علم البلاغة من أشرف علوم الأدب و أهمّها. كيف؟ و القرآن و هو المعجزة الإلهية الخالدة، قد تحدّى ببلاغته كلّ خطيب مصقع، و كلّ أديب مبدع. فلم يتصدّ للإتيان بما يوازيه أو يدانيه، واحد من بلغاء العرب و فصحائهم، على الرغم من أنّهم كانوا أكثر من حصى البطحاء، و أوفر عدداً من رمال الصحراء.

و نحن أبناء هذا العصر كيف يمكن لنا أن نصدّق بذلك تصديقاً عملياً، إن لم‏نطّلع على مسائل هذا الفنّ، لنرى بعين اليقين خلود هذه المعجزة على مرّ الليالي و الأيام.

ويبحث في البلاغة ـ كما هو معلوم ـ عن فنون ثلاثة: المعاني و البيان و البديع. و كلّ فنٍّ منها قد اشتهر فيه جملة من العلماء، وضعوا أركانه، و شيّدوا بنيانه.

المطلب الأول: في تعريف البلاغة و تقسيمه

البلاغة لغة تنبى‏ء عن الوصول و الانتهاء، يقال: بلغ فلان مبتغاه؛ إذا حقّقه و وصل إليه. قال تعالى: «فَإذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ»(1)  ( البقرة: 234) أي: قاربنه، و وصلن إليه.

و اصطلاحاً: يتّصف بها الكلام و المتكلم فقط، دون المفرد؛ إذ لم يسمع عن العرب وصفهم المفرد بالبلاغة. و لعلّ السرّ في ذلك: أنّ الكلمة قاصرة بمفردها عن الوصول بالمتكلم إلى مراده.

1. بلاغة الكلام؛

ذكر لها تعاريف و حدود متعددة، أخصرها و أرتبها من الناحية الفنية ما ذكره الخطيب القزويني (ت 739 ه)، و تبعه عليه جلّ من تأخّر عنه. و هي:

«مطابقة الكلام لمقتضى الحال مع فصاحته».

2. بلاغة المتكلّم؛

يتّصف المتكلم بالبلاغة، إذا كان ذا قدرة على التعبير عن مقصوده بكلام فصيح، مطابق لمقتضى الحال، في أيّ غرض أراد، و أي وقت شاء، مع فقدان المانع، من مرض و نوم و نحوهما.

و إنّما يكون كذلك، إذا كان ـ مضافاً إلى ما سيذكر في الفصاحة ـ محيطاً بأساليب العرب، عارفاً بِسَنَنِ تخاطبهم في منافراتهم و مفاخراتهم، و مديحهم و هجائهم، و شكرهم و اعتذارهم، فيجعل «لكل مقام مقالاً، و لكل موقف خطاباً».

ثمّ إنّه قد تبيّن لك أن التعرّف على الفصاحة أمر ضروري في المقام، لما تقدّم من توقّف تحقّق البلاغة عليها.

الفصاحة لغة و اصطلاحا :

الفصاحة في اللغة لها استعمالات كثيرة، يجمعها معنى واحد، هو الظهور و الإبانة. قال تعالى: «وَ أَخِى هارُونَ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّى لِسَاناً»(1) (القصص:34) أي: أبين.

و في الاصطلاح يتّصف بها ثلاثة اُمور:

المفرد، و الكلام، و المتكلم.