺍﻟﺘﻴﻤﻘﺮﺍﻃﻴﺔ : ﻫﻲ ﺣﻜﻮﻣﺔ ﺍﻷﻗﻠﻴﺔ ﺍﻟﻌﺴﻜﺮﻳﺔ ، ﺍﻟﺘﻲ ﺗﺼﻞ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﺤﻜﻢ ﺑﻮﺍﺳﻄﺔ ﻗﻮﺗﻬﺎ ، ﻭﻧﺘﻴﺠﺔ ﻓﺴﺎﺩ ﺍﻟﺤﻜﻮﻣﺔ ﺍﻷﺭﺳﺘﻘﺮﺍﻃﻴﺔ ، ﻭﻫﻲ ﻣﻈﻬﺮ ﻻﻧﺤﻼﻝ ﺍﻟﺪﻭﻟﺔ ﺍﻟﻤﺜﺎﻟﻴﺔ .

- ﺍﻟﺤﻜﻮﻣﺔ ﺍﻷﻭﻟﻴﻐﺎﺭﺷﻴﺔ : ﻭﻫﻲ ﺣﻜﻮﻣﺔ ﺍﻷﻗﻠﻴﺔ ﺍﻟﻐﻨﻴﺔ ﻣﻘﺎﺑﻞ ﺍﻷﻏﻠﺒﻴﺔ ﺍﻟﻔﻘﻴﺮﺓ ، ﻭﺗﻨﺸﺄ ﻓﻲ ﻇﻞ ﺍﺗﺴﺎﻉ ﺍﻟﻬﻮﺓ ﺑﻴﻦ ﺍﻟﻄﺮﻓﻴﻦ ، ﻭﻛﻨﺘﻴﺠﺔ ﻟﻔﺴﺎﺩ ﺍﻷﻗﻠﻴﺔ ﺍﻟﻌﺴﻜﺮﻳﺔ .

- ﺍﻟﺤﻜﻮﻣﺔ ﺍﻟﺪﻳﻤﻘﺮﺍﻃﻴﺔ : ﻭﻫﻲ ﺣﻜﻮﻣﺔ ﺍﻟﺸﻌﺐ ﺍﻟﺘﻲ ﺗﺘﺤﻘﻖ ﺑﺎﻧﺘﺸﺎﺭ ﺍﻟﺤﺮﻳﺔ ﻭﺍﻟﻤﺴﺎﻭﺍﺓ ﻓﻲ ﺍﻟﻤﺠﺘﻤﻊ ، ﻭﺗﺤﻘﻴﻘﺎ ﻟﺮﻏﺒﺔ ﺍﻷﻏﻠﺒﻴﺔ ﺍﻟﻔﻘﻴﺮﺓ ﺍﻟﻤﺘﻀﺮﺭﺓ ﻣﻦ ﻓﺴﺎﺩ ﺣﻜﻮﻣﺔ ﺍﻷﻗﻠﻴﺔ ﺍﻟﻐﻨﻴﺔ .

ﺣﻜﻮﻣﺔ ﺍﻻﺳﺘﺒﺪﺍﺩ ‏( ﺍﻟﻄﻐﻴﺎﻥ): ﺗﻨﺸﺄ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﺤﻜﻮﻣﺔ ﻋﻨﺪ ﻓﺴﺎﺩ ﺍﻟﺪﻳﻤﻘﺮﺍﻃﻴﺔ ﻭﺍﻧﺘﺸﺎﺭ ﺍﻟﻔﻮﺿﻰ ﻓﻲ ﺍﻟﻤﺠﺘﻤﻊ ، ﺍﻟﺸﻲﺀ ﺍﻟﺬﻱ ﻳﺪﻓﻊ ﺑﻔﺮﺩ ﻣﺎ ﺇﻟﻰ ﺍﻻﺳﺘﻴﻼﺀ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﺤﻜﻢ ، ﻭﺍﻻﻧﻔﺮﺍﺩ ﺑﻪ ، ﻭﺇﻧﺸﺎﺀ ﺣﻜﻮﻣﺔ ﺍﻟﻔﺮﺩ ﺍﻟﻄﺎﻏﻴﺔ ، ﺣﻴﺚ ﺍﻟﻼﺃﻣﻦ ﻭﺍﻟﻼﺍﺳﺘﻘﺮﺍﺭ .

ﺇﻥ ﻫﺬﻩ ﺍﻷﺷﻜﺎﻝ ﻣﻦ ﺍﻷﻧﻈﻤﺔ ﺗﻤﺜﻞ ﺩﺍﺋﺮﺓ ﻣﺘﻌﺎﻗﺒﺔ ، ﻓﻲ ﻇﻞ ﺗﻮﻓﺮ ﻇﺮﻭﻑ ﻭﺃﺳﺒﺎﺏ ﻣﻌﻴﻨﺔ .

-ﺍﻟﻔﻜﺮ ﺍﻟﺴﻴﺎﺳﻲ ﻋﻨﺪ ﺃﺭﺳﻄﻮ :

ﺃﺭﺳﻄﻮ Aristot ‏( 322-384 ﻕ . ﻡ ‏) ﻣﻌﻠﻢ ﺍﻹﺳﻜﻨﺪﺭ ﺍﻷﻛﺒﺮ، ﻭﻗﺪ ﺃﻃﻠﻖ ﻋﻠﻰ ﺃﺭﺳﻄﻮ ﻭﺗﻼﻣﻴﺬﻩ " ﺍﻟﻤﺸﺎﺅﻭﻥ،" ﻷﻥ ﺃﺭﺳﻄﻮ ﻛﺎﻥ ﻳﻠﻘﻲ ﺩﺭﻭﺳﻪ ﺃﺛﻨﺎﺀ ﺍﻟﻤﺸﻲ ﻭﺍﻟﺘﺠﻮﺍﻝ ﻣﻊ ﺗﻼﻣﻴﺬﻩ، ﻟﻬﺬﺍ ﻋﺮﻓﺖ ﻓﻠﺴﻔﺘﻪ ﺑـ " ﺍﻟﻔﻠﺴﻔﺔ ﺍﻟﻤﺸﺎﺋﻴﺔ ."

ﻳﻌﺪ ﺃﺭﺳﻄﻮ ﺃﻭﻝ ﻣﻦ ﺃﺩﺧﻞ ﺍﻟﻤﻨﻬﺠﻴﺔ ﻓﻲ ﻋﻠﻢ ﺍﻟﺴﻴﺎﺳﺔ ، ﻭﻗﺪ ﻗﺎﻡ ﺑﺘﺤﻠﻴﻞ ﺍﻟﺪﺳﺎﺗﻴﺮ ﺍﻟﻴﻮﻧﺎﻧﻴﺔ ، ﻭﺍﻟﺘﻌﺮﻑ ﻋﻠﻰ ﺃﻧﻈﻤﺔ ﺍﻟﺤﻜﻢ ﻗﺒﻞ ﺃﻥ ﻳﺒﺪﻱ ﺭﺃﻳﻪ ﻓﻲ ﺍﻟﻤﺴﺎﺋﻞ ﺍﻟﺴﻴﺎﺳﻴﺔ، ﻣﻌﺘﻤﺪﺍ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﻤﻨﻄﻖ، ﻭﺳﺎﻋﺪ ﺍﻋﺘﻤﺎﺩﻩ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﻤﻨﻄﻖ ﻭﺍﺧﺘﻼﻃﻪ ﺑﻤﺜﺎﻟﻴﺔ ﺃﺳﺘﺎﺫﻩ ﺃﻓﻼﻃﻮﻥ ﻋﻠﻰ ﺩﺭﺍﺳﺔ ﻭﺍﻗﻊ ﺍﻟﺪﻭﻳﻼﺕ ﺍﻹﻏﺮﻳﻘﻴﺔ ﺑﺸﻜﻞ ﺃﻛﺜﺮ ﺗﻌﻤﻘﺎ .

ﺩﺭﺱ ﺃﺭﺳﻄﻮ ﻓﻲ ﺃﻛﺎﺩﻳﻤﻴﺔ ﺃﻓﻼﻃﻮﻥ ﻭﻛﺎﻥ ﻳﻘﻮﻝ ﺃﺣﺐ ﺍﻟﺤﻖ ﻭﺃﺣﺐ ﺃﻓﻼﻃﻮﻥ، ﻭﺃﻭﺛﺮ ﺍﻟﺤﻖ ﻋﻠﻰ ﺃﻓﻼﻃﻮﻥ، ﻗﺎﻡ ﺃﺭﺳﻄﻮ ﺑﺘﻌﻠﻴﻢ ﺍﻹﺳﻜﻨﺪﺭ ﻟﻤﺪﺓ 06 ﺳﻨﻮﺍﺕ ﺛﻢ ﻗﺎﻡ ﺑﺎﻓﺘﺘﺎﺡ ﻣﺪﺭﺳﺔ ﺧﺎﺻﺔ ﺑﻪ ، ﻭﺑﻨﻰ ﺃﻓﻜﺎﺭﻩ ﻭﻧﻈﺮﻳﺎﺗﻪ ﻣﻦ ﺧﻼﻝ ﺍﻟﺘﺠﺎﺭﺏ ﺍﻟﺴﺎﺑﻘﺔ ﻟﻠﺪﻭﻳﻼﺕ ﺍﻟﻴﻮﻧﺎﻧﻴﺔ ، ﻭﻟﻘﺪ ﺣﺪﺙ ﺗﺤﻮﻝ ﻓﻲ ﻣﻨﻬﺞ ﺍﻟﺘﻔﻜﻴﺮ ﺍﻟﺴﻴﺎﺳﻲ ، ﻓﺒﻌﺪ ﺃﻥ ﻛﺎﻥ ﻗﻴﺎﺳﻴﺎ ﻋﻨﺪ ﺃﻓﻼﻃﻮﻥ ، ﺃﺻﺒﺢ ﺍﺳﺘﻘﺮﺍﺋﻴﺎ ﻟﺪﻯ ﺃﺭﺳﻄﻮ ‏( ﻣﻦ ﺗﺠﺮﻳﺪﻱ ﺇﻟﻰ ﺣﺴﻲ ).

ﺗﻤﺜﻞ ﺍﻟﺪﻭﻟﺔ ﻋﻨﺪ ﺃﺭﺳﻄﻮ ﻧﺘﺎﺟﺎ ﻟﺘﻄﻮﺭ ﺗﺎﺭﻳﺨﻲ، ﻓﻬﻲ ﻣﺮﺕ ﺑﻤﺮﺍﺣﻞ ﺍﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ ﻗﺒﻞ ﺃﻥ ﺗﺼﻞ ﺇﻟﻰ ﻣﺮﺣﻠﺔ ﺍﻟﺪﻭﻟﺔ، ﻭﻳﻌﺘﻘﺪ ﺃﻥ ﺍﻟﻀﻤﺎﻥ ﺍﻟﻮﺣﻴﺪ ﻟﻠﺤﻜﻢ ﺍﻟﺼﺎﻟﺢ ﻓﻲ ﺍﻟﺪﻭﻟﺔ ﻫﻮ ﺍﻟﻘﺎﻧﻮﻥ، ﻭﻟﻘﺪ ﻛﺎﻥ ﻷﺭﺳﻄﻮ ﻣﻔﻬﻮﻡ ﻟﻠﺪﻭﻟﺔ ﺍﻟﻤﺜﺎﻟﻴﺔ، ﻳﺮﻯ ﻓﻴﻪ ﺃﻥ ﺍﻟﺪﻭﻟﺔ ﺍﻟﺪﺳﺘﻮﺭﻳﺔ ﻫﻲ ﺍﻟﻤﺜﻞ ﺍﻷﻋﻠﻰ، ﻭﻻ ﻳﺆﻣﻦ ﻭﻻ ﻳﺜﻖ ﺑﺎﻟﺤﻜﻢ ﺍﻟﻤﻄﻠﻖ، ﻣﻬﻤﺎ ﻛﺎﻧﺖ ﺻﻔﺎﺕ ﺍﻟﺤﺎﻛﻢ، ﻭﻟﻮ ﻛﺎﻥ ﻓﻴﻠﺴﻮﻓﺎ .

ﺇﻥ ﺍﻟﺤﻜﻮﻣﺔ ﺍﻟﺪﺳﺘﻮﺭﻳﺔ ﺃﻓﻀﻞ ﺷﻜﻞ ﻋﻤﻠﻲ ﻟﻠﺤﻜﻮﻣﺔ، ﻓﻬﻲ ﺍﻟﺸﻜﻞ ﺍﻟﺬﻱ ﻳﺠﻤﻊ ﺑﻴﻦ ﺍﻟﻌﻨﺎﺻﺮ ﺍﻟﺼﺎﻟﺤﺔ ﻓﻲ ﻛﻞ ﻣﻦ ﺍﻟﺪﻳﻤﻘﺮﺍﻃﻴﺔ ﻭﺍﻷﻭﻟﻴﻐﺎﺭﺷﻴﺔ ، ﻭﻟﻜﻦ ﺩﻭﻥ ﺗﻄﺮﻑ ﻓﻲ ﻛﻞ ﻣﻨﻬﻤﺎ .

ﻳﻌﺘﺒﺮ ﺃﺭﺳﻄﻮ ﺍﻟﻌﻼﻗﺔ ﻓﻲ ﺍﻟﺪﻭﻟﺔ ﺍﻟﺪﺳﺘﻮﺭﻳﺔ، ﻋﻼﻗﺔ ﺑﻴﻦ ﺃﺣﺮﺍﺭ ﻭﻟﻴﺴﺖ ﻋﻼﻗﺔ ﻃﺒﻘﻴﺔ ﻭﻻ ﻋﺎﺋﻠﻴﺔ، ﻭﺑﺎﻟﺘﺎﻟﻲ ﻓﺈﻥ ﺳﻠﻄﺔ ﺍﻟﺤﺎﻛﻢ ﻟﻴﺴﺖ ﺳﻠﻄﺔ ﺍﻟﺴﻴﺪ ﻋﻠﻰ ﻋﺒﻴﺪﻩ، ﻭﻻ ﻫﻲ ﺳﻠﻄﺔ ﺭﺏ ﺍﻟﻌﺎﺋﻠﺔ ﺗﺠﺎﻩ ﺃﻓﺮﺍﺩ ﻋﺎﺋﻠﺘﻪ .

ﺻﻨﻒ ﺃﺭﺳﻄﻮ ﺍﻟﺤﻜﻮﻣﺎﺕ ﺇﻟﻰ ﺛﻼﺙ ﺃﻧﻮﺍﻉ :

- ﺣﻜﻮﻣﺔ ﺍﻟﻔﺮﺩ – ﺣﻜﻮﻣﺔ ﺍﻷﻗﻠﻴﺔ – ﺣﻜﻮﻣﺔ ﺍﻷﻛﺜﺮﻳﺔ .

ﻳﺒﺮﺯ ﻓﻀﻞ ﺃﺭﺳﻄﻮ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﺘﻔﻜﻴﺮ ﺍﻟﺴﻴﺎﺳﻲ ﻣﻦ ﺧﻼﻝ ﺗﺼﻨﻴﻔﻪ ﺍﻟﺴﻴﺎﺳﺔ ﺿﻤﻦ ﺍﻟﻌﻠﻮﻡ ، ﺇﻻ ﺃﻧﻪ ﺃﺣﻴﺎﻧﺎ ﺩﻣﺞ ﻋﻠﻢ ﺍﻻﻗﺘﺼﺎﺩ ﺑﻌﻠﻢ ﺍﻟﺴﻴﺎﺳﺔ، ﻭﺭﺑﻂ ﺍﻟﺴﻴﺎﺳﺔ ﺑﺎﻷﺧﻼﻕ، ﻭﻗﺎﻝ ﺑﺄﻥ ﺍﻹﻧﺴﺎﻥ ﺣﻴﻮﺍﻥ ﺳﻴﺎﺳﻲ، ﻭﻇﻴﻔﺘﻪ ﺗﺤﻜﻴﻢ ﺍﻟﻌﻘﻞ ﻣﻦ ﺃﺟﻞ ﺗﺤﻘﻖ ﺍﻟﺴﻌﺎﺩﺓ، ﺇﺿﺎﻓﺔ ﺇﻟﻰ ﺃﻥ ﺍﻹﻧﺴﺎﻥ ﺣﻴﻮﺍﻥ ﺳﻴﺎﺳﻲ ﻓﻬﻮ ﺍﺟﺘﻤﺎﻋﻲ، ﺳﻮﺍﺀ ﻓﻲ ﺃﺳﺮﺗﻪ ﺃﻭ ﻓﻲ ﺍﻟﻤﺠﺘﻤﻊ، ﻭﻳﺘﺤﺪﺙ ﺃﺭﺳﻄﻮ ﻋﻦ ﺍﻻﻧﺘﻘﺎﻝ ﻣﻦ ﺍﻟﻌﻼﻗﺎﺕ ﺍﻷﺳﺮﻳﺔ ﺇﻟﻰ ﺇﻃﺎﺭ ﺃﺷﻤﻞ ﻫﻮ ﺍﻟﻌﻼﻗﺎﺕ ﺍﻟﻤﺠﺘﻤﻌﻴﺔ، ﺣﻴﺚ ﺗﻜﻮﻥ ﺍﻟﺪﻭﻟﺔ ﺃﺳﻤﻰ ﻣﻦ ﺍﻟﻔﺮﺩ ﻭﺍﻟﻌﺎﺋﻠﺔ ﻭﺍﻟﻘﺮﺑﻰ، ﻳﻤﻨﺢ ﺃﺭﺳﻄﻮ ﺛﻼﺙ ﺷﺮﻭﻁ ﻟﻠﻤﺪﻳﻨﺔ ﺍﻟﺼﺎﻟﺤﺔ :

- ﺃﻥ ﺗﻜﻮﻥ ﺍﻟﻤﺪﻳﻨﺔ ﻣﺤﺪﻭﺩﺓ ﺍﻟﺴﻜﺎﻥ، ﺑﺤﻴﺚ ﻻ ﻳﺘﻌﺪﻯ ﻫﺆﻻﺀ 100 ﺃﻟﻒ ﻧﺴﻤﺔ .

- ﺃﻥ ﺗﻜﻮﻥ ﺍﻟﻤﺪﻳﻨﺔ ﻣﺤﺼﻨﺔ ﻣﻦ ﺍﻷﻋﺪﺍﺀ، ﻭﺑﺠﻴﺶ ﻗﻮﻱ، ﻭﺃﻥ ﻳﻜﻮﻥ ﻣﻮﻗﻌﻬﺎ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﺒﺤﺮ ﻣﻦ ﺃﺟﻞ ﺗﻤﻮﻳﻨﻬﺎ ﻓﻲ ﺣﺎﻟﺔ ﺍﻟﺤﺼﺎﺭ.

