المحاضرة السابعة: مبحث الاستدلال المباشر

 

         أشرنا سلفا أنّ تقسيم مباحث منطق الحدود يستند على تحليل عمل العقل وفق نظرة تقترب من الرؤية الترابطية في حصول المعرفة والأفكار في العقل، وأيا يكن فالعقل الذي أدرك حقيقة تصورين مفردين في مرحلة أولى، ثمّ ربط بينهما في المرحلة الثانية إما بنفي أحدهما عن الآخر وإما بإثباته له مؤلفا القضية، يعبر، ثالثا، عن حقيقة بحقيقة أخرى، فمثلا إذا تأكّد لديه أنّ: "كل الجزائريين أفارقة"، صحّ عنده أيضا أنّ: "بعض الأفارقة جزائريون."

وإذا انتبه إلى مابين القضيتين: "كل الجزائريين أفارقة"، و"كل الشلفيين جزائريون" من ترابط؛ استنتج قضية ثالثة مفادها أنّ: "كل الشلفيين أفارقة". وهذا الفعل الذهني سميناه في المحاضرة التمهيدية "الاستدلال"، وعرفناه بأنّه فعل ذهني مؤلف من أحكام متتابعة، إذا وضعت لزم عنها بذاتها حكم آخر غيرها، ووصفناه بأنّه هو الموضوع الرئيس للمنطق.

         يلاحظ هنا أنّ العقل في المثالين المذكورين انتقل من قضية إلى أخرى مباشرة في الحالة الأولى، ومن قضية إلى قضية بتوسط قضية أخرى بينهما في النموذج الثاني، ومعنى هذا أن الاستدلال إما مباشر، وإما غير مباشر.

الاستدلال المباشر:

الاستدلال، وبصورة أخص وأدق، الاستنتاج المباشر هو الفعل الذهني الذي ينتقل فيه العقل من قضية إلى قضية أخرى مباشرة دون توسط قضية ثالثة، ويعرفه جول تريكو بقوله:« هو استنتاج قضية من قضية موضوعة، دون المرور بتوسط حد أوسط وقضية ثالثة»[1]. وتنبغي الإشارة هنا أيضا إلى ما عرفه هذا المبحث من تطوّر، أمّا نحن فسنقف غالبا عند حدوده الأرسطية، حيث الحديث عن تقابل القضايا، وعكسها، وعكس النقيض، مع بعض الإضافات الضرورية.

هذا، ونحن في ذلك نميل إلى الرأي القائل بعدم اعتبار هذه العمليات العقلية استدلالات حقيقية، بقدر ما هي تعبير عن حقيقة واحدة بصورتين مختلفتين، ومع ذلك تمثل ما يسمى في المنطق المعاصر بـ: "القوانين الاستنتاجية" التي تساعد على البرهنة.

I - التقابل (Opposition): ضبط أرسطو تقابل القضايا في الكتب التالية: المقولات والعبارة والتحليلات الأولى عند الحديث عن القياس[2]، ويقال تقابل القضايا على القضيتين اللتين موضوعهما ومحمولهما واحد، وتختلفان إما في الكيف فقط، وإما في الكم فحسب، وإما في الكم والكيف معا.

ولأنّ القضايا الحملية أربع؛ فإنّ تقابلها يكون على أربع صور:

أ) فالمختلفتان من حيث الكيف صورتان:

* ك.م / A و ك.س/E، وتقابلهما: تضاد  (Contrariété)

* ج.م /I  و ج.س /O، وتقابلهما: دخول تحت التضاد (Subcontrarité)

ب) والمختلفتان من جهة الكم صورة واحدة:

بين ك.م/  A  و ج.م /I  . وبين ك.س/E  و ج.س /O. وهذا التقابل بين الكل والجزء: تداخل (Subalternation).

ج) والمختلفتان من حيث الكم والكيف صورة واحدة:

بين ك.م/ A و ج.س /O. وبين ك.س/E و ج.م /I.وهذا تناقض (Contradiction).

         ونشير في هذا المقام إلى أنّ أرسطو عرض بإسهاب للتناقض والتضاد في كتاب المقولات فضلا عن العبارة، وأشار مجرّد إشارة في المؤلف الثاني إلى القضيتين الداخلتين تحت التضاد، لكنه لا يذكر التداخل إطلاقا، ويبدو أنّ من ابتدعه فعل ذلك لأجل التناظر[3]، وبغية استكمال المربّع المعروف بمربع التقابل التالي، فلا يصح تسميته "المربع الأرسطي"[4] إذن.


