المحاضرة الأولى: مدخل إلى المنطق

 

Iالحكم؛ الوحدة الأساسية للمعرفة:

في الفلسفة، كما في الفيزياء والكيمياء والرياضيات وعلم النفس والاجتماع والتاريخ وغيرها من العلوم، غايةُ العقل بلوغ المعرفة؛ فالإنسان بعد البحث أدرك مثلا في الفلسفة أنّ:

"الإنسان حر"، أو أنّ "الإنسان ليس حرا".

وأنّ "القيمة نسبية" مثلا، عند من يرى ذلك من الفلاسفة.

وعرف أنّ:

"الأرض كروية الشكل"، وأنّ "الهيدروجين غاز قابل للاشتعال"، وأنّ "المجموعة المنتهية قابلة للعد"، وأنّ "العدد الأصم ليس ناطقا"، وأنّ "س= 2"

وحكمَ الفقيهُ بعد الاجتهاد وإلحاق الفرع بالأصل أنّ: "الكوكايين حرام".

يُلاحظُ أولا: أنّه مثلما يقول القاضي في المحكمة أنّ "عمر بريء" وأنّ "زيد مُدان"، ونسمّي ذلك حكما؛ فإنّ العقل في العبارات المذكورة حكمَ.

ومثلما نعتبر "عمر" محكوما عليه، و"البراءة" محكوما بها؛ فكذلك:"الإنسان" مثلا في العبارة الأولى محكوم عليه، و"الحرية" محكوم بها.

ويُلاحظ ثانيا: أنّ لفظة "الإنسان" وحدها، أو "حرّ" بمفردها لا تفيد معرفة، بينما العبارة "الإنسان حر" تفيد خبرا وعلما. وحتّى عندما يتصوّر العقل معنى "الإنسان" بمفرده؛ فإنّه يتمثّل كائنا حيا عاقلا، وهذا حكم ضمني، بدليل أنّه مثلا لا يتصوّر أيّ معنى للفظ "خنشفار".

كما يلاحظ ثالثا أنّ العقل في الحكم إمّا يثبت شيئا لآخر، وإمّا ينفيه عنه.

وعليه مثلما الخلية هي الوحدةُ الأساسية التي ينحلّ إليها الجسم الحي، والذرة هي الوحدة الأساسية التي تتألّف منها المادة؛ فإنّ الحكم هو الوحدة الأساسية التي تنحل إليها المعرفة أيّا كان موضوعها، وهو أوّل أفعال العقل وأبسطها.

* تعريف الحكم (Jugement):  

                            «إسناد أمر إلى آخر إيجابا أو سلبا».[1]

II- طريقا المعرفة؛ الحدس والاستدلال:

         إذا كان ما سلف إجابة على السؤال: ممّ تتكوّن المعرفة؟ فإنّ التساؤل الذي يتبادر إلى الذهن، في غالب الأحيان: كيف عرف س من الفلاسفة أنّ الإنسان حر؟، وكيف أدرك الفقيه أنّ "الكوكايين حرام"؟، والرياضي أنّ س= 2"؟

         إذا تأملنا معارفنا؛ وجدناها تحصل بطريقين اثنين، ولننظر الأمثلة التالية أولّا:

 أ- إدراكنا للمعطيات الحسية مثل لون شيء ما أو رائحته، أو معرفة الشخص أنّه جائع.

ب- معرفتي لوجود نفسي وأحوالها (فرح، قلق، غضب)، وأفعالها (تفكير، تذكر، تخيل) .

ج- إدراك العقل للعلاقة السببية بين النار والإحراق إدراكا مباشرا، أو معرفته المباشرة لكون المساويان لثالث متساويين.

د- معرفة الفيلسوفين ديكارت و بوسوي مثلا لكون "الإنسان حر" بواسطة الإدراك المباشر، فنحن أحرار لأنّنا نشعر بذلك تبعا لهما.