- ﺃﻥ ﺗﺘﺄﻟﻒ ﺍﻟﻤﺪﻳﻨﺔ ﻣﻦ ﻋﺪﺓ ﻃﻮﺍﺋﻒ ‏( ﺍﻟﺤﻜﺎﻡ، ﺍﻟﻌﻤﺎﻝ، ﺍﻟﻔﻼﺣﻴﻦ ..، ‏) ﻭﺃﻥ ﻻ ﺗﺤﻞ ﻃﺎﺋﻔﺔ ﻣﺤﻞ ﺃﺧﺮﻯ .

ﻳﺮﻯ ﺃﺭﺳﻄﻮ ﺃﻥ ﺍﻟﺤﺮﺏ ﻭﺍﻟﻐﺰﻭ ﻭﺍﻻﺣﺘﻼﻝ ﻭﺍﻟﺘﻮﺳﻊ، ﻫﻲ ﻭﺳﺎﺋﻞ ﻣﺸﺮﻭﻋﺔ ﻟﻠﺘﻤﻠﻚ، ﻭﻫﻲ ﻣﺒﺎﺣﺔ ﻓﻘﻂ ﻟﻺﻏﺮﻳﻖ، ﻓﺎﻟﺒﺸﺮ ﻓﻲ ﻧﻈﺮ ﺃﺭﺳﻄﻮ ﻗﺴﻤﺎﻥ : ﺍﻟﺴﺎﺩﺓ ﻫﻢ ﺍﻹﻏﺮﻳﻖ ، ﻭﺍﻟﺒﺎﻗﻲ ﻫﻢ ﺍﻟﻌﺒﻴﺪ .

ﺭﻛﺰ أرسطو ﻋﻠﻰ ﻣﺴﺄﻟﺔ ﺍﻟﻔﺼﻞ ﺑﻴﻦ ﺍﻟﺴﻠﻄﺎﺕ ﻓﻲ ﻣﺠﻤﻞ ﺃﺑﺤﺎﺛﻪ ﻭﻣﻦ ﺧﻼﻝ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﻔﺼﻞ ﺗﻤﻜﻦ ﻣﻦ ﺍﻟﺘﻤﻴﻴﺰ ﺑﻴﻦ ﺍﻟﺤﻜﻮﻣﺎﺕ ﺍﻟﺼﺎﻟﺤﺔ ﻭﺍﻟﻔﺎﺳﺪﺓ ، ﻭﺍﻟﺤﻜﻮﻣﺎﺕ ﺍﻟﺼﺎﻟﺤﺔ ﻓﻲ ﻧﻈﺮ ﺃﺭﺳﻄﻮ: 1- ﺍﻟﺤﻜﻮﻣﺔ ﺍﻟﺪﺳﺘﻮﺭﻳﺔ. -2 ﺍﻟﺤﻜﻮﻣﺔ ﺍﻷﺭﺳﺘﻘﺮﺍﻃﻴﺔ. -3 ﺍﻟﺤﻜﻮﻣﺔ ﺍﻟﺪﻳﻤﻘﺮﺍﻃﻴﺔ .

ﺃﻣﺎ ﺍﻟﺤﻜﻮﻣﺎﺕ ﺍﻟﻔﺎﺳﺪﺓ ﻓﻬﻲ: 1- ﺍﻟﺤﻜﻮﻣﺔ ﺍﻻﺳﺘﺒﺪﺍﺩﻳﺔ .2- ﺍﻟﺤﻜﻮﻣﺔ ﺍﻷﻭﻟﻴﻐﺎﺭﺷﻴﺔ. -3 ﺍﻟﺤﻜﻮﻣﺔ ﺍﻟﺪﻳﻤﺎﻏﻮﺟﻴﺔ ‏(ﺣﻜﻮﻣﺔ ﺍﻟﻐﻮﻏﺎﺀ).

ﻳﻔﻀﻞ ﺃﺭﺳﻄﻮ ﺍﻟﺤﻜﻮﻣﺔ ﺍﻟﺪﻳﻤﻘﺮﺍﻃﻴﺔ ﺍﻟﻘﺎﺋﻤﺔ ﻋﻠﻰ ﺩﺳﺘﻮﺭ ، ﺗﺤﺪﺩ ﻓﻴﻪ ﺍﻟﺼﻼﺣﻴﺎﺕ ، ﻭﺫﻟﻚ ﻟﻤﺎ ﻳﻠﻲ :

- ﺍﻟﻘﻮﺍﻧﻴﻦ ﻓﻲ ﺧﺪﻣﺔ ﺍﻟﻌﺎﻣﺔ ﻭﺍﻟﺪﺳﺘﻮﺭ ﻳﺤﻤﻲ ﺍﻟﻤﺼﺎﻟﺢ ﺍﻟﻌﺎﻣﺔ .-ﺍﻟﺪﺳﺘﻮﺭ ﻫﻮ ﻣﻨﻬﺞ ﻟﻠﻌﻤﻞ ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ ﻟﻜﻞ ﺍﻟﺤﻜﻮﻣﺔ .- ﺣﻜﻢ ﺍﻟﻘﺎﻧﻮﻥ ﻳﺸﻌﺮ ﺍﻷﻓﺮﺍﺩ ﺑﺎﻻﺭﺗﻴﺎﺡ ﺍﻟﻨﻔﺴﻲ ﻭﺍﻟﺸﻌﻮﺭ ﺍﻟﻮﻃﻨﻲ ، ﻭﺑﻘﺪﺭﺗﻬﻢ ﻋﻠﻰ ﺍﻻﺧﺘﻴﺎﺭ، وتتلخص جميع أفكاره في جعل الفضيلة هي المعرفة أي المعرفة للخير العام ويقوم بذلك الملوك الفلاسفة.

الدولة في الفكر المسيحي

 تبدأ العصور الوسطى من سقوط الإمبراطورية الرومانية الغربية في القرن الخامس الميلادي، وقد كان ذلك بسبب تدهور الأوضاع الاقتصادية في داخلها وبسبب الغزوات المتكررة من قبل القبائل الجرمانية، وخلال فترة من الزمن انتشرت وسيطرت هذه القبائل على مختلف أنحاء أوروبا، ولأنها  كانت تحمل شرائع وعادات المجتمع الريفي فقد جعلت أوروبا ترزح تحت نظام الإقطاع القديم، أما عن الديانة المسيحية في ذلك الوقت فكانت قد استقرت دعائمها بعد جعل الإمبراطورية الرومانية لها الدين الرسمي، ولكن القرن السابع الميلادي شهد بداية ظهور الإسلام الذي بدوره أدى إلى ظهور حضارة جديدة ونهضة كبرى في العالم أجمع مما أثر على الديانة المسيحية في أوروبا، لأنه عمل على تنظيم حياة الفرد والجماعة من النواحي الاجتماعية والسياسية والاقتصادية .

النظرية السياسية في المسيحية

إن الدين المسيحي فصل بين الدين والدولة ولم يتعرض لنظام الحكم بل تركه لجهود البشر لكي يشتغلوا به حسب ما يروه مناسبا لحياتهم وأكتفى فقط بالدعوة للفضائل الأخلاقية التي تحقق السعادة للبشر مثل العدل والبر والرحمة والإحسان وغيرها الكثير، وهذه الفضائل هي الدعائم التي تبنى عليها الإرادة العامة وتتغذى، وهذا ما ساهم  في دعم كبير لنظرية الإرادة العامة.

وتدعو المسيحية للمساوة بين البشر لأنهم جميعا خلق الله ويرجعون إليه ليحاسبوا على أعمالهم الدنيوية، وكل إنسان جدير بالتقدير والاحترام لكونه إنسانا فقط  بغض النظر عن وضعه الاجتماعي أو المادي، وأن الله تعالى هو المسيطر على هذا الكون وأن قوانين الله العليا يجب أن تخضع لها قوانين الدولة وتسترشد بها، وهذا يجعل مصدر السلطة هو الله، لذلك فإن تحديد من صاحب الحق في ممارستها (السلطة) على أرض الواقع يتم عن طريق إحدى النظريات الثيوقراطية التالية :

1-     نظرية الحق الإلهي المباشر

وتقول هذه النظرية أن الله هو الذي يختار الشخص أو الأشخاص أو الأسرة التي لها الحق في الحكم السياسي في الدولة، وهذا يعني أن سلطة الملوك مستمدة من الله الذي أختارهم وأيدهم بقوته ليرعوا مصالح الأفراد الذين بدورهم يجب عليهم أن يطيعوهم، ولهذا فإن الله تعالى باختياره للحاكم وما يملكه من أجهزة الإكراه والعقاب التي تمثل التنظيم السياسي هي بسبب طبيعة الإنسان الفاسدة التي فرضها الله عليه بسبب الخطيئة الأولى، لهذا يجب على الإنسان هنا طاعة الحاكم أيا كانت تصرفاته ما لم يخالف تعاليم الكنيسة لأنها إرادة الله، وهذا ما بنى عليه آباء الكنيسة الأوائل نظرتهم  للحكم.

2-نظرية الحق الإلهي غير المباشر

وتقول هذه النظرية أن الله تعالى لا يختار الملوك مباشرة بل إن العناية الإلهية  ترتب الحوادث بشكل معين حتى يستلم فرد أو أسرة أعباء الحكم بواسطة الشعب واختياره، وكانت هذه النظرية أول محاولة للحد من السلطان المطلق للملوك في العصور الوسطى المسيحية، لأن الملك هنا لا يمارس سلطته السياسية بالقوة أو باعتبارها حقا شخصيا لأن الله أختاره مباشرة، ولكن يمارسها باختيار الناس له لأنهم وسطاء بينه وبين السلطة من الله، ويظهر مما سبق أن هذه النظرية تتسع لفكرة الإرادة العامة لأنها هنا مستمدة من الله، وهي بذلك عبارة عن تطور لنظرية الحق الإلهي المباشر والتي سببت الصراع بين الدولة والكنيسة إبان حركة الإصلاح الديني.

ولكن عندما انهارت الإمبراطورية الرومانية أصبحت الكنيسة المسيطرة على العالم المسيحي كله مما ساعدها على تكييف علاقتها بالسلطة الزمنية وبإخضاعها للكنيسة، لأنها  كانت هي التي تمثل الشعب المسيحي، وبذلك أصبحت سلطة البابا تمارس على جميع المسحيين بما فيهم الحكام، ومع مرور الزمن أصبح الحاكم الزمني يستمد سلطته من الحاكم الروحي على أساس أن الله سلم سيفين للبابا احتفظ بأحدهما وهو سيف السلطة الدينية وأعطى الثاني للحاكم الزمني، وهو بذلك يستطيع حرمانه منه إذا لم يقم بالواجبات المفروضة عليه، وقد نتج عن ذلك أن البابا بدأ يفرض سلطته على الحاكم الزمني ويتحكم به، وقد أستمرت نظرية الحق الإلهي غير المباشر سائدة طوال قرنين كانت فيها للكنيسة النفوذ واليد الطولي في المجتمع الأوروبي المسيحي، ولكن ما لبث أن تقلص هذا النفوذ خاصة فيما يتصل بالشؤون غير الدينية بسبب عدة عوامل اجتماعية واقتصادية وفكرية طرأت على أوروبا في تلك الفترة من الزمن.

وقد كان لهذه النظرية دعاة كثر من أبرزهم:

1-     جون سالسبري: وقد وضع قيود على الحاكم عن طريق القانون الإلهي الأسمى، وبذلك يستطيع أفراد الشعب مقاومة الأمير أو الحاكم إذا لم يلتزم بتلك القوانين الإلهية، على أن يقوموا هم أيضا بواجباتهم والتزاماتهم في ظل هذا القانون، لأن القوة والقضاء على الحريات وعدم الاهتمام بالمصالح العامة يبيح الثورة على الحكام وقتل الطغاة بل إنه يعتبر من العدل والصواب لأنهم استبدوا بالسيف ولا بدا أن يقتلوا بنفس السيف، لأنه من واجب الأمير أو الحاكم أن يكون خادما لزملائه وللمصلحة العامة ويطيع القانون ويحقق العدالة والثراء والقيم الأخلاقية.

2- القديس توما الأكويني: والذي التزم بالأصل الفلسفي الذي وضعه أباء الكنيسة، حيث أنه يؤمن بقداسة السلطة لأنها من عند الله ولكنها غير مقدسة في طريقة إسنادها للحاكم، وأنه يجب أن يكون هدف أو غاية أي حكومة هو هدف أخلاقي وأن يتم انتخاب الحاكم ومعاونيه في الحكم وأن تكون لسلطته حدود هي القانون وأن تكون للصالح العام وليس للمصلحة الخاصة والشخصية، لأنه يمثل الشعب ولكن إن استبد في حكمه، فقد أصبح من حق الشعب مقاومته ولكن بشرطيين:

1-     أن لا يمارس هذا الحق طائفة من الشعب بل كل الشعب .

2-     أن لا تنتج من مقاومة الحاكم مساوئ وأضرار أكثر مساوئ الحاكم أوما يعادلها .

3-      مارسيليو أوف بادو: وهو الذي إتفق مع أكويني من حيث الإعلاء من شأن الإرادة العامة وكان ذلك في القرنين الثالث عشر والرابع عشر، وقد عمل على إنشاء نظام ديمقراطي مثالي لتنظيم العلاقة بين الكنيسة والإمبراطورية الرومانية على أساس المسؤولية الروحية والزمنية للحاكم أمام الشعب ومنحة سلطة إيجابية للجماعة، وقد كان مارسيليو أرسطيا فيما يتعلق بأنواع الحكومات، حيث كانت الحكومة عنده تتكون من مجالس منتخبة تعنى بشؤون الدولة والكنيسة وأن تعمل على تحقيق الصالح العام وفقا لإرادة الشعب وإلا أصبحت طالحة وفاسدة، أما القانون فقد قسمه إلى نوعين: 1-القانون المقدس وهو أوامر من الله مباشرة 2-القانون البشري وهو أوامر جماعة من المواطنين، ومن هنا لا يمكن لرجال الدين أن تكون لهم السلطة لأن سلطتهم بلا قوة تنفيذية إلا إذا أعطاهم المشرع هذه القوة، وذلك على أن توجد هيئة تنفيذية منتخبة من الشعب تقوم على تنفيذ القوانين ومعاقبة من يخالفها والتأكد من قيام دوائر الدولة المختلفة بأعمالها بما يخدم الصالح العام وأن أي تقصير منها يجوز للشعب إسقاطها.

4-      تيودور دي بيز: والذي أعلن عن  فكرة الإرادة العامة  في القرن السادس عشر وذلك حين بدأت الفلسفة السياسية  تعمل على إعطاء الشعوب حقها، حيث ذكر في كتابه (حق ولاة الأمور على الرعايا) أن الأمراء للشعوب وليس الشعوب للأمراء، كما وقد أعطى للشعوب الحق في مقاومة الملوك والأمراء بواسطة ممثلين عنهم إذا أخل هؤلاء الحكام بعقودهم وشروطها التي تجمعهم مع الشعب.

5-     المؤلف البروتستانتي فرانسو أوتمان: والذي بين أن النظام الفرنسي القديم كان يعترف بإرادة العامة للشعب التي كان يمارسها عن طريق مجلس الأمة الذي كان من حقه خلع الملك ونقل التاج من أسرة إلى أسرة.

6-     المفكر البروتستانتي ايبير لانجو: والذي لا يعتبر الإرادة العامة هي إرادة الشعوب بل هي إرادة ممثلي الأمة الذين اختارهم الشعب وفوضهم في مباشرة حقه في الإشراف على تصرفات الملك، وقد هاجم لانجو بشدة الطغاة والطغيان وبين أنه من حق الشعوب المقاومة  لاسترداد السلطة من حكامهم إذا أساءوا  استعمالها وقد تكون هذه المقاومة فردية أو جماعية.

7-     بيشامان: والذي كتب رسالة في أسكتلندا عنوانها (قوانين الملكية لدى الأسكتلنديون) وقد بين فيها أن الشعب أسمى من الملك وإن الملك إن جار وجب على الشعب أن يخلعه.

8- جون أتيسيوس: والذي قال في كتابه (السياسة المثلى) نفس الأفكار البروتستانتينة، حيث أستمرت هذه الأفكار في بداية القرن السابع عشر ولكن بأوصاف جديدة، وقد قال بها فرانسو سواريز في كتابه (الدفاع عن العقيدة) وقال بها أتين دي لابواتي في كتابه(العبودية الاختيارية).

-أبرز مميزات النظريتين:

1- كانت للدولة فيهما رسالة أخلاقية سامية. 2 - أعطت وبينت أن الدين عامل أساسي ومهم في تطور الدولة من الناحية السياسية.

-أبرز سلبيات النظريتين:

1- لا تصلح للحكم في عصر العلم والعقل والفكر المستنير بل فقط في عصر الجهل. 2- أصبح الآن الاعتماد على أن للعقل الدور الأعلى، وأن دور الإيمان مقتصر على المسائل الروحية فقط. 3- وصفت هذه النظريات بأنها دينية، ولكن الدين منها براء سواء في الإسلام أو المسيحية. 4- جوهر النظريتين هو أن إرادة الله تعالى هي التي تختار الحاكم سواء بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، وقد أستغل ذلك لتبرير السلطة المطلقة للملوك وتحريم مقاومتهم وذلك في أوروبا . 5- لم تبين النظريتين كما لم يبين توما الأكويني الطريقة المناسبة للحد من سلطات الحاكم وتخفيفها حتى لا ينزلق الحاكم نحو الطغيان والاستبداد. 6 - لا يجيز أكويني الانقلاب على الحاكم المستبد، لأنه يعتبر الانقلاب عليه أشد خطورة على نظام الدولة من استبداده، لهذا يجب الصبر عليه. 7- يقول أكويني أنه يجب انتخاب الحاكم وأعوانه في الحكم على حسب النظام الذي سنه الله تعالى لموسى، ولكن المشكلة هنا أن هذا النظام يصلح لاختيار من يعاون الحاكم ولكنه لا يصلح للحاكم الذي أختاره الله.

الدولة في الفكر الاسلامي

الفلسفة السياسية عبارة عن ممارسة تأملية عميقة في الواقع السياسي وأصوله، ومحاولة لسبر غور الظاهرة السياسية العامة وما تحتها من جزئيات. وقد كانت أوائل الكتابات السياسية القديمة ذات منزع فلسفي سواء منها ما ورد عن فلاسفة الشرق في مصر والصين والهند وفارس والعراق، أو ما اشتهر من فلسفة الإغريق والرومان.