قوانين تقابل القضايا:

هذا، وينظر في تقابل القضايا إلى حكم القضية الثانية انطلاقا من صدق أو كذب القضية الأولى المقابلة لها:

1) ففي التناقض: مادام هناك اختلاف في الكم والكيف معا؛ فإنّه إذا كانت القضية الأولى صادقة؛ كانت الثانية كاذبة بالضرورة. إذا كانت القضية الأولى كاذبة؛ كانت الثانية صادقة بالضرورة، أي:

ك.م (ص) ¬ ج.س (ك).                                          ك.س (ص) ¬ ج.م (ك)

ك.م (ك) ¬ ج.س (ص)                                           ك.س (ك) ¬ ج.م (ص)

ج.س (ص) ¬ ك.م (ك)                                           ج.م (ص) ¬ ك.س (ك)

ج.س (ك) ¬ ك.م (ص)                                           ج.م (ك) ¬ ك.س (ص)

قا/ القضيتان المتناقضتان لا تصدقان معا، ولا تكذبان معا.

 

2) وفي التضادلنلاحظ ما يلي:

الحالة الأولى عندما تكون الأولى صادقة:

كل إنسان فان (ص) ¬ لا إنسان فان (ك)

لا إنسان حجر (ص) ¬ كل إنسان حجر (ك)

الحالة الثانية عندما تكون الأولى كاذبة:

كل إنسان نبي (ك) ¬ لا إنسان نبي (ك)

كل إنسان خالد (ك) ¬ لا إنسان خالد (ص)

         يتضح أنّه إذا كانت القضية الأولى صادقة؛ كانت الثانية كاذبة بالضرورة. ولكن إذا كانت الأولى كاذبة؛ فإنه لا يمكننا أن نستنتج شيئا، أي أن الثانية قد تكون صادقة وقد تكون كاذبة، ولنصفها بأنها تكون "غير معروفة"، ونرمز لها بـ (؟).

قا/ القضيتان المتضادتان لا تصدقان معا، وقد تكذبان معا.

3) وفي الدخول تحت التضاد: لنلاحظ ما يلي:

الحالة الأولى عندما تكون الأولى صادقة:

بعض الثدييات طائر (ص) ¬ بعض الثدييات ليس طائرا (ص)

بعض الحيوان حساس (ص) ¬ بعض الحيوان ليس حساسا (ك)

الحالة الثانية عندما تكون الأولى كاذبة:

بعض الإنسان خالد (ك) ¬ بعض الإنسان ليس خالدا (ص)

         مهما ذكرنا من أمثلة نبدأ فيها بكذب الأولى، سواء كانت الجزئية الموجبة أو كانت الجزئية السالبة؛ فإن القضية الثانية تكون صادقة بالضرورة. ولكن يتضح أنّه إذا كانت القضية الأولى صادقة؛ فإن القضية الثانية تكون غير معروفة، أي أنه عكس التضاد:

قا/ القضيتان الداخلتان تحت التضاد لا تكذبان معا، وقد تصدقان معا.

3) وفي التداخل: لنلاحظ ما يلي:

أ- في حالة كون القضية الأولى هي القضية الكلية:

الحالة الأولى عندما تكون القضية الأولى كلية صادقة:

كل إنسان فان (ص) ¬ بعض الإنسان فان (ص)

لا إنسان حجر (ص) ¬ بعض الإنسان ليس حجرا (ص)

الحالة الثانية عندما تكون القضية الأولى  كلية كاذبة:

كل إنسان نبي (ك) ¬ بعض الإنسان نبي (ص)

كل إنسان حجر (ك) ¬ بعض الإنسان حجر (ك).

         من الواضح أنّه إذا كانت القضية الكلية صادقة؛ تكون القضية الجزئية المتداخلة معها صادقة بالضرورة، لأنّ ما يصدق على الكل يصدق على جميع أجزائه.

         ولكن في حالة كذب القضية الكلية؛ لا يمكننا أن نستنتج شيئا، فقد تكون القضية الجزئية صادقة وقد تكون كاذبة، لأن صفة ما إذا امتنع تعميمها على الكل؛ لا يلزم عنه امتناع اتصاف الجزء بها.

ب-  في حالة كون القضية الأولى هي القضية الجزئية:

الحالة الأولى عندما تكون القضية الأولى جزئية صادقة:

بعض الانسان كاتب (ص) ¬ كل إنسان كاتب (ك)

بعض الانسان فان (ص) ¬ كل إنسان فان (ص)

الحالة الثانية عندما تكون القضية الأولى جزئية كاذبة:

بعض الإنسان ليس فانيا (ك) ¬ لا إنسان فان (ك)

بعض الإنسان ليس حيوانا (ك) ¬ لا إنسان حيوان (ك)

         يلاحظ هنا خلافا للحالة أ أنّه إذا كانت القضية الجزئية صادقة؛ تكون القضية الكلية غير معروفة، لأن ما يصدق على البعض قد لا يصدق على الكل.

         بينما في حالة كذب القضية الجزئية، تكون القضية الكلية كاذبة بالضرورة، لأن ما يمتنع على الجزء لا يمكن اتصاف الكل به. ومنه:

قا/

* إذا صدق الكليات؛ تكون الجزئيات صادقة بالضرورة.

* إذا كذبت الكليات؛ تكون الجزئيات غير معروفة.