ﻫ- معرفة أرخميدس للقانون المُسمّى بـ "دافعة أرخميدس" معرفة مباشرة عند دخوله المسبح، وإدراك نيوتن لـ "قانون الجاذبية" دفعة واحدة، وانتباه نيلز بور Niels Bohr لمكوّنات الذرة بنوع من الإلهام المفاجئ.        

          يتضح  أنّ هذه المعارف المذكورة مدركةً إدراكا مباشرا دون أيّة واسطة، إجمالية وفورية[2]، تحصل في الذهن دفعة واحدة، وهذا الطريق المباشر لحصول المعرفة هو ما يُسمّى: الحدس.

تعريف الحدس (Intuition)« سرعة انتقال الذهن من المبادئ إلى المطالب».[3] ويمكن أن نعرفه، تبعا لما ذكرناه بأنّه المعرفة الحاصلة في الذهن دفعة واحدة دون وسائط، أو دفعة واحدة.

وواضح أنّ الحدس أنواع متباينة باختلاف موضوع المعرفة؛ فهناك حدس حسي أو تجريبي (المثال أ)، وحدس نفسي (المثال ب)، وحدس عقلي ( المثال ج)، وحدس فلسفي (المثال د)، وحدس كشفي (المثال ﻫ).

* هذا، وإذا تأملنا ثانيا الأحكام مثل:

أ- "كل البجائيين أفارقة".

ب- "الماء المقطر يتألف من ذرتي هيدروجين وذرة أوكسجين"/ "كل المعادن تتمدد بالحرارة".

ج- "س= 2".

د- "الكوكايين حرام".

وجدنا العقل إنّما وصل إلى هذه المعارف بالاعتماد على معارف أخرى، واتّخذ هذه الأخيرة دليلا إلى الأولى:

أ- فلمّا ثبت لديه في المثال (أ) أنّ: كلّ الجزائريين أفارقة، وثبت أيضا أنّ كل البجائيين جزائريون؛ استنتج من هاتين المعرفتين: "كل البجائيين أفارقة". وبيّنُ أنّ هذه الحركة الذهنية التي استنتج فيها العقلُ صدق قضية أو كذبها على افتراض صدق أو كذب قضايا أخرى تتميّز بـ:

1- النتيجة تلزم عن المقدمات اضطرارا.

2- ليس في النتيجة علم زائد على المقدمات.

3- لا تصدق النتيجة ولا تكذب إلاّ على افتراض صدق المقدمات أو كذبها.

وتسمى هذه الحركة التي يتم الانتقال فيها من معقول إلى معقول آخر: الاستنتاج الصوري (Déduction formelle).  

ب- وفي المثال (ب): لما تأكّد بالتجربة (التحليل الكيميائي) أنّ العينة س، والعينة ع.... إلخ من الماء المقطر تنحلّ إلى ذرتي هيدروجين وذرة أوكسجين؛ تمّ استخلاص الحكم العام المذكور.

وكذلك الحال بالنسبة للحكم العام الثاني، فبعدما تحققنا بالملاحظة والتجربة أنّ عينة من الحديد، وأخرى من النحاس، وثالثة من الفضة تمدّدت بدرجة حرارة معينة؛ استخلصنا الحكم العام المذكور.

وهذه الحركة حيث يتمّ الانتقال من المعاني الجزئية إلى المعنى الكلي، أو من المحسوس إلى المعقول، تسمى: استقراء (Induction)

ج- وفي (ج) لمّا ثبت أنّ:

س + 8 = 10.

ولمّا كان ممّا هو بديهي للعقل أنّ طرح كمية ثابتة من طرفين متساويين لا يغير من تساويهما؛ تمّ طرح (8) من طرفي المعادلة هكذا:

س + 8 – 8 = 10 – 2.

ومنه: س= 2.

وتسمى هذا الحركة الذهنية التي يستخرج فيها العقل من مقدمات مركبة بسائط داخلة فيها: الاستنتاج التحليلي (Déduction analytique).