الفكر السياسي عند الفارابي

ويعد أبو نصر محمد بن محمد الفارابي (ت:329هـ) من أبرز فلاسفة الحضارة الإسلامية الذي أسهموا في الفكر السياسي، وتجلت في كتابته خصائص الطريقة الفلسفية في تناول المجال السياسي. ولد الفارابي بمدينة تدعى فاراب في بلاد ما وراء النهر وإليها ينسب، ونشأ في بغداد حيث كان أبوه يعمل جنديًّا. وفي بغداد درس الفارابي العربية والفلسفة والمنطق والطب، ثم انتقل إلى دمشق فحلب؛ ليستقر في بلاط سيف الدولة الحمداني. اشتهر الفارابي بفيلسوف المسلمين وبالمعلم الثاني لنبوغه في علوم اليونان وبخاصة الفلسفة والمنطق ولكثرة شروحه لكتب أرسطو الذي عرفه فلاسفة العرب بالمعلم الأول، لكنه اشتهر أيضًا في الموسيقى: صناعة للآلات (مثل القانون) وتأليفًا وأداءً للألحان، وأجاد لغاتٍ عدة.

نقل الفارابي الكثير من كتابات أفلاطون وأرسطو واقتدى بهما في الأسلوب وفي أكثر أفكاره وراكم عليها، وقد استعار الفارابي أسلوب التجريد منهما لكي يرسم صورة الدولة في عصره، ويوجهها إلى غاية (السعادة) من طريق (الفضيلة). فكما فعل أفلاطون يعبر الفارابي عن الدولة باسم “المدينة”، ويعتبرها وحدة بناء “الأمة” التي هي بدورها وحدة بناء المعمورة. ويشيد معمارًا متكاملاً للدولة يتألف من:

 مثالٍ أو ناموس مرجعي أشبه بالشريعة التي يأتي بها نبي (أو الحكمة التي يُلهمها فيلسوف) وهو واضع النواميس؛ ومن ثم فالنبوة هي الرئاسة الأولى المؤسِّسة للدولة. وإدراج النبوة هنا من أمارات اعتماد الفارابي على مصادر حضارته الإسلامية وعدم اكتفائه بما تعلمه عن اليونانيين، لكن مفهومه للنبوة اعتورته بعض المشكلات من مثل القول بأنها مقام يمكن أن يُكتسب بالرياضة الروحية والنفسية. لكن الشيء المهم في هذا الصدد هو اشتراك المدخل الفلسفي مع سائر مداخل الفكر السياسي الإسلامي في التأكيد على أهمية الإطار المرجعي (أي الدستور) في تأسيس الدولة، وتصنيف الدول والأمم على حسب موقعها من المرجعية المثلى (الشريعة) بين: أمة فاضلة حققت الفضيلة حيث جمعت بين المعرفة بالشريعة والإيمان بها والتبني لها والالتزام بتطبيقها، وأمم من دون ذلك لم تحقق الفضيلة: فإما جهلت من الأصل، وإما عرفت وبدلت، وإما اتبعت غير الهدى فضلت، وإما عرفت ولم تلتزم ففسقت.

ومن هنا انقسمت الأمم عند الفارابي إلى قسمين كبيرين: فاضلة وجاهلية (أو جاهلة باعتبار المعرفة تستلزم العمل بمقتضاها)، ثم تنقسم الجاهلية بين أربع: جاهلة وضالة ومبدلة وفاسقة على نحو ما سيتبين.

 والمكون الثاني للدولة: طبقة رئاسية فُطرت على طباع القيادة، يؤسسها واضع النواميس، ويقودها فيما بعده عضو رئيس، أهم خصائصه أنه يقتفي أثر المؤسس الأول، (فيما يقارب تعبير الفقهاء عن الإمامة بأنها خلافة عن النبوة). واتفق الفيلسوف في هذا أيضًا مع سائر مفكري الإسلام الذين أوجبوا الإمامة بالنقل وأيدوا ذلك العقل والواقع. وتختلف الرؤى في توصيف الرئيس عند الفارابي، فتارة تراه أشبه بإمام المسلمين المستقيم على منهاج النبوة؛ أي الخليفة الراشد الجامع لفضيلتي العلم والعمل، وتارة أخرى تراه أشبه بالحاكم الأفلاطوني؛ أي الفيلسوف.

والذي يترجح عندنا أن الفارابي لم يكتف بنقل النموذج الأفلاطوني (وإن بدت كثير من مقولاته كذلك لا سيما تسميته الرئيس بالفيلسوف وتأكيده أنهما بمعنى واحد وتسويته الفيلسوف بواضع النواميس وحديثه عن الفطر الجاهزة باعتبارها شرائط منتهية وناجزة). فارتباطه بالمعين الإسلامي يتضح حين يصرح بأن الفيلسوف لا تكفيه حكمته الفلسفية لكي يضطلع بمنصب الرئاسة العليا، حيث تعوزه قدرات عملية ومهارات سلوكية وقيم روحانية، ويشترط فيه مواصفات أقرب إلى شروط الماوردي في أحكامه السلطانية (من العلم والعدل وسداد الرأي وسلامة الأعضاء والشجاعة)، وحين يجعل الحاكم تابعًا للمؤسِّس الأول الذي هو غالبًا نبي مرسل، وحين يطعّم رؤيته بجانب صوفي روحاني لا تجده واضحًا عند اليونانيين.

 وجمهور عامل: مفطور على الخدمة بدرجاتها، وليس له من متطلبات القيادة العليا ما يؤهله لها. إن استطالة حديث الفارابي عن فطر رئاسة وفطر خدمة قد يحمل على أنه عنصرية أو طبقية أرستقراطية جامدة، وقد ينظر إلى رؤيته على أن يوتوبية تخيلية أو تفكير بالتمني، ولكن يمكن أن يحمل هذا التصنيف على أنه ينبه إلى مراعاة الاستعدادات والقابليات فيمن يشغل المناصب وتسند إليه الوظائف، وأن المشكلة تكمن في طريقة تعبير الفلاسفة عن تنظيراتهم حيث يتداخل الوصف والتقرير مع الطلب والتوجيه.

فالفارابي –في مقام الأخلاق- يقرر بإطلاقٍ وتعميمٍ قوييْن أن الأخلاق مكتسبة تمامًا ليس منها شيء مفروضًا على الإنسان؛ وذلك في الأخلاق الحميدة والذميمة سواء؛ ومن ثم فالمجال مفتوح للترقي والانتقال بين المقامات الرأسية والأحوال الأفقية. ومن ثم فالطبقات إنما هي طوائف ووظائف، وكلها مهمة ولكن بعضها أهم من بعض: فأهم الأعمال -عنده- ما تعلق بأمر الدين (الروح) ثم الحكمة (المعرفة) ثم السياسة؛ لذا فالطبقة الأولى تتكون من الشرعيين والحكماء والساسة، ثم الخطباء والشعراء والكتبة، ثم المجاهدون ثم المهنيون ثم الماليون.

 والمكون الرابع والجوهري للدولة هو: مقصد أعلى: وهو “السعادة” أو “السعادة القصوى”. فالإنسان الفرد، والاجتماع الإنساني ومنه السياسي -مهما كان- يرمي إلى نيل ما يحب ودفع ما يكره، وما يحبه هو الخير، وأعلى الخير هو السعادة. ويبدو أن هذا ليس موضع اختلاف بين الناس، ويتفق فيه الواجب مع الواقع. إنما يقع الاختلاف في: تعيين السعادة وتحديد حقيقتها، فهناك السعادة الحقيقية وهناك السعادات الزائفة، ومن الزيف جعلُ السعادة الصغيرة أو التي هي خطوة ووسيلة في مقام السعادة الكبرى النهائية. والسعادة النهائية لدى الفارابي هي سعادة الروح بترقيها إلى مقام سماوي بحيث تنفصل عن الجسد وطينيته وتصبح جوهرًا خالصًا مثل الملائكة والعقول السماوية وبالأخص ما أسماه –نقلاً عن أرسطو- بالعقل الفعال. (وهاهنا تلبيسات ومفاهيم مغلوطة اتبع فيها الفارابي تعبيرات أرسطو وأفكار أفلوطين وقرر عن الغيب دعاوى ما أنزل الله تعالى بها من سلطان علاوة على مخالفات صريحة للوحي).

المهم في هذا المقام هو اشتراك الفارابي مع الفقهاء والمفكرين في غائية الدولة، وأن غايتها تتلاقى مع غاية الفرد والخلق، وأن هذه الغاية تتصل بالله تعالى وأمر السماء، وأن سعادة الروح مقدمة على سعادة البدن حين تتعارضان، وأن الجانب النفسي والإرادي من دعائم البناء السياسي التي لا يجوز إغفالها.

لكن اقتراب الفارابي من المصدر الإسلامي في هذا الجانب الغائي يبدو ضعيفًا، ولا يشفع له اقتراب معاني ما ذكر من المقررات الإسلامية، فالظاهر أنه قد اكتفى منه بما ناسب منقولاته عن اليونانيين، بينما ترك من التفصيلات الإسلامية الكثير ولم يبدُ حريصًا على أن يستفيد من الوحي في بيان السعادة بمعنى الرضوان الإلهي الأكبر وما يرضاه الله تعالى وما لا يرضاه . هذا فضلاً عن التزامه بالصياغات (وبدرجة أقل: الألفاظ) المأخوذة عن اليونانيين رغم ما تتسم به أحيانًا من إغراب وغموض.

 وقيم أساسية: فالطريق الذي ينبغي سلوكه لتحقيق مقصد الدولة لا يتمثل في استراتيجيات ثابتة أو سياسات متعينة بل في نوعية هذه السياسات. وهذه النوعية تتحدد بالقيم التي جماعها قيمة الفضيلة. والفضيلة هي التزام الشريعة أو المرجع: وعيًا وعزمًا وسعيًا. وتتجلى الفضيلة ضمن نظام الفارابي السياسي في إقامة ميزان العدل، واستيفاء الحقوق وأداء الأمانات، والتعاون على الخير والتدافع ضد الشر، والتسالم العام داخل الدولة وفيما بين الأمم، ومراعاة مقتضيات الإنسانية المضادة للبهيمية. فالدولة الفاضلة دولة إنسانية قيمية، وسائر الدول الجاهلية تقع بين حالتي الغابة والحظيرة: يسودها المكر والخداع أو التهارج أو القهر.

والقيم يجب أن تتجسد أولاً في رأس الدولة: الحاكم والنخبة، فهم المضغة التي إن صلحت صلح الجسد كله، والأمر بعكسه. وبناء على قيمة الفضيلة تتأسس الدولة أو المدينة الفاضلة وتستبين النماذج المضادة لها.

 النظام العالمي بين الدولة الفاضلة و مضاداتها : إذا كانت المدينة الفاضلة الخالصة كما يقدمها الفارابي هي رؤية نظرية، فهي بذلك مثال ومعيار تقاس عليه الدول المتحققة في أحوالها الواقعية. فالدولة الفاضلة لها درجات، ولها أيضًا مضادات بناء على موقف هذه الدول من السعادة والفضيلة، فيما يمكن إجماله في الشكل التالي:

إذا كان التفلسف قد ابتعد بالفارابي عن وصف الواقع وصفًا مباشرًا على عادة البحوث الحديثة والتأريخ السياسي، فإن هذا لا يقلل من قيمة ما قدمه. فقد شيد رؤية منهجية عامة يمكن أن تفسر الكثير من أحوال الصلاح والفساد التي تمر بها الدول والنظم السياسية، وفي طرحه دعوة لإعادة الاعتبار للتأمل العميق والغوص فيما وراء الظواهر لتجلية الحقائق التي تحكم العملية السياسية.

الفكر السياسي عند ابن خلدون

يعد ابن خلدون أول من استطاع أن يستخلص الأبعاد السياسية من الاعتبارات الدينية، وأول من استطاع أن يشرحها بطريقة أصح من الوجهة العلمية، ولغاية ليست عملية من وجهة ما. ولو أن ابن خلدون لم يزد على أن جعل السياسية موضوعاً لعلم نظري لكان شأنه فى هذا أقل بكثير من أرسطو وأفلاطون، إذا لم يكن له رسوخهما. كما أنه لم يعرف إلا شكلاً واحداً للحكومة، هو شكلا الحكومة المطلقة الذي تخالف كثيراً عن النظم اليونانية. إلا أن ابن خلدون كان يرمى من وراء كتابته فى السياسية إلى غاية أخرى أوسع بكثير من ذلك فقد كان يريد أن يشرح تاريخ الإنسانية بأوسع معاني الكلمة، وفى هذا تتفوق فكرته الاجتماعية.

فالسياسة لدى ابن خلدون ينتظم بها أمر العمران على حسب تعبيره، وهو يميز بين أنواع السياسات حسب طبيعة الأسس التي تستند إليها والمصالح التي تقوم على رعايتها ما بين سياسية (طبيعية)، وسياسة (عقلية)، وسياسة (شرعية). وهكذا تدلنا قراءة المقدمة على رؤيته عن عموم السياسات وأنواعها الموجبة للعمران البشري كمفاهيم عامة عالمية تخرج عن الإطار التطبيقي للمقدمة في علاقتها بتاريخ المغرب العربي. وبتعبير أخر يجب عند تحليل رؤيته ودراستها ألا نقتصر على حدود الأبعاد المعرفية والتاريخية التي احتواها كتاب العبر؟ فما طرحه ابن خلدون من أبعاد معرفية ورؤى منهجية تتجاوز بكثير طبيعة الاجتماع العربي والاسلامي فى القرن الرابع عشر الميلادي، ومن ثم يمكننا سحب ابن خلدون إلى مجال العالمية في الرؤية والمنهج والقضايا، وهنا يبرز الاسهام العلمي الحقيقي له.

 

ويقتضي التعرف على موقع السياسة من الظاهرة العمرانية فى فكر ابن خلدون التوقف عند ثلاث نقاط مترابطة ومتتابعة على التالي: لكن أذكرها سريعاً: –

أولاً: ما يتصل بالشروط والمقتضيات الطبيعة والبشرية التى تميز الاجتماع الإنساني وتقود إلى ظهوره ابتداء (نشأة الاجتماع السياسي).

ثانياً: ما يتصل بالتقاء الشروط الطبيعة والبشرية من انفتاح على العمران البشري (دور السياسية الناظمة للعمران، ودور العصبية المحركة لفاعليته).

ثالثاً: ما يتصل بالعلاقة بين مكونات الاجتماع البشري عموماً، خاصة علاقات الخاص/ العام.

نظريات ابن خلدون السياسية: ـــ

بين دفتي مقدمة ابن خلدون وكتاب التعريف ملامح في السياسة والفلسفة والتاريخ والاجتماع وغير ذلك مما تزخر به المقدمة من معارف وفنون ونظريات وأفكار أودعها في فصول مقدمته. وابن خلدون مثل سابقيه لم يجانب الصواب وسار على نهجهم، فكانت شهرته كمؤرخ وكعالم للاجتماع أكثر من الفلسفة والسياسة. كل هذا الزخم الفكري إنما هو محصلة المعرفة التي اكتسبها وتعلمها، والتي بانت جلية في الأفكار التي أودعها في مقدمته عن السياسة في تونس وبلاد المغربين الأوسط والأقصى من خلال وظائفه التي استدعي إليها، وهذه النزعة المعرفية والسياسية حول الكتابة قديمة قدم الفكر اليوناني، حيث أصبحت بمثابة العرف عند المفكرين والمؤرخين على اختلاف مشاربهم، وابن خلدون دعته واستهوته الكتابة في السياسة ما كتبه حول علمه الذي استحدثه وهو- علم العمران – حيث يقول في فصل أعده لهذا الغرض “إن العمران البشري لابد له من سياسة ينتظم بها أمره”(1).

هذه النزعة الخلدونية للسياسة شدت الانتباه لأخذ القلم والبحث في ثنايا هذه الأفكار، وما آلت إليه نزعته هذه سواء النظرية أو التجريبية ومدى انعكاسها على حياته العلمية التي كان اهتمامه بها لا يقل عن اهتمامه بالسياسة في عقوده الأربعة الأولى، إَلا أنه كان يقوم بالتدريس متى سنحت له الفرصة.

وكان يتعلم في عقوده الأربعة الأولى، إَلا أنه كان يقوم بالتدريس متى سنحت له الفرصة. وكان يتعلم ويجالس العلماء بعد أن توطدت علاقته مع أمراء وسلاطين دول المغربين الأوسط والأقصى.

حين نبحث في السياسة الخلدونية نقصد الدولة، وما يهتم به أصل الدولة وفصلها، فكيفية نشأة الدولة هو الذي يحرص عليه وعلى إبرازه في عمرانه الذي استحدثه من جهة ومن جهة أخرى يعود السبب إلى الأحداث الجسام التي أحاطت بنشأة الدولة الإسلامية، ثم الأزمات التي توالت على الحكم الإسلامي، ولعل نظرته إلى دورة حياة الدولة كان اعتماده على النموذج (البيولوجي – الحياتي – للإنسان).

نظرة ابن خلدون للسياسة:

إن التجربة السياسية كانت نتائجها وثمرتها هو تأليف ابن خلدون في التاريخ وعلم الاجتماع العام والسياسي والاقتصادي وغيرها من الأفكار التي ظهرت على شكل موسوعة علمية ينهل منها المفكرون على اختلاف مشاربهم، وتعتبر آراءه مرجعية في كثير من العلوم والفنون والسياسة، والأخيرة هذه كانت شغله الشاغل وهاجس بدأ معه منذ توليته أول وظيفة عمل بها إلى أن عكف على التأليف والكتابة.

وإذ لم يسلم قلمه من الكتابة في دواوين الأمراء أيضاٌ، لم يسلم قلمه في الكتابة في السياسية وهو بعيد عنها، وإذ لم يكتب ابن خلدون في السياسية، إلا أنه كتب في مقدمته وتاريخه الطويل كلاما كثيرا فيها، فتحدث عن الدولة وأطوارها ومراحل تكوينها وانهيارها، وتكلم عن الملك، والخلافة، والبيعة، والوازع، والعصبية وأثرها في السياسة والرئاسة. فيا ترى ما هي الأفكار السياسية التي كان ابن خلدون قد أودعها في كتبه وتأليفه؟ وحسبنا أن نبدأ عن الدولة ومفهومه لها. لكن ليس قبل أن نبرز أقوال ابن خلدون السياسية، وفى فصل خصصه للسياسة وسمه في أن العمران البشري لابد له من سياسية ينتظم به أمره.

ويقول أيضا إن ما تسمعه من السياسة المدنية فليس من هذا الباب، وإنما معناه عند الحكماء ما يجب أن يكون غاية كل واحد من أهل ذلك المجتمع في نفسه وخلقه حتى يستغنوا عن الحكماء هم الحكام رأساً، ويسمون المجتمع الذى يحصل فيه ما يسمى بالمدينة الفاضلة.

ويوضح السياسة المجتمعية بقوله: وليس مرادهم السياسة التي يحمل عليها الاجتماع بالمصالح العامة فان هذه غير تلك.