* إذا صدقت الجزئيات؛ تكون الكليات غير معروفة.

* إذا كذبت الجزئيات؛ تكون الكليات كاذبة بالضرورة.

ولنلخص ذلك في الجدول الآتي:

¬

ك.م

ك.س

ج.م

ج.س

ك.م (صادقة)

 

(كاذبة)

(صادقة)

(كاذبة)

ك.م (كاذبة)

 

(غير معروفة)

(غير معروفة)

(صادقة)

ك.س (صادقة)

(كاذبة)

 

(كاذبة)

(صادقة)

ك.س (كاذبة)

(غير معروفة)

 

(صادقة)

(غير معروفة)

ج.م (صادقة)

(غير معروفة)

(كاذبة)

 

(غير معروفة)

ج.م (كاذبة)

(كاذبة)

(صادقة)

 

(صادقة)

ج.س (صادقة)

(كاذبة)

(غير معروفة)

(غير معروفة)

 

ج.س (كاذبة)

(صادقة)

(كاذبة)

(صادقة)

 

 

II- العكس (Conversion):

         إنّ العكس المستوي الذي بحثه أرسطو بحثا وافيا في كتاب التحليلات الأولى،[5] استدلال مباشر يتمثل في استنتاج قضية من قضية أخرى تخالفها في وضع الطرفين، أي الموضوع والمحمول. ويعرفه ابن سينا بقوله: « العكس هو أن يجعل المحمول من القضية موضوعا، والموضوع محمولا مع حفظ الكيفية، وبقاء الصدق والكذب بحاله»،[6] وتسمى القضية الأولى "قضية أصلية"، أما الثانية الناتجة عن وضع أحد الطرفين موضع الآخر فتدعى "قضية معكوسة".

قواعد العكس

         في تعريف ابن سينا ما يشير إلى أنّ العكس ليس مجرد تحويل لموضع حدي القضية، بل  للعكس الصحيح قاعدتان:

أ) قاعدة الكيف: يجب أن تتحد القضيتان، الأصلية والمعكوسة، في الكيف (الإيجاب والسلب).

ب) قاعدة الاستغراق: لا يستغرق حد (الموضوع والمحمول) في القضية المعكوسة ما لم يكن مستغرقا في القضية الأصلية.

العكس المستوي للقضايا الحملية:

         انطلاقا من مفهوم العكس، وبتطبيق القاعدتين المذكورتين، يتبيّن أنّ:

1- عكس القضية الكلية السالبة: "لا حيوان جماد" هو القضية الكلية السالبة: "لا جماد حيوان"، أي (ك.س) تعكس إلى نفسها (ك.س). وهذا عكس مستوي تام.

2- وعكس القضية الكلية الموجبة: "كل الجزائريين أفارقة" هو القضية الجزئية الموجبة: "بعض الأفارقة جزائريون"، أي عكس (ك.م) هو (ج.م). وهذا العكس الذي نغير فيه كمّ القضية الأصلية يسمى: عكس مستوي ناقص، أو عكس بالعرض.

3- وعكس القضية الجزئية الموجبة: "بعض الجزائريين أطباء" هو القضية الجزئية الموجبة: "بعض الأطباء جزائريون"، أي (ج.م) تعكس إلى نفسها (ج.م). وهذا عكس مستوي تام.

4- أما القضية الجزئية السالبة: "بعض الحيوان ليس إنسانا"، فلا يمكن عكسها إلى إحدى الموجبتين لمخالفته لقاعدة الكيف، وإذا تم عكسها إلى نفسها، أي (ج.س)، أو إلى الكلية السالبة؛ فإن الحد "حيوان" سيصير مستغرقا ولم يكن كذلك في القضية الأصلية، وهذا مخالف لقاعدة الاستغراق، ومنه فالقضية (ج.س) لا تنعكس عند أرسطو. 

 

 

القضية الأصلية

القضية المعكوسة

نوع العكس

ك.م /  A

ج.م /I

عكس مستوي ناقص

ك.س/E

ك.س/E

عكس مستوي تام

ج.م /I

ج.م /I

عكس مستوي تام

ج.س /O

لا عكس لها

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 



- تريكو جول، المنطق الصوري، ص: 187.[1]

[2] - Aristote, Catégories, Trad. Jules Tricot, J. Vrin,  Paris, 2008, 10. / De l’interprétation, 7. 9.10. 12/ Premiers analytiques, L1. 1 .5

- تريكو جول، المنطق الصوري، ص: 191.[3]

[4] - أول من استكمل علاقات التقابل ومثلها في شكل مربع المنطقي الجزائري أبوليوس الماضوري في القرن الأول ميلادي، (بلانشي روبير، المنطق وتاريخه، ص: 128/129).

[5] - Aristote,  Premiers analytiques, L 1. 2.3.

- ابن سينا، الإشارات والتنبيهات، المنطق،  ص: 368.[6]