ويقابله في البرهنة الرياضية الاستنتاج التركيبي (Déduction synthétique) أو الإنشائي الذي تكون فيه النتيجة ليست داخلة في المقدمات، بل لازمة عنها وزائدة عليها.

د- ولمّا كان لدينا المعرفتان:

1/ كل مسكر حرام.

2/ الكوكايين مسكر

استدللنا بذلك على أن: "الكوكايين حرام". وهذه الحركة الفكرية التي أثبت فيها العقل حكما في أمر لثبوته في آخر لعلّة مشتركة بينهما تسمّى التمثيل (Analogie).

ومن البيّن أنّ هذا الطريق الثاني لبلوغ المعرفة بمختلف أنواعه المذكورة غير مباشر، متدرّج، وهو حركة فكرية يعتمد فيها العقل على وسائط للوصول إلى أحكام جديدة،[4] وهذا هو: الاستدلال.

تعريف الاستدلال:

« فعل ذهني مؤلف من أحكام متتابعة، إذا وضعت لزم عنها بذاتها حكم آخر غيرها »[5].

         من التحليل السالف يتبيّن أنّ المعرفة مجموعة أحكام يتمّ بلوغها بطريقين: مباشر وهو الحدس، وغير مباشر وهو الاستدلال. وإذا كنا نسلّم مع مذهب الحدسية (Intuitionnisme) بأنّ للحدس المكان الأول في تكوين المعرفة؛ فإنّه يتعيّن القول مع ديكارت (1596-1650م) أنّ «المبادئ الأولى (...) لا تمكن معرفتها إلاّ بالحدس، وعلى العكس من ذلك فإنّ النتائج البعيدة لا تمكن معرفتها إلاّ بالاستدلال»[6].

III- الاستدلال موضوع المنطق:

         موضوع المنطق عموما هو الاستدلال (Raisonnement)، لكن بالرجوع إلى الأمثلة السابقة؛ يتبيّن أنّ الاستدلال أنواع، ولا يهتمّ المنطق «من بين جميع هذه الأنواع من الاستدلال إلاّ بالاستنتاج. ولا ينظر في الأنواع الأخرى إلاّ من جهة صلتها بصورة الاستنتاج»،[7] فصلب المنطق إذن إنّما هو نظرية الاستنتاج الصوري، وعندما يُذكر في موضع ما من مباحثه الاستدلالُ؛ فالقصد هو الاستنتاج، دون الأنماط الأخرى.

 

مراجع للاستزادة:

1- جميل صليبا وكامل عياد، المنطق وطرائق العلم العامة، مطبعة الكشاف، بيروت، 1948م.

2- جميل صليبا، المنطق، مطبعة الترقي، دمشق، 1944م.

3- علي عبد المعطي محمد والسيد نفادي، المنطق وفلسفة العلوم، دار المعرفة الجامعية، الإسكندرية، 1988م.

4- بول موي، المنطق وفلسفة العلوم، ترجمة فؤاد زكريا، دار نهضة مصر، القاهرة، د ط، د ت.

5 - Renouvier. CH, Traité de logique générale et de logique formelle, Librairie Armand Colin, Paris, 1912.

 

 



- الجرجاني السيد الشريف، التعريفات، دار الطلائع، القاهرة، 2009م، ص: 96. [1]

- بلانشي روبير، الاستدلال، ترجمة محمود يعقوبي، دار الكتاب الحديث، القاهرة، الكويت، الجزائر، 2003، ص: 41. [2]

- الجرجاني السيد الشريف، التعريفات، ص: 87.[3]

- بلانشي روبير، الاستدلال، ص: 41و 43.[4]

- جميل صليبا، المعجم الفلسفي، ج 1، ص: 68.[5]

[6] - Descartes. R : Règles pour la direction de l’esprit. In Œuvres et lettres. N.R.F, Pléiade, Paris, 1958, p : 45.

- اليعقوبي محمود، دروس المنطق الصوري، ديوان المطبوعات الجامعية، الجزائر، ط 3، 2009، ص: 16[7]