الدولة كمفهوم سياسي في فكر ابن خلدون:

لأسباب شخصية تتعلق بابن خلدون نفسه، وبأسرته التي كانت تحكم إشبيلية قبل انهيار الحكم الإسلامي في الأندلس، ولأسباب تتعلق بتاريخ الإسلام وحكم المسلمين للأندلس، كان هناك سؤال محوري يدور في ذهن ابن خلدون، حول كيف تنشأ الدول؟ وكيف تصل قمة الازدهار؟ ثم كيف تزول بعد ذلك وتصير نسياً منسياً؟

ولكي يجيب ابن خلدون على هذه الأسئلة، انتهج منهجاً مزدوجاً، هو مزيج من الاستقراء لأحوال الدول والدويلات التي قامت في شمال إفريقيا، فيما كان يعرف بالمغرب الإسلامي، والتأمل النظري لاستخراج القوانين والسنن العامة التي تحكم حركة الاجتماع والتاريخ والسياسة من وراء تلك التحولات الظاهرية والجزيئة.

ويظهر اعتماد ابن خلدون على المنهج الاستقرائي في النظريات التي وصل إليها، ومن أهم النظريات نظريته السياسية في أن الدول لا تنشأ إلا إذا توفرت لها قوة قومية عرقية، أسماها ابن خلدون (العصبية) للفرق وللقوم وللقبيلة. فإذا وجدت مجموعة من البشر ترتبط ارتباطاً قومياً قوياً وتشعر بالتعالي والتمييز على المجموعات التي تجاورها، فإنها تسعى إلي التغلب عليها عسكرياً بالغزو والاستيلاء، وكلما كانت العصبية قومية وكاسحة، كانت فرص تكوين دولة جديدة كبيرة للغاية، والدول لا تنشأ إلا إذا وجدت مجموعة من البشر ذات قوة كبيرة وذات بأس شديد وشوكة تتعصب لها وتتناصر وتتفانى في طاعة قادتها القومين وتؤمن بأنها الأعز والأقوى والأجدر بالحكم والسيطرة والهيمنة.

ابن خلدون هو أول من بدأ يقرأ التاريخ قراءة مختلفة، فبينما كان التاريخ قبل ابن خلدون يدرس على أنه حوادث متفرقة ومتتابعة؛ جعل بن خلدون التاريخ مجالاً للاستقراء والتحليل والاستنتاج، وكان يريد أن يستنتج القوانين التي تحكم الحراك التاريخي. حتى يمكن استخدامها في مجالات أخرى. فاعتبر الوقائع التاريخية والإسناد في التاريخ وتحقيق الحادثة التاريخية هو مجال صناعة المادة الخام. أما وظيفة ابن خلدون فكانت استخدام المادة الخام واستخراج القوانين منها.

ومن خلال هذه الدراسة تمكن من أن يستخلص نظرية حول نشوء الدول واستقرارها، وتحللها واندثارها، ملاحظاً الدورة من الظفر إلى الانقراض، ومؤكداً على نظرية العصبية القائمة على الدم أو الدين أو أي رابطة اجتماعية أخرى في جميع مراحل الدولة.

لقد كان الهم الأول عند ابن خلدون، وهو يكتب التاريخ ويصحح وقائعه ويستكشف ظواهر العمران البشري، أن يجيب على سؤال محوري: كيف تقوم الدولة؟  كيف تنهار؟

أطوار الدولة أو نظرية التغير الاجتماعي:

يقول ابن خلدون: اعلم أن الدولة تنتقل في أطوار مختلفة وحالات متجددة….وأطوارها لا تعدو في الغالب خمسة أطوار:

الطور الأول: الظفر بالبغية وغلب المدافع والممانع والاستيلاء على الملك وانتزاعه من أيدي الدولة السالفة قبلها.

الطور الثاني: طور الاستبداد.

الطور الثالث: طور الفراغ والدعة لتحصيل ثمرات الملك.

الطور الرابع: طور القنوع والمسالمة.

والطور الخامس: طور الإسراف والتبذير.

هذه الأطوار الخمسة اختزلتها “ناجية الوريمي” في ثلاثة أطوار مقترنة بالأجيال الثلاثة، إلا أنها تفسر قيام الدولة بإطارها راجع لاقتران الدولة بسلطة عصبية معينة تنشأ، ثم تقوى ثم يصيبها الهرم وذلك في ثلاثة أطوار وهي:

1- الطور الأول: يبدأ من خلق البداوة، وشظف العيش والشجاعة والاشتراك في المجد وهنا العصبية قوية ومحفوظة.

2 – الطور الثاني: بداية الحضارة – الترف – الاستكانة – الانفراد بالمجد – ثم تضعف العصبية بعض الشيء.

3 – الطور الثالث: يبدأ بالانغماس في الحضارة – والمبالغة فيها – الجبن – الاستعانة بالأجانب – ثم تسقط العصبية بالجملة أي كلها.

وتعقب ناجية على ذلك بأن هذه الأطوار ليست من نتائج الفعل الإرادي للإنسان حاكما أو محكوما، بل هي طبيعية للدول. هذه الأطوار الثلاثة، كما وضح ابن خلدون، أمثلة لها مستشهدا بما قراء عن أخبار الدولة الإسلامية.

ففي الطور الأول: عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، وعهد الخلفاء الراشدين، الذين أسسوا هذه الدولة، وفيها قضي على العصبية.

الطور الثاني: الملك والانفراد بالمجد، في عهد الدولة الأموية إلى سقوط الدولة العباسية.

أما الطور الثالث: تكثر المفاسد والانحلال، ويستعين الخليفة ويسترضي الجند المرتزقة لأنهم هم عدته وسلاحه، بعد أن ابعد عصبيته، وينقض العداء على الدولة من كل جانب، كما حدث مع المغول والصليبيين، وينقض المماليك على الحكم كما حدث في مصر ثم بعد ذلك تنهار الدولة تماما.

مفهوم الملك:

في فصل خصصه ابن خلدون للملك عنونه في حقيقة الملك وأصنافه بأنه منصب طبيعي للإنسان… ولا يتم شيء من ذلك إلا بالعصبيات…. وكثيرا ما يوجد في الدول المتسعة النطاق.

ويرادف ابن خلدون بين الملك والسياسة بقوله “السياسة والملك هي كفالة الخلق وخلافة الله في العباد لتنفيذ أحكامه فيهم” وهذا يعني الضمانة والإعالة وأصل المعنى هو تضمن الشيء للشيء.

اذ أن الملك له علاقة وطيدة بالسياسة والعصبية ولا يتحقق إلا بوجودهما ذلك أن الملك غاية طبيعية للعصبية، إلا أن ابن خلدون يشير إلى بعض المؤشرات نحو الملك فيقول (في أن من طبيعة الملك الترف، وأن من طبيعته أيضا الدعة والسكون، وإذا تحكمت طبيعة الملك من الانفراد بالمجد وحصول الترف والدعة أقبلت الدولة على الهرم، وان من طبيعة الملك الانفراد بالمجد) هذه التنبؤات الخلدونية يبدو إنها ذات دلالة طبيعية في الحياة الطبيعية لكل دولة ، وأيضا في كل من يحكم أو يرأس أي دولة غير أن مفهوم الملك مرتبط بمنظومة من المفاهيم الاجتماعية كالوازع ، والحاكم، والرئاسة، والسلطان، والسياسة، والخلافة، والعصبية، والدولة، والمنصب، وفي ر أي حسن إسماعيل أن السياسة العقلية التي يتكلم عليها ابن خلدون ويصنفها في أنواع الملك، توقفنا على طبيعة الحكم في المجتمعات التي عاصرها، ولاسيما في مجتمع المغرب، وترشدنا على طبيعة الحكم في المجتمعات السابقة للخلافة، كالمجتمع الفارسي.

ويرى ابن خلدون أن من أهم أسباب زوال الملك الظلم والنكوص عن تحقيق العدالة ، الإسراف في النفقات من قبل الحاكم وحاشيته ، وانغماسهم في الترف والترفه … وهذه الأعراض سرعان ما تصيب الدولة عندما تتبدل النصر الأول وشيدوا الملك والدولة، وكانوا حريصين على حسن تصريف الأمور ولكن سرعان ما يذهب هؤلاء بانقلاب الحاكم عليهم، وطردهم من مناصبهم وتجريدهم من كل نفوذ سياسي واجتماعي، وهنا سرعان ما تسيطر العصابة الثانية التي جاءت من أجل المصلحة والغنائم وهؤلاء بالطبع ليس لهم هدف سوى الاثراء على حساب الدولة، والحاكم يشترى ولاءهم له، فبينما كانت العصابة الأولى تسمع وتطيع من أجل الفكرة والمبادئ التي قامت من أجلها الدولة، فإن العصابة الثانية همها الإثراء على حساب الدولة والشعب.

اعتمد ابن خلدون في مقولته السياسية الشهيرة، إن العصبية هي أساس الملك، وأنه لا يقوم ملك، إلا وهو يستند على شوكة من عصبية القوم الذين يؤسسون الملك ، اعتمد ابن خلدون في تبرير هذه المقولة على استقراء الواقع السياسي لدول الاندلس وشمال أفريقيا الإسلامية. ويقصد بذلك انه نظر في أحوال تلك الدول في هذه المنطقة التي أقامها العرب أو العجم أو البربر ، فوجد أنه ما قامت دولة الا وراءها عصبية عريقة قوية ذات شوكة ، وانما يؤسس الملك ـ عند ابن خلدون ـ وهو ما يسميه بالملك الطبيعي ، على الغزو العسكري والاستيلاء بالقوة وبالفتح ، ولا يتم النصر لأي مجموعة غازية ، إلا إذا كانت متكاتفه مترابطة … ذات عصبية قوية لبعضها البعض ولقيادتها القومية أو القبلية، ويبدو أن هذه النظرية ـ عن الملك الطبيعي ـ قد واجهت معارضة شديدة منذ أول إعلانها … وبيدوا أن المعارضين قد ذكروا مثال دولة الرسول الكريم صلى الله وعليه وسلم وأنها لم تقم على العصبية العشائرية أو العنصرية ، هنا اضطر ابن خلدون، إلى تعديل نظرية ،،العصبية العرقية ،، على أساس تكون الملك في اتجاهين:

1: فرق بين الملك الطبيعي والملك الذى يقوم على الدين والمذهب، فقال إنه عندما يقول أن الملك إنما يؤسس على العصبية العرقية، إنما يقصد به الملك الطبيعي … ويقصد بذلك الملك في مجرى العادة والعرف وفى طبيعة الاشياء واضطراد الواقع المعاش.

2: أما دولة المدينة : فهي حالة شاذة لا حكم له ولا ينضوي تحت قانون الأعراف وعادة الناس واضطراد الأحوال الاجتماعية والسياسية في غالب الأمر.

وهذا الاتجاه الثاني الذى تخارج به ابن خلدون أو حاول التخارج به ،عندما ادعى أن قانون العصبية هو القانون السائد الذى يحكم عوائد وطبائع العمران البشرى … واما دولة المدينة فقد كانت فلتة لا تتكرر ولو لا تأثير الرسول صلى الله وعليه وسلم لما قامت دولة تعتمد على الفكر والدعوة فقط … بهذه الطريقة حاول ابن خلدون أن يجعل دولة المدينة حالة شاذة والشاذ لا حكم له ولكن ــ هذا قول مردود .. فدولة الرسول صلى الله عليه وسلم قامت على الفكر والدعوة .. ومن بعدها دولة بنى العباس ـ قامت على الدعوة لآل العباس ـ عم الرسول وكذلك دولة الفاطمية .. قامت على فكرة أن الخلافة أولى بها آل الرسول صلى الله عليه وسلم من ذرية فاطمة رضى الله عنها وأرضاها وكذلك الدولة التي قانت على فكرة المهدى المنتظر..

وفى العصر الحديث قامت دول تعمد على المذهب وعلى الفكرة … ومن أهمها الجمهورية الفرنسية والدستورية الأمريكية .. والدول التي أسست على المذهب الماركسي، وهكذا تسقط مقولة ابن خلدون في تعميها الواسع، ولكنها تظل فكرة صالحة إذا لم يراد التعميم المطلق ، فكثير من الدول تقوم على القومية العرقية..

انظر مثلاً قيام دولة الرايخ الالماني بزعمة هتلر، وكذلك الدول القومية المنبثة في عالم اليوم من بريطانيا غرباً إلى الهند والصين واليابان شرقاً ..

ومقولة ابن خلدون الثانية خاطئة ايضاً ولا تعتمد على أي أساس علمي .. فدولة الرسول صلى الله عليه وسلم ليست فلتة طارئة لن تتكرر . ولم تكن دولة الرسول صلى الله عليه وسلم تعتمد على شخصية الرسول الكريم ،يقول عز وجل (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِين). [آل عمران:144]).

ويقول أبوبكر الصديق في حادثة وفاة المصطفى عليه السلام (من كان يعبد محمد فإن محمد قد مات ، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت).

فدولة الرسول إنما تعتمد على كتاب الله الخالد المحفوظ ألا وهو القرآن الكريم وهى كذلك تعتمد على سنة الرسول الله، وقد قامت بالفعل مثل هذه الدولة في عهد عمر بن عبد العزيز والمرابطين والموحدين والمهدين والسنوسيين .

ويعتمد ابن خلدون في تعميمه المبالغ فيه على أساس العرق القومي والقوة العسكرية في نشأة الدول ، إلا أن التعميم في هذا الموضوع وإضفاء الطبيعة العمرانية عليه أمر غير مقبول ، وهو ارتداد عن فكرة البيعة كأساس للحكم في الإسلام وفكرة العقد الاجتماعي أساس للحكم عند فلاسفة الغرب أمثال توماس هوبر وجان جاك روسو وهلم جرا

إلا أنه رغم ما تثيره الرؤية الخلدونية في علم السياسة من جدل يبقى أنها تقدم نماذج معرفية وتاريخية إلا أنها لا يجب التعامل معها باعتبارها نماذج معرفية قياسية تصلح للتطبيق عللا كل واقع يفترض فيه بعض عناصر التشابه أو المماثلة فى العوامل والمقومات، مع الأخذ فى الاعتبار عناصر الاختلاف والمغايرة. ورغم هذا فإن القول من ناحية بخصوصية تحليل إبن خلدون للاجتماع البشرى الإسلامي، وإن كانت الأخيرة هى الغالبة لعلة عملية، وهذا يتماشى مع شمول الموضوع وهو العمران البشري وليس اجتماعاً إنسانياً معيناً من ناحية، وأن هذه الأمثلة فى كل الحالات تأتي لتأكيد تحليل نظرى عام تتأخر عنه لتوضيحه، ولا تتقدم عليه لتأسيسه، إنها إذن شواهد وليست مبادئ، وهو ما يؤكده ابن خلدون عند الإشارة إلى شروط تأسيس أي علم من العلوم.

نظريات نشأة الدولة:

 إن موضوع الدولة بِصِفَه عامَه، وأصل نشأتُها وتكوينِها بِصِفَه خاصة، هذه المواضيع شغلت حيزاً كبيراً مِن الفِكر الإنساني، فانشغل بِها العديد مِن المُفكرين والفلاسفة وعُلماء الاجتماع والقانون والسياسة والإدارة وغيرِهِم، ولقد تبنى المُفكرون العديد مِن المذاهِب والنظريات لِتفسير وبيان نشأة الدولة.

كما أن البحث عن أصل الدولة يبدو ضرورياً وصعباً في الوقت ذاته، نظراً لِعدم المعرفة الكاملة والدقيقة للمراحِل التاريخية للحياة البشرية . لا يمكن التحديد بِدِقَهْ متى ظهرت الدولة. كما أنَ تكوين الدولة يتم على مراحِل ولا يتم دفعةً واحِده.

ولقد اهتم المفكرون مِن رِجال الدين والفلاسفة بالبحث في أصل نشأة الدولة ومتى ظهرت إلى الوجود، وفهم الطريقة التي قادت الناس الذين يعيشون في مُجتمعات لابتكار نمط تنظيم ومنحهِ ديمومة استثنائية.

وفى الحقيقة إنَ الدولة مُصطنعَة ومبنية بواسِطة الذكاء الإنساني. فمن المعروف أن الدول قد تنشأ، إما باستقرار جماعه إنسانيه بصِفَه دائمة على منطِقَهْ جغرافيَة غير مأهولة ثُمَ تطور إلى أن تصبح وِحده سياسية قائِمه بذاتها ومتميزة عن غيرِها، أو عن طريق تفكُكْ دوله قائِمه إلى عِدة دِول، أو باندماج عِدة دول مستقلة في دوله واحِده.

الجماعة الإنسانية وتكوين الدولة:

فالمجتمع إذا وصل إلى الحد الذي يسمح له بتحقيق أمرين هما:

الأول: أن يكون استقرار أفراد المُجتمع في منطِقَهْ جغرافيَه قد عمقَ إحساس تضامن الأفراد بحيثُ يتِمْ انصهارهم في وِحده بشريَه لها ذاتيتُها وتميُزِها عن الوحدات الأخرى.

والثاني: أن يتطور التنظيم الاجتماعي والسياسي للمجموعة البشرية بحيثُ يَقترِبْ مِن الحد الذي يسمح بإيجاد نِظام شِبه دائِمْ لظاهِرَةْ السلطة السياسية.

ويعرف المجتمع بصفة عامة:

بأنه مركب من العلاقات الاجتماعية التي تكون بين الإنسان ككائـن اجتماعي وبين شبكة من الجماعات والمنظمات التي ينتمي إليها. حيث يضم المجتمع العديد من النظم الاجتماعية من بينِها الدول التي تمثل تنظيماً عقلياً يُحقِقْ أهدافاً مُحدده بِالذاتْ مثل المنظمات الأخرى.

ولكن الفرق يتمثل في أن وظيفة الدولة تتمثل في تدعيمْ وتثبيتْ الإطار القانوني مِنْ أجل المحافظة على القانون والنِظام. أما المُجتمع فهوَ يُمارس وظائِفْ أخرى لإشباع المُتطلبات العديدة للحياة الاجتماعية.

ونظراً للصلة الوثيقة بينَ الدولة والسلطة السياسية كأحد أركان الدولة، فإنَ النظريات التي حاولت تفسير أصل نشأة الدولة تصلُحْ لتفسير السلطة السياسية فيها.

وقد تبلورت تلك الاتجاهات الفكرية المرتبطة بمسالة نشأة الدولة إلى عدة نظريات مهمة في هذا المجال سوف نتناولها على لنحو التالي:

1. النظريات الدينية (التيوقراطية).

2. نظرية التطور العائلي.

3. نظرية العقد الاجتماعي.

4. نظرية القوة والغلبة.

5. نظرية التطور التاريخي.

أولاً:-النظريات الدينية (التيوقراطية).

تنسب هذه النظريات مصدر السلطة إلى الإله الخالق، فمصدر السلطة هو الله يختار من يشاء لممارستها ومادام الحاكم يستند فى سلطته إلى مصدر إلهى فهو إذا أسمى من الطبيعة البشرية، ولا يمكن إخضاع سلطته وإرادته لأية سلطة أو إرادة من جانب المحكومين طالما أن الحاكم حسب هذه الأفكار منفذ للمشيئة الإلهية، فوفقاً لهذه النظرية فإن الدولة هى من خلق الله وصنعه بقصد تنظيم احوال الجماعة، وتحقيق الخير لهم وعلى ذلك يجب أن تكون الدولة محلا للإعزاز وأن تحمل نوعاً من التقديس، وأن بقاء الدولة واستمرارها يستلزم وجود سلطة تقوم بإدارة وتنظيم حكم الجماعة، والذين هم فى حكم او مركز السلطة اصطفاهم الله للقيام بهذه المهمة ويجب ان يخضعوا لنوع من التقديس، وعلى ذلك كان ينظر إلى الحاكم على أنه مفوض من قبل الله وان مهمته هي تنفيذ المشيئة الإلهية وان إرادته تسمو على إرادة المحكومين وقد استخدمت هذه النظريات الدينية كسلاح لمواجهة النظريات الديمقراطية التي تطورت فيما بعد. كما استخدمت كذلك لإثبات أن سلطة الكنيسة تفوق سلطة الحاكم. لأن الكنيسة تستمد سلطتها من الله مباشرة، أما الإمبراطورية فتقوم لأغراض دنيوية بحتة، ثم تطورت نظرية النشأة المقدسة للدولة في إنجلترا خلال القرنين السادس والسابع عشر وأخذت شكل الحق المقدس للملوك وكانت تؤكد أن الله أنشاً السلطة منذ خلق الإنسان على الأرض، ونفى انصارها فكرة قيام العقد الاجتماعي نفياً قاطعاً، ولم يؤمنوا بفكرة وجود مساواة بين الأفراد فى حالة الفطرة الأولي.

ويمكن تلخيص النظريات الدينية أو النشأة المقدسة للدولة بانها تتضمن:

أ. ان الإله خلق الدولة بهدف إنقاذ البشرية من الهلاك وامار.

ب. ان الله ارسل مندوباً او اختار وكيلا له ليحكم البشر، وانه تبعاً لذلك يكون الحاكم معيناً من قبل الإله وهو لذلك لا يكون مسئولاً عن ما يأتيه من أفعال إلا امام الإله، وان على الجميع ان يطيعوا امره وسلطته، وعدم إطاعة أوامره خطيئة يعاقب الفرد عليها من قبل الإله.

وتتضمن الحقوق المقدسة للملوك الآتي:-

أ. الملكية قدر من عند الله، ويستمد الملوك سلطتهم من الإله.

ب. الملكية وراثية ومن الحق المقدس أن يورثها من الأب إلى الابن.

ج. لا يتم مساءلة الملك إلا أمام لإله فقط.

د. عدم طاعة سلطة الملك الشرعية معصية للإله.

مزايا النظرية الثيوقراطية:

تأكيدها على أن للدولة رسالة أخلاقية فما دامت الدولة من عمل الله فلابد ان تكون لها رسالة اخلاقية سامية، حيث الدين رباط وثيق يعمل على ترابط العائلات وتناسلها.

عيوب النظرية الثيوقراطية:

تراجعت النظريات الدينية أو الحق الإلهي المقدس نظراً لمجموعة من العوامل تمثلت فى:

ظهور نظرية العقد الاجتماعي.

انتصار السلطة الزمنية على السلطة الدينية وانفصال الكنيسة عن الدولة.

نمو الأفكار الديمقراطية التي قضت على النظريات التي تقصد الحكم المطلق ومن بينها نظرية النشأة المقدسة للدولة وقد كان لهذه النظرية بعض العيوب ادت إلى تعرضها للنقد كالآتي:

1. أن هذه النظريات الدينية ليس لها أي اساس ولم يعد لها اي مكان فى الفكر السياسي الحديث حيث ان الدولة هي في الأساس مؤسسة إنسانية تتكون من أفراد يقيمون في مكان محدد ويهدفون إلى تحقيق أغراض مشتركة.

2. ان قوانين الدولة يضعها أفراد وهم الذين يتولون تنفيذها وفرضها.                           

3. أن هذه النظريات لم توجد إلا لتبرير السلطة الديكتاتورية الغاشمة للملوك خاصة في العصور الوسطى، فهي تطلق العنان للتحكم الاستبدادي كي ينكل بالشعب كيفما يشاء.

ثانياً:- نظرية التطور العائلي:

تستمد تلك النظرية اصولها من الفلسفة اليونانية القديمة خاصة، آراء افلاطون وأرسطو. وترجع هذه النظرية اصل نشأة الدولة إلى فكرة السلطة الأبوية بمعنى أن الدولة مرت بأطوار معينة هي الأسرة ثم العشيرة ثم القبيلة فالمدينة واخيراً الدولة. وان مبعث هذه الأطوار هو الإنسان الذى خلق بطبيعته اجتماعياً، ولا يملك إلا أن يعيش في جماعة وإلا اعتبر إنساناً غير طبيعي، وعلى ذلك تكون الأسرة هي أساس نشأة الدولة وأن سلطة الحاكم ما هي إلا امتداد لسلطات العائلة، حيث يحاول أنصار هذه النظرية تبرير نظريتهم على أساس ان هناك بعض الأشياء المتشابهة بين الأسرة والجماعة السياسية أهمها: التضامن الاجتماعي، والروح القومية، اللذان يجمعان بين أفراد الدولة ويمكن تشبيهها بالروح العائلية التي تربط أفراد الأسرة الواحدة.

نقد نظرية التطور العائلي:

على الرغم من توافق هذه النظرية مع ما اجتمعت عليه الأديان السماوية من أن اصل الجنس البشرى هو آدم وحواء. إلا أنها تعرضت لبعض الانتقادات تتمثل في الآتي:-

أ. رفض علماء الاجتماع التسليم بان الأسرة هي الخلية الاجتماعية الأولى للإنسان إذ سبقتها حياة بشرية خلت تماماً من معنى التنظيم والتضامن الأسرى بالشكل الذى أصبح متعارفاً عليه فيما بعد.

ب. إن التاريخ لا يؤيد هذه النظرية على إطلاقها، ذلك لأن هناك الكثير من الدول لم تنشاً على الأساس السابق، كما أن هناك الكثير من الدول لم تنشا وفق نظرية التطور العائلي.

ج. إن إرجاع أساس السلطة العامة في الدولة إلى سلطة رب الأسرة وتشبيه السلطة الأولى بالثانية هو فى حقيقة الأمر موضع نظر، ذلك أن سلطة رب الأسرة لها صفة شخصية مرتبطة بشخص رب الأسرة و تزول بزواله أو باستقلال أفراد الأسرة عنه عكس السلطة السياسية في الدولة فإنها سلطة مجردة غير شخصيه دائمة ومنفصلة عن أشخاص من يمارسونها.

د. أن نظرية التطور العائلي ليست وحدها المصدر التاريخي لنظام الدولة، فالتطور الإنساني بكل ما تفاعل فيه من فكر، وما تحكم فيه من مؤثرات دينية وسياسية واقتصادية قد شارك مشاركة جدية وحاسمة في تطوير نظام الدولة.

ثالثا:- نظرية العقد الاجتماعي:

تقف نظرية العقد الاجتماعي في مقدمة النظريات الخاصة بنشأة الدولة من وجهة نظر كثير من كتاب وفلاسفة الفكر السياسي، بل إنهم يرجعون التنظيم السياسي الحديث وسيادة مبادئ الديمقراطية الحديثة إلى هذه النظرية.

وتقوم نظرية العقد الاجتماعي من حيث المبدأ على افتراضين:

الأول هو ما يتناول حالة الفطرة الأولى، والثاني يدور حول فكرة العقد سواء أكان هذا العقد اجتماعي أو سياسي يتضح عن طريقه تكون المجتمع السياسي ونشأته، وقد يكون هذا العقد بين الحاكم والمحكومين فيسمى عقداً حكومياً.

ويفترض أصحاب نظرية العقد الاجتماعي أن حالة الفطرة هي حالة سابقة على تكوين المجتمع السياسي. ويعتبر القانون الطبيعي هو الذى كان يقوم بعملية تنظيم المجتمع في هذه المرحلة، وقد تعددت وتباينت الآراء حول العقد الاجتماعي فمنهم من اعتبره حقيقة تاريخية يفسر الكتاب عن طريقها نشأة المجتمع، ومنهم من يعتبره عقداً أو اتفاقاً بين الحكام والمحكومين فضلاً عن اعتباره أساساً ملائماً لما يجب أن تكون عليه العلاقة بين الحكام والمحكومين.

فجوهر نظرية العقد الاجتماعي يدور حول تنازل الأفراد عن بعض حقوقهم للحاكم في مقابل تمتعهم بما يوفره المجتمع، وقد شهدت هذه النظرية عصرها الذهبي في القرنين السابع عشر والثامن عشر وكان اعتناق هذه النظرية والإيمان بها من اسباب قيام الثورة الفرنسية والثورة الأمريكية، فهذه النظرية اعطت الأفراد حقوقاً سابقة على وجود الدولة، ومنذ الوهلة الأولى أثبتت نظرية الفطرة الأولى أن حقوق الفرد مادامت سابقة لوجود الدولة فإنه لا يمكن للأخيرة ان تنتزع حقوق الأفراد الذين يعيشون فيها، وقد حققت هذه النظرية الكثير من اهدافها من حيث تأكيد حقوق الأفراد وعدم تمكين أي حكومة أو أي ملك من القضاء عليها أو تكييفها حسب المشيئة فتسببت هذه النظرية في انهيار السلطة المطلقة للملوك والحكومات.

ويمثل كل من توماس هوبز، وجون لوك، وجان جاك روسو، أهم مفكري نظرية العقد الاجتماعي Social Contract فقد تركوا تراثاً فكرياً وسياسياً لا يستهان به بصدد هذه النظرية خاصة في مجال التنظيم السياسي والاجتماعي للدولة الحديثة.

أ. توماس هويز:

تبلورت نظرية “هوبز عن تنظيم المجتمع في مؤلفه المهم Leviathan التنين أو العملاق، الذى وضعه ليدافع عن وجهة نظره في حق الملك فى الحكم المطلق، في مواجهة الدعوة إلى سيادة البرلمان في انجلترا.

فقد نادى “هوبز” بان أصل وجود الجماعة المنظمة إنما يرجع إلى العقد، فالعقد هو الذى نقل الفرد من حالته الفطرية الطبيعية إلى مجتمع منظم تسود فيه طبقة محكومة واخرى حاكمة، وقد تصور “هوبز” ان الحالة الفطرية الأولى سادها الكثير من البؤس والكفاح، فحالة الأفراد الفطرية تتصف بالفوضى، لأن الإنسان اناني محب لذاته ولا يراعى إلا صالحه الخاص ولذلك عمل القوى على اغتصاب الضعيف، وفى هذا المناخ الممتلئ بكل أسباب الفوضى والصراع والأنانية والشر نشاً الدافع الذى حرك الأفراد نحو الانتقال إلى حياة أفضل مستقرة، وكان السبيل إلى ذلك هو العقد.

وهكذا عقد الأفراد عقدا انتقلوا بواسطته من حالتهم الفوضوية الأولى إلى حالة المجتمع المنظم، فالعقد أساس هذا الانتقال وبالتالي هو الذي أوجد الجماعة المنظمة التي نعم فيها الأفراد بحياة مستقرة، وفى رأى “هوبز” أن الحاكم لم يكن طرفاً في هذا العقد، وإنما تم العقد بين الأفراد وحدهم، ومن هنا فإنه عند اختيار الحاكم، يتنازل الأفراد له عن جميع حقوقهم الطبيعية التي كانت لهم في حالة الفطرة حتى يتمكنوا من العيش فى المجتمع المنظم الذى أرادوا هم إقامته.

وتتمتع السلطة الحاكمة عند “هوبز” بسلطة مطلقة لا حدود لها ولا يحق بالتالي مخالفة هذه السلطة مهما استبدت وتعسفت، وكان “هوبز” متأثراً في ذلك بالفترة التي عاشتها انجلترا خلال حياته والتي تميزت بالقلاقل والاضطراب مما كان لها اثرها البالغ على تفكيره خاصة وانه كان يعمل معلماً للأمير شارل استيوارت الذى اصبح ملكاً، وهذا كان له اثر على مطالبة “هوبز” وتأييده لسلطان الملك المطلق مع عدم إجازة محاسبته بواسطة الشعب.

ب. جون لوك:

يتفق “جون لوك “مع “هوبز” في أن أصل وجود الجماعة المنظمة إنما يرجع إلى العقد الذى نقل الأفراد من حالتهم الطبيعية الأولى إلى المجتمع المنظم الذى تسود فيه سلطة حاكمة، وأخرى محكومة، ولكن يختلف “لوك” عن “هوبز” في تصوره لحالة الفطرة فهي في نظره لم تكن فوضى وبؤس وشرور بل كان يرفرف عليها الحرية والمساواة والعدل بين الأفراد فى ظل القانون الطبيعي وما دفعهم إلى هجر حالتهم الفطرية هو الرغبة في تنظيمها وهى مالم يكن ليتحقق إلا بالانتقال إلى المجتمع.

فقد رفض المفكر الانجليزي جون لوك الفكر الاستبدادي لهوبز، حيث رأى لوك أن سلطة الأفراد على أنفسهم تعد بمثابة خصائص طبيعية لصيقة بصفة الآدمية في الإنسان، ومن ثم فهي لا تقبل بطبيعتها التصرف فيها ولا النزول عنها، وعلى ذلك فإن العقد الاجتماعي لم ينقل إلى الأمير سلطة الأفراد على انفسهم ولكنه فوضه في ممارسة هذه السلطة على ان يكون محكوماً في ذلك بشروط التفويض بحيث لو اجل بهذه الشروط حق للأفراد سحب التفويض منه.

ج. جان جاك روسو :

وقد اعاد المفكر الفرنسي جان جاك روسو صياغة نظرية العقد الاجتماعي من جديد في كتابة العقد الاجتماعي عام ١٧٦٢، حيث تقوم تلك الصياغة على أن السيادة التي هي حق طبيعي للأفراد وتقبل التصرف فيها والنزول عنها و لم تنتقل بموجب العقد إلى الأمير، حيث لم يكن في العقد أمير، فالناس احرار ومتساوون بالطبيعة، لكنها انتقلت من الناس بذاتهم كأفراد إليهم إلى مجموعهم ككيان جماعي جديد مستقبلا ومتميزاً عنهم كأفراد، ومن ثم يصبح جمهور الأفراد فى الدولة هم اصحاب السيادة، وأن الإرادة العامة لمجموع الأفراد هي المنشأة للقانون الواجب الاتباع.

مزايا نظرية العقد الاجتماعي :

أدت نظرية العقد الاجتماعي دوراً كبيراً في تطور الفكر السياسي والمجتمعات السياسية حيث مهدت الطريق لضرورة تنظيم العلاقة بين الحاكم والمحكومين على أسس موضوعية، كما كان لهذه النظرية الفضل في إقرار كثير من مبادئ النظرية الديمقراطية مثل الإرادة الشعبية، وتقرير الحرية السياسية وسيادة القانون، ورقابة المحكومين علي الحكومة، حيث يمكن القول بشكل عام ان الكثير من الدول التي أخذت بمبدأ المساواة بين الأفراد في الحقوق السياسية وبالأخص حق الانتخاب كانت متأثرة بنظرية جان جاك روسو.

نقد نظرية العقد الاجتماعي:

رغم أهمية هذه النظرية في تفسير نشأة الدولة إلا أنه قد وجهت لها العديد من العيوب والانتقادات والتي تتمثل في الآتي:

1. إن فكرة العقد التي تعتبر أساس نشأة الجماعة المنظمة فكرة خيالية لا سند لها من الواقع ابتدعها قائلوها من نسيج أفكارهم وخيالهم حيث لم يعطى التاريخ مثالاً واحداً واقعياً بأن جماعة من الجماعات قد نشأت وقامت بواسطة العقد.

2. إن فكرة العقد ذاتها كأساس لنشأة الجماعة المنظمة هي فكرة غير سليمة من الناحية القانونية وذلك لأن فكرة القوة الإلزامية للعقد لا توجد إلا بوجود الجماعة وقيام سلطة بها تحمى العقود وتطبيق الجزاءات اللازمة لضمان احترامها، وعلى ذلك فلا يمكن ان يكون العقد الذي يحتاج إلى حماية السلطة العامة هو الذى أنشأ السلطة وأقامها.

3. تفترض تلك النظرية أن الإنسان كان يعيش في حالة عزلة قبل ان تنشأ الجماعة وهو قول غير صحيح، لأن الإنسان كائن اجتماعي بطبيعته لا يطيق حياة العزلة وقد نشأ وعاش دائماً في جماعة.

4 . تفترض تلك النظرية بأن الأفراد كانوا متساوين في حالة الفطرة الأولى وهذا الافتراض غير صحيح.

رابعاً:- نظرية القوة والغلبة:

ترجع هذه النظرية أصل الدولة إلى القوة والغلبة، فالدولة إنما تنشاً عندما يفرض القوى غلبته على باقي الأفراد الذين يمتثلون لقوته، ويعتمد أنصار هذه النظرية على أساس الواقع العمل للتاريخ حيث يؤكد التاريخ بأن حكومات عديدة قامت على أساساً القوة والعنف.

نقد نظرية القوة والغلبة:

رغم واقعية هذه النظرية بعض الشيء إلا أنها لم تخل من النقد فإذا كان التاريخ قد اعطى الكثير من الشواهد على صدق نظرية القوة خاصة بالنسبة للدول القديمة، فهناك الكثير من الشواهد على صدق نظرية القوة خاصة بالنسبة للدول القديمة، فهناك الكثير من الدول في العصر الحديث التي لم تنشأ على اساس القوة والغلبة، كما أن الأخذ بهذه النظرية يفقد الدولة مقومات وجودها لأن السلطة التي تقوم على عامل القوة لن يكتب لها البقاء ولابد لها من ان تنهار إذا ما ذهبت قوة الحاكم التي تفرض وجودها على الدولة.

خامسا:- نظرية التطور التاريخي او الطبيعي:

تفسر هذه النظرية نشأة الدولة بأنها نتيجة تفاعل عوامل متعددة أسهمت بعد تطور طويل على مر العصور فى إحداث التقارب وإيجاد الترابط بين أفراد الجماعات البشرية، وأن أهم هذه العوامل هي عامل الدين الذى لعب دوراً مهماً فى تدعيم أواصر الترابط والسياسية التي لعبت دوراً في إضفاء الشعور لدى الأفراد بوجود أهداف اجتماعية يجب تحقيقها، وبضرورة قيام نظم سياسية تكفل تحقيق هذه الأهداف، وكذلك عوامل القوة المادية والمعنوية والاقتصادية ثم التطور التاريخي للإنسان حيث يبداً فرداً ثم كون أسرة فأصبح رباً لها، ثم كون عائلة وكان هو رئيسها، ثم كون عشيرة وكان هو سيدها، ثم كون قبيلة وكان هو زعيمها ثم تعددت القبائل واتحدت وكونت الدولة تحت حكم احد زعماء هذه القبائل.

ومن انصار هذه النظرية العميد “دوجي” و “بارلتمي” و “مورو” و “سيد هنري تين” ويمكن القول بان هذه النظرية تعد اكثر النظريات قبولاً لتفسير نشأة الدولة فهي لم تتقيد بعامل واحد معين في تفسير أصل نشأة الدولة وإنما تعددت العوامل حسب ظروف كل مجتمع ومن هنا لاقت قبولاً واسعاً لدى الفقه الفرنسي والمصري.

ماهية الدولة عند أبي نصر الفارابي

يعد الفارابي مِن أوائل مَن عنى ـ من فلاسفة المسلمين ـ بإصلاح نظام الحكم، في كتاب"أراء أهل المدينة الفاضلة". و قد جاءت آراؤه متناصة بجمهورية أفلاطون. و الدارس للفكر الفارابي السياسي سيَلْحَظ أن الدولة التي يدعو لها، هي دولة مثالية/خيالية تكشف عن عدم قابليته للأوضاع القائمة في بداية القرن الرابع الهجري، حيث أخذت الدولة العباسية في الاضمحلال و خاصة في عهد المقتدر(295ـ320هـ/908ـ932م). و قد صاحب هذا الاضمحلال تمزق على مستوى الوحدة السياسية للدولة الاسلامية، و لا سيما بعد أن ظهر للشيعة العلوية دولة بمصر و الشام و بلاد المغرب و استقر الأمر في الدولة العباسية لأهل السنة، فصارت كل دولة تضطهد في بلادها كل الفرق المخالفة لها عقديا.

  هذه الأحداث المخيبة في التاريخ الإسلامي جعلت الفارابي ـ و غيره من المفكرين ـ يتأسى بأفلاطون و أغسطين و غيرهم في نظرياتهم اليوتوبية، ساعيا لقيام مدينة فاضلة يعيش في ظلها و تحت كَنَفِها مجتمع مختلف الأطياف و متباين العقائد.

  و لما كان المجتمع الفاضل هو أساس نظرية الفارابي السياسية، فإن هذا المجتمع يقوم على ركيزتين أساسيتين:

  الركيزة الأولى: المدينة الفاضلة و الهدف المنشود:

  فقد ذهب الفارابي إلى أن الإنسان مدني بجِبِلته و أن هذه المدنية لا تكون لها كينونة إلا بـ (الاجتماع البشري)، ذلك أن الإنسان لا يبلغ مبلغ الكمال و السعادة في الآل و المآل (الدنيا و الآخرة) إلا بالتعاون مع أناس آخرين، فيقول في هذا الصدد:(و كل واحد من الناس مفطور على أنه محتاج في قوامه و في أن يبلغ أفضل كمالاته إلى أشياء كثيرة لا يمكن أن يقوم بها كلها وحده، بل يحتاج إلى قوم يقوم له كل واحد منهم بشيء مما يحتاج إليه ...فلذلك لا يمكن أن يكون للإنسان الكمال الذي لأجله جعلت له الفطرة الطبيعية إلا باجتماعات جماعة كثيرة متعاونين يقوم كل واحد لكل واحد ببعض ما يحتاج إليه في أن يبلغ الكمال) أراء أهل المدينة الفاضلة، ص71.

  من كلام الفارابي أعلاه نشير إلى نقطتين أساسيتين:

الأولى: إن ما قال به الفارابي يتماشى مع ما قرره أفلاطون على لسان سقراط، في كتابه"الجمهورية"حيث قال:(أرى أن الدولة لا تنشأ لعدم استقلال الفرد بسد حاجاته بنفسه، و افتقاره إلى معونة الآخرين. و لما كان كل إنسان محتاج إلى معونة الغير في سد حاجاته،و كان لكل منا احتياجات كثيرة، لزم أن يتألب عدد منا، من صحب و مساعدين في مستقر واحد، فنطلق على ذلك المجتمع إسم الدولة أو المدينة) جمهورية أفلاطون، ترجمة حنا خباز، ص56.

كما قرر ارسطو كذلك أن الإنسان (حيوان اجتماعي بطبعه)، (فهو لا يستطيع أن يعيش بمعزل عن بني جنسه في مجتمع سياسي منظم يطلق عليه اسم الدولة أو المدينة)السياسة لأرسطو، ترجمة أحمد لطفي السيد، ص56.

الثانية: إن نظرية (الاجتماع البشري) التي قال بها الفارابي، قال بها أيضا بعض مفكري و فلاسفة الإسلام:

- ففي كتابه "أدب الدنيا و الدين" تحت فصل"ما يصلح به حال الإنسان في الدنيا"، قَعَّد الماوردي (364ـ450هـ/974ـ1058م) قاعدة سماها بـ (الألفة الجامعة) فقال:(وأما ما يصلح به حال الإنسان فثلاثة أشياء.... وأما القاعدة الثانية وهي الألفة الجامعة: فلأن الإنسان مقصود بالأذية، محسود بالنعمة. فإذا لم يكن آلفا مألوفا تخطفته أيدي حاسديه، وتحكمت فيه أهواء أعاديه، فلم تسلم له نعمة، ولم تصف له مدة. فإذا كان آلفا مألوفا انتصر بالألفة على أعاديه، وامتنع من حاسديه، فسلمت نعمته منهم، وصفت مدته عنهم، وإن كان صفو الزمان عسرا، وسلمه خطرا).

- و في مقدمة كتابه "الحسبة" يذهب ابن تيمية (661ـ728هـ/1263ـ1328م) في هذا الصدد، قائلا:(وكل بني آدم لا تتم مصلحتهم لا في الدنيا ولا في الآخرة إلا بالاجتماع والتعاون والتناصر، فالتعاون على جلب منافعهم، والتناصر لدفع مضارهم، ولهذا يقال: الإنسان مدني بالطبع، فإذا اجتمعوا فلا بد لهم من أمور يفعلونها يجتلبون بها المصلحة، وأمور يجتنبونها لما فيها من المفسدة).

- و نجد البَحَّاثَة ابن خلدون الاشبيلي (732ـ808هـ/1332ـ1406م) في مقدمة ديوانه "المبتدأ و الخبر في تاريخ العرب و البربر و من عاصرهم من ذوي الشأن الأكبر"، نجده يؤكد على (المَوَاعِين) التي تساهم في (العمران البشري)، و ذكر من هذه المواعين، ضرورة (الاجتماع البشري). يقول ابن خلدون:( الاجتماع الإنسانيّ ضروريّ ويعبِّر الحكماء عن هذا بقولهم الإنسان مدنيّ بالطّبع أي لا بدّ له من الاجتماع الّذي هو المدينة في اصطلاحهم وهو معنى العمران... فلا بدّ من اجتماع القَدْرِ الكثيرة من أبناء جنسه ليحصل القوت له ولهم فيحصل بالتّعاون قدر الكفاية من الحاجة لأكثر منهم بأضعاف وكذلك يحتاج كلّ واحد منهم أيضا في الدّفاع عن نفسه إلى الاستعانة بأبناء جنسه).

  فالمدينة الفاضلة التي ينشدها الفارابي هي المدينة التي تتشكل من تلاحم و تعاون و تناصر أفرادها و تكوينهم بذلك مجتمعا يصلح لتحقيق الكمالات الإنسانية.

  و تجدر الإشارة أن الفارابي رغم جعله "المدينة" أول مراتب الكمال في الاجتماعات البشرية، إلا أنه لم يجعلها المرتبة الفضلى على الإطلاق، بل إنها يسبقها مراتب أخرى أكثر كمالا و تحقيقا للفضيلة و السعادة، فنجده في هذا الإطار يقسم المجتمعات الكاملة إلى أنواع ثلاثة: عظمى، و وسطى، و صغرى.

ـ أما المجتمعات العظمى: هي اجتماع الأمم على نطاق الجماعة الإنسانية في المعمورة كلها، و يَعُدُّ الفارابي هذا النوع أكمل أنواع المجتمعات.

ـ أما المجتمعات الوسطى: هي مجتمع كل أمة على حدة.

ـ أما المجتمعات الصغرى: هي الاجتماع البشري في مدينة معينة. فيعتبر بذلك أن المدينة هي نقطة بدء الاجتماع البشري. و يعبر الفارابي عن ذلك بقوله:(فالخير الأفضل و الكمال الأقصى إنما ينال أولا بالمدينة لا بالاجتماع الذي هو أنقص منها). و يقصد بقوله:(الاجتماع الذي هو أنقص منها) التجمعات البشرية التي تتخذ صورة أنقص من المدينة و تشمل تجمعات القرى و السكك و البيوت.

  و عموما فالفارابي يتطلع بتقسيماته السابقة إلى وجوب وجود الترابط و الانسجام بين المجتمعات بأنواعها لتحقيق الهدف المنشود، (السعادة).

  و يصور لنا الفارابي هذا الترابط و الانسجام بين أجزاء مدينة الفاضلة بالبدن التام الصحيح الذي تتعاون أعضاؤه، كل عضو حسب وظيفته.

  فالمدينة الفاضلة أشبه ما تكون بالهرم، في قمته رئيس المدينة و بين القمة و السفح توجد طبقات تتفاوت سموا و انحطاطا حسب (الفطرة الطبيعية التفاضلية) لذا نألف الفارابي في كتابه "فصول منتزعة"، يقسم البنيان الاجتماعي إلى أجزاء خمسة:

ـ الأفاضل: و هم الحكام و المتعقلون و ذوو الآراء في الأمور العظام، و من كان في عدادهم.

ـ ذوو الألسنة: من خطباء و بلغاء و الشعراء...و من جرى مجراهم.

ـ المقدرون: و هم الحُّساب و المهندسون و الاطباء...

ـ المجاهدون: الجند و العسكر...

ـ الماليون: و هم مكتسبوا الأموال من فلاحين و رعاة و باعة...

  الركيزة الثانية: رئيس المدينة الفاضلة:

  الركيزة الثانية التي تنبني عليها المدينة الفاضلة عند الفارابي هي:حسن اختيار الرئيس الذي يسوس و يسر شأن الوطن و المواطن.

  و يمكن القول ابتداءً أنه عند تفتيشنا في كتب الفارابي نجده يولي عناية قصوى بالمؤهلات و الملكات التي يجب أن يتصف بها كل من سيسند له أمر الرياسة. ففي كتابه"أراء أهل المدينة الفاضلة" عَدَّدَّ الخصال التي يجب أن ينماز بها الرئيس، و قسمها إلى قسمين، أحدهما أن يكون الرئيس بالفطرة و الطبع معدا لذلك، و الثاني أن تتوافر لديه الملكة الإرادية.

-الخصال الجبلية:

1.أن يكون تام الأعضاء.

2.جيد الفهم و التصور.

3.جيد الحفظ.

4.حسن العبارة.

5.محبا للتعليم.

6.محبا للخصال الجميلة من صدق و عدل...

7.لا يكترث بالدنيا و المال...

-الخصال الإرادية:

1.أن يكون حكيما.

2.عالما بالشرائع و السير.

3.جيد الاستنباط و الرؤية.

4.أن يكون له صنعة حربية.

  كل هذه الخصال و غيرها التي اشترطها الفارابي لا تخلو من ملاحظات:

ـ إن هذه الشروط/الخصال من العسر اجتماعها في رئيس واحد، لذا يقترح الفارابي أنه إذا توفرت هذه الشروط في شخصين(أحدهما حكيم و الثاني فيه الشرائط الباقية، كانا هما رئيسين في هذه المدينة، و إذا تفرقت هذه في جماعة و كانت الحكمة في واحد و العِلمِية في واحد و الاستنباط في واحد...و كانوا متلائمين كانوا هم الرؤساء الأفاضل).

ـ إن الفارابي خلط بين نظام الحكم الارستقراطي، حيث يكون الحكم للنخبة، و نظام الحكم الملكي، حيث يكون الحكم لفرد مطلق، فالملاحظ أن الفارابي تأثر بالفكر السياسي الأفلاطوني. فأفلاطون يعتبر أن النظام المثالي هو النظام السوفوقراطي الذي يكون فيه الحكم للفلاسفة و الحكماء، و قد يكون لهم رئيس واحد أو أكثر. و يدرج أفلاطون هذا النظام تحت النظام الملكي، بقوله:(أن الارتباط ليس حتميا بين النظام الملكي و حكم الفرد، إذ يمكن أن يكون الحكم في يد عدد محدود و مع ذلك يُعَدُّ ملكي). أصول الفكر السياسي، ثروت بدوي 1/197.

ـ الملاحظة الثالثة أن الفارابي ربط بين السياسة و المعرفة، و هذا ما ذهب إليه ـ أيضاـ أفلاطون:حيث يعتبر أن سياسة الدولة أمر صعب و لا يستطيع القيام بها سوى أهل العلم و المعرفة أي لمن توافرت لديه الفضيلة. و يظهر الارتباط بين السياسة و الفلسفة/الحكمة واضحا في قوله:(لا يمكن تعاسة الدول، و شقاء النوع البشري...ما لم تَتَّحِد القوتان، السياسية و الفلسفية في شخص واحد، و ما لم ينسحب من حلقة الحكم الأشخاص الذين يقتصرون على إحدى هاتين القوتين)جمهورية أفلاطون، ترجمة حنا خباز ص 193.

  إذا فالصفات الرياسية التي اشترطها الفارابي وجودها في كل مسير لدولة ما، هي التي تؤهله بمعية أناس فاضلين و أخيار بـ "وضع النواميس"و القوانين التي تنال بها السعادة القصوى.

  و بهذه الصفات ـ أيضاـ يكون الرئيس/الملك موزعا للعدل بين رعيته، ذاك (العدل التوزيعي)الذي يقسم الخيرات المشتركة في الدولة على المواطنين لا على أساس(المساواة المطلقة الحسابية) و إنما على أساس (مساواة نسبية وِفْقَ جَدَارَة المواطن و أهليته)و حسب مهاراته و مردوديته.

نشأة الدولة و دعائم إقامتها

حاول الغزالي بصفته فيلسوف سياسي و اجتماعي أن يحدد يجب أن تكون عليه المدينة أو الدولة حتى تصبح مثالية تختلف كل الاختلاف عن تصورات أفلاطون و الفاربي , فقد تكلم عن أهمية الصناعة و أصولها و آلاتها و هي أشغال يدوية (حرف و صناعة و أعمال ), فترى الخلف منكين عليها و سب كثرة الأشغال هو أن الإنسان مضطر على ثلاث القوت , الملبس و المسكن . أمل أصول الصناعة و أوائل الأشغال اليدوية فهي خمس : الفلاحة , الرعي , الإقتناص , الحياكة و البناء , و يستعمل الإنسان في ذلك أدوات ة آلات منها التجرة و الحدادة و الخرز ( العامل في جلود الحيوانات )

يرى من جهة أخرى أن حاجة الإنسان إلى الإجتماع و انشاء البلاد يعود لسبين هما : الحاجة للنسل لبقاء جنس الإنسان , و التعاون على تهيئة أسباب العيش لأن الفرد لا يستطيع أن يسد حاجاته المتعددة لوحده , و تأتي هذه الحاجة إلى السياسة و الحرف , و يبدأ بالرياسة في الأسرة حيث يرأس ولاية الزوج على الزوجة و ولاية الأبوين على الأبناء , و هذا المقياس يصلح على البلاد , بحيث متى كان الاجتماع كان التعاون و الخصام و النزاع و بالتالي وجدت الرياسة و الولاية , لأنه لو ترك الأمر هكذا لهلك القوم , ثم الحاجة للخراج لتسديد النفقات و دفع رواتب الجند و غيرها . و بعدها الحاجة إلى الملك و أعوانه لتدبير شؤون الرعية و أمير مطاع يعين لكل عمل شخصي و يختار كل واحد ما يليق به و يراعي النصفة في أخذ الخراج و إعطائه و استعمال الجند و غيرها.

المرحلة الموالية هي نشأة الأسواق و استخدام النقود لتبادل المنافع و الأغراض و الحاجات و ظهور حرفتي اللصوصية و التسول . ثم يقسم الغزالي الناس في الدولة إلى طوائف يتبعون مذاهب مختلفة فالطائفة الأولى طائفة غلب عليها الجهل و الغفلة و الثانية ترى أنه ليس المقصود أن يشقى الناس بالعمل و لا ينعم في الدنيا بل السعادة أن يقضي الإنسان وطرا من شهوة الدنيا . و الثالثة ترى أن السعادة في كثرة المال . و الرابعة ترى السعادة في حسن اللإسم و الثناء و المدح بالتجمل و المروءة . أما الخامسة فترى السعادة في الجاه و الكرامة بين الناس و انقياد الخلق بالتواضع و التوفير . هذه الطوائف الخمس انشغلت بالدنيا و المقابل توجد على النقيض طوائف أخرى حيث أعرضوا عن الدنيا و هي : الطائفة الأولى : التي ضنت أن الدنيا دار بلاء و محنة و الآخرة دار سعادة , فرأو أنه من الصواب الخلاص من محنة الدنيا و الذهاب إلى الدار الآخرة بغير موعد فقتلوا أنفسهم . و الطائفة الثانية : ترى أن السعادة في قطع الشهوة و الغضب و قتل النفس . و الطائفة الثالثة : ترى في أن المقصود من العبادات هو المجاهدة حتى يصل العبد بها إلى معرفة الله , فإذا حصلت المعرفة فقد وصل , و بعد الوصول يستغني عن الوسيلة و الحيلة .

و مما سبق نرى أن الغزالي انطلق من الواقع و من الظواهر التي كانت موجودة أو وجدت في القديم و فسرها و شرحها. و من خلال التقسيم السابق يلاحظ أنه قسم البشر على طوائف ضالة و متطرفة و كانت إما إفراط أو تفريط و هي طوائف لا تقوم على أساس ديني بل خارجة عن مبادئ و قيم السريعة الإسلامية السمحاء و لكن ألا يحق لنا أن نتسائل عن الطائفة البشرية التي تتماشى و الشريعة الإسلامية و تحقق جوهر الإسلام دينا و دنيا ؟

يجي الغزالي بأن الطائفة السالكة لما كان عليه الرسول ـ صلى الله عليه و سلم ـ و أصحابه هي الفرقة أو الطائفة الناجية . و هو أن لا يترك الدنيا بالكلية و لا يهتم بالشهوات الكلية , فنأخذ من الدنيا قدر الزاد و نقمع من الشهوات ما يخرج عن طاعة الشرع و العقل و لا يتبع كل شهوة , بل يجب أن يكون الأمر بين ذلك قوام و ذلك هو العدل و الوسط بين الطرفين و هو أحب الأمور إلى الله تعالى (خير الأمور أوسطها ).

 

المبحث الثاني عقد الخلافة و الإمامة في نظر الإمام الغزالي

لقد حظيت السياسة اهتمام ملحوظ من جانبه فكتب في الإمامة على مذهب الأشعرية و هو مذه ورد على الشيعة , و هاجم الباطنية و سوغ طاعة خلفاء العباسيين و الأمراء الذين عاصروه عندما طالب بطاعة للمتغلب مراعاة للواقع الذي ساد البلاد الإسلامية مفضلا ذلك على الثورة .

لقد بلغت السياسة ذروتها و أصبحت من الأهمية بمكان عند الشافعية , فقد اعتبرها أبو حامد الغزالي من الأصول التي لا بد منها لقيام الحياة .بل إنه يجعلها من الأهمية كالطعام و الشراب . فهي عنده أشرف الصناعات و هي أشرف المقامات بعد النبوة كما أنه لا بمكن الإستغناء عنها ,لا لأنها واجبة في ذاتها كعلم نظري و عملي و تطبيقي , بل كانت الحاجة إليها لتنظيم العلاقات بين الناس و فض الخصومات بينهم بالعدل و كبح جماح شهواتهم و غرائزهم البهيمية التي جبلوا عليها سواءا كان ذلك بالترغيب أو الترهيب .

و فقد عالج الغزالي الكثير من المسائل السياسية في العديد من مؤلفاته , نذكر منها (التبر المسبوك في نصيحة الملوك ) حيث ألفه للسلطان محمد بن ملك شاه السلوجقي باللغة الفارسية . ثم قام ترجمته إلى العربية أحد تلامذته , و بدأ الغزالي مقدمته للكتاب بقوله : اعلم يا سلطان العالم ملك الشرق و الغرب أن لله عليك نعما ظاهرة , و آلاء متكاثرة , يجب عليك شكرها , ويتعين عليك إذاعتها و نشرها , و من لم يشكر نعم الله جل ثناؤه , و تقدست أسماؤه , فقد عرض تلك النعم للزوال و حجل من تقصيره يوم القيامة , و كل نعمة تفنى بالموت فليس لها عند العاقل قدر و لا عند اللبيب خاطر , لأن العمر و إن تطاولت مدده لا ينفع طوله إذا انقضى عدده ...) و هكذا بدأ الغزالي توضيح المسلمات التي يجب ترسيخها في ذهن المتلقي , مثل تعريف الإيمان و تذكير السلطان بأنه مخلوق و أن الله جل ثناءه خالقه , ثم يتناول بعد ذلك أصول العدل و الإنصاف و الشورى و إصلاح أحوال الرعية و التعمير , و عدم مخالفة الشرع و طريق العدل , ثم يتناول الوزراء و سياستهم .

و للغزالي كتاب آخر عنوان (سر العالمين و كشف ما في الدارين ) ينتقد فيه الواقع السياسي القائم في عهده و كشفه لتلامذته, ثم سياسة الملك و ترتيب الخلافة و ترتيب العساكر و ترتيب المهن , ثم يتناول تهذيب نفس الحاكم و تهذيب نفوس الرعية و التقوى و العبادة .

و للإمام الغزالي كتاب سياسي هام أيضا هو (فضائح الباطنية و فضائل المستظهرية ) قدمه للخليفة المستظهر بالله ـ و ترجع أهمية هذا الكتاب في أنه يلقي الضوء على إحدى الفرق الهدامة التي أثارت الفتن و القلاقل في العالم الإسلامي , الأمر الذي أدى إلى ضعف السلطة المركزية للخلافة الإسلامية , و كان من أحد الأساب الرئيسية في تقويضها في فترات كثيرة على طول التاريخ السياسي الإسلامي .

و لا ننسى أن هذه الفرقة و غيرها من الفرق الهدامة كانت تصنع لنفسها مناهج فكرية متشحة برداء الفلسفة متخفية ورائها من جهة متشحة برداء الإسلام و متخفية وراءه من جهة أخرى .

و كما نعلم فإن أكثر من مثلوا هذه الفرق كانوا أصلا من أهل الدول و الحضارات التي قضى عليها الإسلام . لذل كان حلم هؤلاء المتشحين بالسواد هو العودة إلى أمجادهم الزائفة , فما كان منهم إلا أن عمدوا إلى الحيلولة و الدهاء السياسي للقضاء على الإسلام . لأن الأمر لم يكن ميسورا لهم بعد أن اصحت للإسلام قوة و شوكة تستطيع أن تستأصل شأفتهم و تطفئ ثائرة فتنهم في مهدها , هذا و قد اندثرت معظم هذه الفرق نتيجة مواجة السلطة المركزية لها , و لم يبقى منها إلا بعض الفرق التي طورت نفسها و استفادت من مناهج و أخطاء الفرق السابقة , و من هذه الفرق الباطنية التي ظهرت تحت أسماء كثيرة منها : الإسماعلية , القرامطة , لإخوان الصفا , الحشاشون , الصليحيون , الفاطميون , الدروز , و النصيرية ...و غيرهم . و قد استغل هؤلاء الباطنيون التشيع كستار لتحقيق أهدافهم من خلاله , فكانت الدعامة الفكرية الأولى التي قام عليها فكرهم السياسي هي فكرة الإمامة .و هي فكرة شيعية الأصل طرأت عليها بعض التعديلات و التطورات فما كان من الإمام الغزالي إلا أن تصدى لفكرهم هذا في كتابه المشار إليه بعاليه , فاضحا إياه بنقده و توضيح أبعاده ووظائفه مؤكدا على ثوابت الإسلام و أصوله الصحيحة .

كما تعرض للإمامة في مؤلفه الشهير (إحياء علوم الدين )حيث تضمن الكتاب الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر و يقض بأن تغير المنكر و مقاومة الحاكم الجائر بالمنع أو القهر , لا يجوز لكون ذلك يحرك الفتنة سواءا كان ذلك بواسطة آحاد الناس أو جماعاتهم . يتبين مما سق أن الغزالي منع مقاومة الحكام مخالفا بذلك جمهور أهل السنة و الجماعة الذين أجازوا مقاومة الحاكم الجائر , و ربما يعود ذلك إلى تولي الغزالي منصب التدريس في المدرسة النظامية في بغداد و صلته بالسلطة الجلسوقية , فأراد بذلك تحاشي غضب الحاكم , و قد أعطى بعض التفاسير لهذا المنع و هو خوفه من الفتنة و الحرب الأهلية و تهييج الشر و من أن يون المتولد أو الناتج منه من المحذور أكثر ( رب عذر أقبح من ذنب )

و من جهة أخرى يرى أن الإمام لا يجوز خلعه ما لم يتورط في الفتنة أو الحرب الأهلية , و هكذا فالإمامة في رأيه ضرورية للمجتمع و الدين كما سبق و أن ذكرنا و ينفي بالتالي حق الثورة إذا كانت هذه الثورة تؤدي إلى إثارة الفتنة , و لما كان من المستعد جدا أن تقوم ثورة دون قتال و صراع داخل , فماذا يبرر الإلتزام السياسي عندئذ ؟

في ظل الظلم و الإستبداد يكون الإلزام السياسي أحد الإحتمالين أو كلاهما :

-1- أن الحاكم هو ظل الله في الأرض

- 2- أن ظلمه على سوئه يبقى أقل شرا من انهيار المجتمع

و ما دام الغزالي يمنع مقاومة الحاكم و غزله , فما هي صفات و اختصاصات هذا الحاكم ؟ و ما هي شروط تولي هذا المنصب ؟

تكلم الغزالي عن الإمامة و نظرياتها بالتفصيل في كتابه (الإقتصاد في الإعتقاد ) , و السير السير المسبوك في نصيحة الملوك و فضائح الباطنية أو المستظهري , و بالرغم من أن الغزالي كان كارها للخوض في هذه المسألة نظرا لحساسيتها إلى أنه أعطاها حقها في الدراسة و الشرح , و قد نظر إليها في ثلاث أطراف و هي :

1ـــ الطرف الأول : في بيان وجو نصب الإمام

2ـــ الطرف الثاني : في بيان من يتعين من سائر الخلق لأن ينصب إماما

3ـــ الطرف الثالث : في شرح عقيدة أهل السنة في الصحابة و الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم

ـــ وجوب نص الإمام : هو واجب شرعا و ليس مأخوذا من العقل , و يشرح الغزالي كيف كان الصحابة يتسارعون لنصب الإمام بعد وفاة الرسول – صلى الله عليه و سلم ــ , و يقول أنه إذا بطلت الإمامة بطلت و انحلت ولاية القضاة ... و يقول في موضع آخر أن الله سبحانه و تعالى اختار من بني آدم طائفتين و هما : الأنبياء عليهم الصلاة و السلام ليبينوا للعباد الدليل و السبيل و اختيار الملوك لحفظ العباد من اعتداء بعضهم على بعض .

و هنا يعطي يعطي الملك و السلطان حقا مقدسا و يجعله ظل الله في أرضه يجب طاعته و الامتثال لأوامره و هي تمثل حكومة إلهية تيوقراطية .

أما من حيث صفات الإمام , فهي صفات إيجابية أو سلبية , بدنية أو نفسية , فطرية أو مكتسبة تقوم في شخصه أو تحدد علاقته بالآخرين , دنيوية أو دينية تحدد علاقته بالله أو بالرعية , و هذه الشروط و الصفات هي :

ـــ البلوغ ـــ العقل ـــ الحرية ـــ الذكورة ـــ النسب القرشي ـــ سلامة الحواس ـــ و هي كلها صفات غريزية فطرية , أما الصفات المكتسبة فهي أربعة :

ـــ النجدة : المقصود بها ظهور الشوكة ووقور العد و الاستظهار الجنود ( الإمام يباشر الحرب بنفسه ).

ـــ الكفاية : الفكر و التدبير ثم الاستقصاء و استطلاع الرأي و المشاورة و الهداية.

ـــ الورع : و هي صفة ذاتية خاصة بشخصية الإمام و هي العلم و استطلاع رأي العلماء و هو الأساس و الأصل عليه يدور الأمر كله .

ـــ العلم : فعكس جمهور العلماء الذي يرى أن الإمام يجب أن يكون على مرتبة عالية من العلم و الاجتهاد و الفتوى في علوم الشرع , فالغزالي يرى أنه ليس من الشروط الضرورية للإمامة ل يكفي أن يتصف بالأخلاق و يراجع أهل العلم ويحكم بمااتفق عليه العلماء ..

ـــ عقيدة أهل السن انتقاداته للفلاسفة تثبت كان خصم الفلاسفة هذا محبوا بالروح الفلسفي "

ألفريد غيوم :" لقد جعل الغزالي للإسلام مكانة تمكن مقايستها إلى حد ما بالمكانة التي جعلها للمسيحية توماس الإكويني "

يقول الغزالي:" سعادة كل شيء لذته و راحته, و لذة كل شيء تكون بمقتضى طبعه, و طبع كل شيء ما خلق له, فلذة العين في الصور الحسنة و لذة الأذن في الأصوات الطيبة و لذة القلب الخاصة لمعرفة الله لأنه مخلوق لها...و لا لذة أعظم من معرفته...و كل لذات و شهوات الدنيا متعلقة النفس, و هي تبطل بالموت, و لذة معرفة الله متعلقة بالقلب, فلا تبطل بالموت لأن القلب لا يهلك بالموت, بل تكون لذته أكثر و ضوءه أكبر لأنه خرج من الظلمة إلى النور

و من التحليل السابق نستطيع الحكم على الإمام الغزالي, إمام عصره ووحيد زمانه في علوم الدين الإسلامي الحنيف, و لا سيما في علم الأصول و علم الكلام, كما عرف بحجة الإسلام

وكان مصلحا دينيا و اجتماعيا ثائر على المجتمع منددا به بعدما آل إليه حال المسلمين في عصره, فعمل على إيقاظ الهمة و الفضيلة بين المسلمين و دعا إلى إصلاح المجتمع الإسلامي إصلاحا شاملا.

الدولة عند ابن خلدون

الدولة ظاهرة سياسية قديمة، تناول موضوعها عدة مفكرين فدرسوا أسباب نشأة الدولة وظهورها ومفهومها وأشكالها وعديد من الجوانب الهامة في الدولة, وأبرز من اهتم بدراسة الدولة في القِدم أرسطو في كتابه (السياسة), وفلاسفة مدرسة العقد الاجتماعي, أيضاً اهتم بدراسة موضوع السياسة العلامة أبو زيد عبد الرحمن بن محمد بن خلدون, هو مؤرخ وفيلسوف اجتماعي, أشهر مؤلفاته كتاب (العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن صاحبهم من ذوي السلطان الأكبر) المكون من سبع مجلدات, كما يُعتبر مؤسس علم العمران, فكان ابن خلدون يكتب في السياسة بصفته مؤرخاً وسياسياً معاً, أي أنه كان مؤرخ في غمار السياسة, واختبرها بنفسه متقلباً ما بين تونس والجزائر والمغرب والأندلس(شعبان,2010).

ينقل الكتاب -نظرية الدولة في الفكر الخلدوني- وجهة نظر ابن خلدون عن الدولة والفلسفة السياسية, مستشهداً بذلك ما ذكر في مقدمة ابن خلدون, ويروي الكاتب فكر ابن خلدون ومن سبقه من الفلاسفة السياسيين أمثال: أفلاطون, أرسطو, الفارابي. ويحوي الكتاب على خمس فصول, وسيتم التركيز على فكرة ابن خلدون في السياسة والدولة ونظريتها, كما جاء في الفصل الأول الذي يحوي ثلاث أقسام يتسلسل بها الكاتب عن مفهوم الدولة وكيفية نشؤها وصولاً إلى اضمحلال الدولة وزوالها وظهور دولة جديدة أخرى, أيضاً الفصل الثالث الذي يحوي مفهوم الدولة عند ابن خلدون, والفصل الخامس الذي ذكر فيها الكاتب وظيفة الدولة عند ابن خلدون.

يرى ابن خلدون أن الدولة لا توجد دون حكم سياسي, ولا يوجد حكم سياسي دون دولة, بالتالي يرى أن الدولة والسياسة هم وجهان لعملة واحدة, وأن منشأ الدولة هو المجتمع.

مجتمع -

الجدير بالذكر هنا أنه ليس أي مجتمع ينبثق منه دولة, فمثلاً المجتمعات الطبيعية أو البدوية لا يمكن أن تنشأ منها دولة ولا حكم سياسي -سيتم شرحها بالتفصيل لاحقاً-.

لم يَذكر ابن خلدون تعريف صريح عن “الدولة”, فكان يستخدم اللفظ لأكثر من معنى  فمثلاً تعبيره عن الملك بلفظ الدولة, و استعمل لفظ الملك بعدة معاني, منها: الدولة, السلطة, الحاكم, الحكم وغيرها من معاني, مما يؤدي إلى تشتت في ذهن من يقرأ لابن خلدون, إلا أن هناك اجتهادات من الباحثين لتعريف الدولة تعريفاً مباشراً من وجهة نظر ابن خلدون, فعرف أحد الباحثين أن الدولة عند ابن خلدون “هي الامتداد المكاني والزماني, لحكم عصبية ما” (سعد الله, 2003: 33)

ثم بعد ذلك ينتقل الكاتب إلى سرد بعض النظريات التي حاولت تفسير نشأة الدولة فمن بين تلك النظريات, نظرية التطور الاجتماعي أو قد تسمى بالنظرية التاريخية, ترى النظرية أن الدولة تنشأ من عدة عوامل من أهمها (علاقة الدم, الدين, الوعي السياسي).

علاقة الدم أو ما تسمى بصلة الرحم فترى النظرية أن الأسرة لها نوع من السلطة السياسة وإن كانت محددة بالمحيط العائلي, فتتمثل السلطة في مكانة الأب والأم وسلطتهما على الأبناء, لذلك اعتبرت سلطة رب الأسرة أقرب إلى سلطة الدولة, وذلك لوجود عنصر الانقياد والخضوع, فالشعب يخضع لسلطة الحاكم السياسي, والأبناء يخضعون إلى سلطة رب الأسرة, الجدير بالذكر أن علاقات الدم وصلة الأرحام هي ما عبر عنها ابن خلدون باسم العصبية, وهي من أهم العوامل المكونة للدولة –كما سنوضح لاحقاً-, وركزت النظرية كذلك على الدين لما لها من دور معنوي معزز, وكما تزود الدولة بالدعائم التي تساعد على قيامها, أيضاً ركزت النظرية على الوعي السياسي فكان المقصود منه هو الوعي بضرورة وجود نظام سياسي لحماية أنفسهم وممتلكاتهم, ووجود الأمن. سبب ذكري لهذه النظرية أن ابن خلدون كان من أشد أنصارها, وذلك لأن العوامل التي ذكرتها النظرية هي عوامل يرى ابن خلدون أنها مهمة لنشأة الدولة (العصبية, الوازع الديني).

أيضاً نظرية القوة والغلبة التي كانت تؤكد على أن الدولة نشأة نتيجة للعنف والقوة, وأنها أداة تستخدم داخل المجتمع مع الشعب للردع, وخارج المجتمع لفرض هيبة الدولة وحماية حدودها, والدفاع عنها. فتبرر النظرية أن استخدام القوة هو مبدأ طبيعي وضروري في الحياة, فالقوة بين جميع الكائنات الحية, والعشائر, وبين الدولة والأمم في حروبها, أيضاً لها استخدام إيجابي لفض النزاعات, أما عن الجانب السلبي في النظرية فقد أكدت أن كل الدول لا تقوم إلا على القوة والعنف, إلا أن هناك نظرية أخرى أتت بعكس ما قالته نظرية القوة والغلبة, وهي نظرية العقد الاجتماعي التي ترى بأن الدولة تنشأ على أساسين هما: الاتفاق الواقع بين المجتمع ويتلوه عقد أبرمه أعضاء من المجتمع على إنشاء دولة, وعلى الرغم من أن نظرية العقد الاجتماعي أتت بما لم تأتي به نظرية القوة والغلبة إلا أنها قامت على أساس الافتراض وليس الحقيقة, فيستحيل وجود مجتمع يتفق فيه جميع أعضائه على إبرام العقد لذا اعتبرت أنها تميل إلى المثالية, كما أن البعض يرى أن نظرية العقد الاجتماعي قائمة على فكرة التنازل, فموجبة يتنازل الأفراد عن جزء من حقوقهم مقابل التمتع بمميزات المجتمع السياسي.

أما عن القسم الثالث من الكتاب يروي نشأة الدولة عند ابن خلدون, فتنشأ الدولة عند التجمع الحضري, أو كما يسميها المجتمع المدني, فلا تنشأ الدولة عند المجتمع الطبيعي أو التجمع البدوي؛ ويعلل سبب عدم نشأة الدولة في المجتمع البدوي لعدة أمور منها: أن الدولة تنشأ في التجمع السكاني لأفراد في مكان ثابت, فالمجتمع البدوي يتميز بالترحال وعدم الاستقرار, كما أن المجتمع البدوي يتميز بوجود عصبيات ولكن ما يعوق تلك العصبيات التي تُبطل شرط قيام الدولة هي أن تلك العصبيات في طور التكوين والنمو, ومتفاوتة القوى, كما أنها متفرقة بين الجماعات –جماعات البدو-, المميز أن هذه العصبية تنشأ في المجتمع البدوي, فعندما تصبح هذه العصبية ذات قوة كبيرة وموحدة يتم هنا يتم شرط العصبية في نشوء الدولة وعند انتقالها إلى المجتمع الحضري.

وهنا وجب تحديد العناصر الأساسية لنشأة الدولة:

قسمت نظرية الدولة في الفكر الخلدوني منشأ الدولة إلى ثلاث عناصر أساسية:

نظرية الدولة في الفكر الخلدوني

أولا: عناصر معنوية وهي عبارة عن ثلاث أقسام: العصبية يقصد بها كما ذكر شعبان (2010) حالة نفسية ذهنية تظهر في العلاقات والسلوكيات التي تتسم بها مجموعة من البشر في حالة البدو. كما تعتبر المحور الأساسي لقيام الدولة ونشأتها ويقصد بها رابطة تربط أعضاء الجماعة؛ فقد تكون صلة دم أو نسب أو حلف وولاء وانتماء, وكما ذكرنا سابقاً بأنها تنشأ قبل المدينة في طور البدوي, ولابد أن تكون العصبة كبرى جامعة لكل العصائب, وذكر في مقدمته أن الرئاسة في العصبية تكون من نفس أهل العصبية “أن الرئاسة على أهل العصبية لا تكون في غير نسبهم ذلك أن الرئاسة لا تكون إلا بالغلب والغلب إنما يكون بالعصبية كما قدمناه فلا بد في الرئاسة على القوم أن تكون من عصبية غالبة لعصبياتهم” (ابن خلدون, 1981) , كما أكد على أهميتها لدعم العنصر الديني في مقدمته “أن الدعوة الدينية من غير عصيبة لا تتم” (مرجع سابق: 199), وقد تعتبر أيضاً من العناصر العضوية لأنها تنشأ من صلة الرحم والنسب, وتعتبر معنوية لأنها أمر غير محسوس, أما عن القسم الثاني فهو الإكراه والاقناع وقد شرح ذلك على أهل الحواضر وأهل البادية, فالملك أو الرئيس على اقليم ما يقوم باستدراج أهل البادية إلى طاعته اختياراً واقناعاً كأن يبذل لهم ما يحتاجونه من الضروريات التي تنقصهم, أو عن طريق الإكراه فيحاول التفريق بينهم حتى يحصل له جانب منهم. أما عن القسم الثالث الخاص بالعناصر المعنوية هو الوازع الديني؛ ويرى أن دوره معنوي في التأليف بين قلوب الشعب وجمع الأفراد وهذا يساعد العصبية في تأسيس الدولة, كما أشار ابن خلدون في مقدمته “أن الدولة عامة الاستيلاء العظيمة الملك أصلها الدين أما من نبوة أو دعوة حق”(مرجع سابق: 197), أيضاً وضح “أن الدعوة الدينية تزيد الدولة في أصلها قوة العصبية التي كانت لها من عددها” (مرجع سابق: 199).

ثانياً: العناصر المادية أيضاً تنقسم إلى ثلاث أقسام: منها التجمع والذي يقصد به جماعة من الناس أي التجمع الحضري, ويرى ابن خلدون أن التجمع الحضري في الطور الأول تكون في حالة من البداوة؛ وذلك لأسباب اقتصادية, أما عند توسع الدولة في الملك فأنها تنتقل إلى طور الترف والحضارة وتمتاز بكثرة نفقات الدولة, إلا أنه عند الاسراف في كثرة النفقات تدخل الدولة في طور الانحلال , ولذلك يفسر ابن خلدون هنا تفسيراً مادياً فالدولة تكون بدوية عند اعتمادها على الضروريات, ومتحضرة عند اعتمادها على الكماليات, وعند الاسراف تتلاشى, القسم الثاني هو الوازع الحاكم وهو شرط أساسي من شروط نشأة الدولة ويقصد بها الحاكم. أما القسم الثالث هو الإقليم فيقول ابن خلدون في المقدمة “إن كل دولة, لها حصة من الممالك, والأوطان, ولا تزيد عليها” (مرجع سابق: 285) كما أنه لا يتصور وجود جماعة بدون أرض أو إقليم.

ثالثاً: العناصر المشتركة التي يقصد بها خليط بين ما هو معنوي وما هو مادي, وهي تنقسم إلى ثلاث أقسام منها: الجند؛ فلا توجد دولة بدون جند, ثانياً؛ المال فتحتاج الدولة للإنفاق على وجوه الدفاع المختلفة مثل الجند والأعوان والقادة أيضاً المصالح العامة والمصالح الخاصة, والمال هو قوام أولئك الجند, وبالرغم من ذكره أهمية المال لإنشاء الدولة إلا أنه قد يكون سبب في اضمحلالها عند الانغماس في الترف وصرفه على الشهوات, فبين الأوقات التي تحتاج الدولة فيها إلى المال, فأكد أن المال ضرورة في مرحلة التأسيس –مرحلة البداوة-, ولأهمية العنصرين السابقين –الجند والمال- ووضح أن الخلل إذا طرق الدولة, طرقها من هذين الأساسين. ثالثاً تحقيق العدل؛ كما أشار إلى أنها من وظائفها الرئيسية وليس فقط من عناصر نشأتها, وأن العدل أداة لبناء العمران.

عوامل سقوط الدولة:

احتكار السلطة؛ يعتبر ابن خلدون أن الدولة في الجيل الأول ذو عصبية قوية وبأسها شديد, وفي الجيل الثاني؛ ينفرد بالمجد واحد من أفراد العصبية دون باقي الأفراد؛ بالتالي تضعف العصبية, وتسقط الدولة.

فساد عصبية الدولة؛ فيحصل الفساد عندما تنتشر روح المنافسة في الاستيلاء على السلطة, وتطمع قرابة صاحب الدولة في الحكم.

الانهماك في الترف؛ فيوضح ابن خلدون أن طبيعة الملك تقتضي الترف بالتالي وعلى الرغم من ضروريته إلا أن الانهماك فيه يؤدي إلى سقوط الدولة, ومن الناحية فيعتبر الترف هو عامل بناء دولة جديدة, إذا هو عامل هدم وعامل بناء في آناً واحد.

الراحة وعدم الإنتاج؛ فقلة العمل يؤدي إلى نقص الإنتاج, بالتالي ذهاب شدتهم وبأأسهم, كما أنه يعد نتيجة تفشي الترف.

الخلل الذي يصيب الدولة في العناصر الأساسية المشتركة (الجند, المال, العدل)؛ فإذا اختلت الدولة في هذه العناصر سينتج عنه تمرد الشعب على الحكم, والخروج ضدها.

تصنيف الدول من وجهة نظر ابن خلدون إلى ثلاث أقسام: سياسي, أخلاقي, وصفي.

التصنيف الأول: سياسي

يقصد به انبثاق دولة أو عدة دول عن الدولة الأم, وذلك عن طريق الانفصال, وهناك شكلين للانفصال أما عن طريق انفصال بعض الولايات في أطراف الدولة عن الدولة الأم, فتشكل تلك الولايات دولة جديدة, وأما عن طريق ثورة على الدولة الأم فتسقطها, وتنشأ من الثورة دولة جديدة.

إذاً هناك ثلاث أقسام لتفكك الدولة في ضوء تصور ابن خلدون, فتلك الأقسام هي: (الدولة الأم, الدولة المتجددة من أطراف الدولة الأم فتنفصل عنها وتنشأ دولة جديدة, والدولة المتجددة من الثورة).

التصنيف الثاني: أخلاقي

تناول التصنيف الأخلاقي كيفية انتقال المجتمع من حال البداوة إلى حال الحضارة, فبداية من مرحلة البداوة وصف هذه المرحلة بأنها مرحلة بسيطة في طبيعة تصرفها مع الشعب, وفي نظام الحكم, وفي سيطرتها على الأوضاع السائدة في المجتمع, وأكثر ما يميز هذه المرحلة هي قوة العصبية, وشدة تماسكها الأخلاقي, والدفاع عن ذاتها وكيانها, ويرى ابن خلدون أن هذه المميزات الايجابية في العصبية لا تتوفر إلا في مرحلة البداوة, كما تمتاز من الناحية الاقتصادية بالاقتصار على الضروريات وعدم التبذير, ومن الناحية الاجتماعية بالمحافظة على روح التماسك, ومن الناحية الخلقية فتمتاز بالخشونة, والشجاعة, والعز, والأنفة, والطموح, ومن الناحية السياسية فتمتاز العصبية بالقوة والوحدة والمشاركة في السلطة السياسية. أما عن المرحلة التالية هي مرحلة الحضارة؛ تفقد فيها الدولة جميع خصائص مرحلة البداوة, وتمتاز بالبدء في الانغماس بجميع ألوان الترف, الأمر الذي قد يقودها إلى الانحلال الخلقي, أو كما أشرنا سابقاً أن الانغماس في الترف هو أحد أسباب سقوط الدولة, وأيضاً هو أمر طبيعي في الحكم, بالتالي مرحلة الحضارة هي مرحلة فاصلة بين مرحلة بناء الدولة ومرحلة سقوطها, أما عن مرحلة الاضمحلال التي تسبقها مرحلة الانغماس في الترف ثم يليها طور الهرم والاضمحلال شيئاً فشيئاً, ويشير إلى أن هرم الدولة يبدأ في أطراف الدولة ثم يتسرب تدريجياً إلى مركزها.

التصنيف الثالث: وصفي

يرى ابن خلدون ان التصنيف الوصفي التقييمي قائم على أساس طبيعة النظام الحاكم, وتقدير تلك الأنظمة للحكم باعتبار التوجه الوظيفي للعصبية, وفي هذا الإطار, يرى أن هناك أربعة أصناف من الدول, وهي:

دولة النظام الطبيعي: ويقصد بها الدولة التي تكون العصبية فيها لا يحكمها قانون سماوي أو قانون وضعي, إنما الحاكم لها شهواتها, والميول الغريزية, والنزوات الطبيعية, وشكل الحكم فيها يكون استبدادي لأنه قائم على الظلم والعدوان, بالتالي لا يحقق العدل بين الناس, لاعتماده على الهوى, فيرى ابن خلدون أن هذا النوع من النظام مرفوض لعدم اعتماده على وازع ديني أو حتى سياسي أو أخلاقي.

دولة النظام الشرعي: يمثل هذا الصنف دولة الخلافة, فتقوم العصبية فيها على خدمة الشرع, وتستند في حكمها عليه. فهي سياسة شرعية تعتمد على قانون منزل من السماء, ومن الواضح ميل ابن خلدون لهذا الصنف من الدول لاعتماده على الحكم الشرعي.

دولة النظام الوضعي: هنا تقوم العصبية على خدمة العقل, ويسميها ابن خلدون السياسة الملوكية أو الملك السياسي, فهو يعتمد على القوانين التي يسنها العقل البشري.

دولة النظام المدني: هذا الصنف من الدول يعتبر مثالي وغير واقعي فهو أقرب ما يكون إلى المدينة الفاضلة التي نادى بها أفلاطون, أي أن العصبية فيها تخدم المثل العليا.

أطوار الدولة, أو ما يسميها (نظرية التعاقب الدوري): قرر ابن خلدون أن الدولة كائن عضوي يمر بأطوار خمسة مختلفة كل طور يتميز بخصائص وأحوال معينة, وهي كالآتي:

الطور الأول (الظفر): هو طور التأسيس والاستيلاء والنصر على الحكم, ومن مميزات هذا الطور هو تعاون وتكاتف أفراد العصبية في الحكم والمشاركة في السلطة السياسة, والدفاع والحماية من العدوان, والمساهمة في النهوض باقتصاد الدولة المالي.

الطور الثاني (الاستبداد): في هذا الطور يبدأ الحاكم باحتكار السلطة السياسية لذاته دون أقاربه من أفراد العصبية, ورفض مشاركتهم السياسية, وينتج عن ذلك توتر السياسي مما قد يجعل الحاكم اتخاذ أعوان وأنصار من الموالي والأباعد, لحمايته من المعارضة.

الطور الثالث (الفراغ): ما يميز هذا الطور العمل على تنظيم الحياة الاقتصادية, والسعي إلى الرفعة والشهرة والجاه, وصرف الأموال على الحاشية والأعوان , كما يتم العناية بالجند بالتوسعة عليهم في المال وإنصاف قضاياهم, والمباهاة بالجيش والافتخار بهم أمام الدول المسالمة وإرهاب الدول المعادية.

الطور الرابع (القنوع): سمي بالقنوع نسبة إلى قنوع الحاكم بما بناه الأوائل, ومسالمة حاكم ورؤساء الدول, أيضاً يتصف الحاكم هنا بتقليده لأسلافه.

الطور الخامس (الإسراف): وهذا هو الطور الأخير من أطوار الدولة من وجهة نظر ابن خلدون, فنرى أن خصائص هذا الطور تمتاز باستهلاك ما انتجه الأوائل, وانغماس الحاكم في الملذات والشهوات, واصطفاء أخدان السوء والتقرب منهم, كما يقوم الحاكم بتعيين المفسدين وغير الأكفاء مراكزاً هامة في الدولة, واستغلال الحاكم لأعطيات الجند وصرفها في شهواته, وإهمال المصالح العامة للدولة.

عمر الدولة:

قد سبق وأشرت إلى أن ابن خلدون يشبه الدولة بالكائن العضوي, إذ أن الكائن العضوي له عمر محدد والدولة كذلك, فيعتقد ابن خلدون أن أي دولة عمرها مائة وعشرون سنة, المكونة من ثلاث أجيال  وعمر كل جيل هو أربعين سنة, وقد يزيد العمر الطبيعي أو قد ينقص وذلك في صورة نادرة أو أوضاع غريبة من الفلك, إذا أن مستنده إلى ذلك أمور عدة منها نظرية الأعمار نسبة إلى علم الفلك الذي يحدد العمر الطبيعي للشخص بالتالي يقيس عليه عمر الدولة, أيضاً أستشهد برأي المنجمين الذين قالوا أن عمر الشخص يتراوح ما بين الخمسين إلى المئة والعشرين سنة, ويقرر أن أعمار أهل الملة الإسلامية تتراوح بيني الستين والسبعين سنة إلا أن الغريب لم يشير بذلك إلى نص شرعي يدعم قوله, بل أنه أستدل من قول الله تعالى: ( حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً)(الأحقاف: 15) أن سن النضوج والكمال في النمو أربعين سنة بالنسبة للإنسان, كذلك بالنسبة للجيل من الأشخاص, ومن قول الله تعالى: ]قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ ۛ أَرْبَعِينَ سَنَةً ۛ يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ[ (المائدة: 26) أستنتج من قصة تيه بني إسرائيل في سينا أربعين سنة دلالة على حقيقة انتهاء جيل وظهور جيل آخر. إلا أن تحديد عمر الدولة عند ابن خلدون لم يكن تحديداً مطلقاً, بل هو تحديداً نسبياً قياساً على أعمار ثلاث أجيال من الأشخاص.

وظائف الدولة عند ابن خلدون:

درس ابن خلدون نمطين من الوظائف: النمط الخلافي, والنمط السلطاني, مستقلاً كل منها عن الآخر, رغم اعتقاده بتداخلهما منذ انقلاب الخلافة إلى الملك السياسي, ويشير إلى أن النمط الخلافي لم يعد يمارس في عهده, وأن جميع السلطات هيمنت عليها السلطة التنفيذية في النظام الوضعي.

النمط الأول: الوظائف الخلافية

قد صنف ابن خلدون الوظائف في الدولة الخلافية إلى خمسة وظائف هي:

الأولى: وظيفة إمامة الصلاة, وقد اعتبرها ابن خلدون أسمى الوظائف.

الثانية: وظيفة الفتيا, ويقصد بها بيان الأحكام الشرعية في المسائل والأمور الحياتية

الثالثة: وظيفة القضاء, عرف ابن خلدون القضاء بأنه “الفصل بين الناس في الخصومات, حسماً للتداعي, وقطعاً للتنازع, إلا أنه بالأحكام الشرعية, المأخوذة من الكتاب والسنة”(مرجع سابق: 390), ومن الوظائف المرتبطة بالقضاء (المظالم, الشرطة, العدالة).

الرابعة: وظيفة الحسبة, ويقصد بها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إذا ظهر فعله.

الخامسة: وظيفة الجهاد, الجدير بالذكر هنا أن ابن خلدون يرى بطلان هذه الوظيفة لاندثار نظام الخلافة, لذلك قد اعتبر الجهاد حرباً دفاعية, وقد قسم الحروب إلى أربعة أصناف أولها: حروب القبائل المتناظرة, ثانيها: عدوان الأمم الوحشية على بعضها, ثالثها: الجهاد, رابعها: الحروب الأهلية.

النمط الثاني: الوظائف السلطانية

تعبر هذه الوظائف عن نظام الملك السياسي الوضعي, وقد قُسمت إلى وظائف جوهرية, وأخرى ثانوية, وكلاهما في رأيه يمثلان السلطة التنفيذية المركزية.

الصنف الأول: الوظائف الجوهرية

تعتبر وظائف أساسية وجوهرية لأنها تعبر عن مفهوم الدولة وحقيقتها, صنفها ابن خلدون إلى خمسة أصناف هي: (الوزارة, الحجابة وهو لقب يطلق على من يحجب السلطان عن العامة, المالية أو ما يطلق عليها الوظيفة الاقتصادية, والكتابة وهم كُتاب مهرة يقومون بكتابة السجلات وتحرير الرسائل والخطابات, والجيش)

أعتقد أن كتاب نظرية الدولة في الفكر الخلدوني يميزه عند الانتهاء من سرد نقطة معينة بإسهاب كما يراها ابن خلدون, يضع الكاتب تعقيب خاص بوجهة نظره؛ مما جعل القارئ التمييز بين ما هو خاص بالفكر الخلدوني وما هو خاص بوجهة نظر الكاتب, أيضاً التسلسل المنطقي الخاص بوجهة نظر ابن خلدون عن الدولة انطلاقاً بمفهومها إلى الاضمحلال, وصولاً إلى الوظائف التي تكون عليها الدولة.

المصادر والمراجع:

-          مدخل الي علم السياسة، فوزي عبد الغني، دار النهضة العربية، القاهرة، 2006.

-          محمود إسماعيل، المدخل إلى العلوم السياسية، مطبعة العشري، القاهرة 2006.

-          فوزي أبو دياب، المفاهيم الحديثة للأنظمة والحياة السياسية، دار النهضة العربية، بيروت، 1971.

-          عاطف أحمد فؤاد، علم الاجتماع السياسي، دار المعرفة الجامعية، الإسكندرية، 1995.

-          عبد الغفار رشاد: قضايا نظرية في السياسة المقارنة، مركز البحوث والدراسات السياسية، جامعة القاهرة 1993.

-          حامد عبد الله ربيع، نظرية التحليل السياسي، مكتبة القاهرة الحديثة، القاهرة، 1971.