المحاضرة السادسة: مبحث التصديقات / القضايا

 

من الحكم إلى القضية:

         لنفرض أنّ (س) من الناس يجهل معنى التصورات التالية: "إنسان"، "خالد"، "فان".

وبعد مراعاة شروط التعريف الموصل إلى المطلوب التصوّري؛ أدرك حقيقة كل تصوّر إدراكا مفردا على حدا، وصار بإمكانه  تمثّل معنى كل حدّ، أي أنّه تصوّر، وحصلت صورة:

* "إنسان".

* "خالد".

* "فان" في ذهنه فقط دون نفي أو إثبات.

         لكن العقل لا يقتصر على إدراك حقائق الأشياء مفردة، بل ينتبه لما بينها من علاقات، فانطلاقا من التصورات السالفة الذكر مثلا، يدرك العقل أنّ:

أ‌)       الانسان فان.

ب‌)   الانسان ليس خالدا.

يتبيّن من هذا أنّ العقل لم يبق في مستوى التصوّر البسيط، وإنّما انتقل إلى خطوة ثانية حيث أوجد صلة بين تصورين مفردين، وهذا هو التصديق، أي حكم العقل بين تصورين بأنّ أحدهما الآخر أو ليس الآخر.

يلزم عن هذا أنّ الحكم (Jugement) الذي تنحل إليه معارفنا، والذي عرفناه وعرّفناه في المحاضرة التمهيدية الأولى، يتمّ على مستوى الذهن، فإذا ما تحدثنا به أو كتبناه بحيث يدركه غيرنا، وذلك بواسطة اللغة؛ صار "قضية" (Propositionوإذا كان الحكم فعلا ذهنيا؛ فإنّ القضية هي العبارة، أو الصيغة اللفظية التي تعبر عن الحكم، ولنمثّل لهذا وما سلف بالآتي:

تصور + تصور = حكم                      (على مستوى الذهن).

 


حد  +  حد =  قضية                       (على مستوى اللغة).

 

القضية عند أرسطو:

لقد نجح أرسطو في حلّ مشكلة الحمل، والتي تتمثّل في مسألة تداخل الماهيات الناجمة عن تحليل الحكم إلى موضوع ومحمول كليين، وهي مشكلة تولّدت عن عبارة بارمينيدس الإيلي الشهيرة  "الوجود موجود واللاوجود غير موجود"، ثمّ أثارها من السفسطائيين ليقوفرون Lycophron (نهاية القرن 4 ق.م)، ومن الميغاريين أمثال إقليدس الميغاري (450-380 ق.م) وديودور كرونوس Diodore Kronos (القرن 4 ق.م) وأوبوليد Eubulide (القرن 4 ق.م)، ومن المدرسة الكلبية زعيمها أنتستانس Antisthène (445-365 ق.م)؛ فإذا كان سقراط جميلا، فهل هو حاصل على الجمال كله أو بعضه؟ فإن كان كله فكيف يكون غيره جميلا، وإن كان بعضه فكيف يوصف بالجمال كله؟[1] والحاصل من ذلك تعذّر الحمل، وبالتالي تعليق الحكم.

بيّن المعلم الأول، تتويجا لمحاولات أفلاطون، أنّه لا يصح القول مثلا: "الإنسان لا إنسان"، وفي المقابل يصح أن نقول: "الانسان كاتب" لأن وجود الانسان وجود جوهري، أما وجود الكتابة فعرضي، ومنه يجوز حمل أشياء على شيء شريطة أن لا تكون متناقضة فيما بينها، أو مناقضة لذلك الشيء.

وأرسطو الذي كان له الفضل في حلّ مشكلة الحمل حلاّ منطقيا، هو الذي نجح لأول مرة في التاريخ في وضع نظرية القضية، هذه الأخيرة التي خصّص لها كتاب العبارة، حيث فصل القول فيها، مبيّنا حدودها وكمها وكيفها وأنواعها. وعرض لها في التحليلات الأولى من حيث هي مقدمة لقياس، إذ هذا الأخير هو استنتاج قضية تسمى نتيجة، من قضية أو أكثر تسمى مقدمة أو مقدمات مثلما سنرى لا حقا.

تعريف القضية:

         بعد تعريف الاسم، وبيان الاسم البسيط والمركب والكلمة في مستهل كتاب العبارة، انتقل أرسطو إلى بيان "القول"، ويهمنا من ذلك أنّ العبارات التالية أقوال:

1)     راجع درسك.

2)     لا تنه عن خلق وتأتي بمثله.

3)     ما هو المنطق؟.

4)     آمين (يا رب استجب)

5)     ليت الشباب يعود يوما.

6)     ما أجمل زرقة السماء.

7)     أقسم بالله أن أقول الحق.

وكذلك العبارات التالية:

1)    الإنسان فان.

2)    الإنسان جماد.

يلاحظ أنّ المجموعة الأولى من الأقوال لا يمكن أنْ يُقال لقائلها إنّه صادق فيما قاله أو كاذب، فهي جمل إنشائية تفيد: الأمر والنهي والاستفهام والدعاء والتمني والتعجب والقسم على الترتيب.

بينما القولان في المجموعة الثانية يحتملان الصدق والكذب، فيقال لقائل الجملة الأولى إنّه صادق، ولقائل الثانية إنه كاذب. وهذا النوع الثاني من العبارات هو المُسمى بـ :القول الجازم، أو الجمل الخبرية، هو موضوع المنطق كما قرّر أرسطو، أمّا الجمل الإنشائية فموضوع الخطابة والشعر (ريطوريقا وبيوطيقا).

وهكذا، خلص أرسطو إلى أنّه ليس كلّ قول جازم، «وإنّما الجازم القول الذي وجد فيه الصدق أو الكذب»[2]، ومعنى هذا أنّ المنطق لا يهتم إلاّ بالخبر، وأنّ القضية المنطقية هي التركيب الخبري الذي يصحّ أنْ يُوصف بالصدق والكذب.

ويعرف القضية في كتاب التحليلات الأولى بالقول: «قول موجب شيئا لشيء أو سالب شيئا عن شيء».[3]

أقسام القضية الحملية (Proposition attributive/ prédicative):

بعد أن بيّن أرسطو ما القضية المنطقية، بحث في القضايا من حيث الكيف، فقسّمها إلى:

أ) قضايا موجبة (Affirmatives).

ب) وأخرى سالبة (Négatives).

 موضّحا أن الإيجاب هو «الحكم بشيء على شيء، والسلب هو الحكم بنفي شيء عن شيء».[4]  

كما أنّه نظر في القضايا من جهة كمّ الموضوع، فقسّمها حينئذ إلى أربع:

 قضايا شخصية (Singulières) مثل قولنا:(كالياس أبيض)[5] ،

قضايا كلية (Universelles).

قضايا جزئية (Particulières).

وقضايا مهملة (Indéfinies).[6]

         هذا، وإذا كان المعلم الأول يعني « بالكلّ ما قيل على كل الشيء أو لم يقل على واحد منه، والجزئي ما قيل على بعض الشيء أو لم يقل على بعضه »[7]، فإنّ القضايا المهملة هي تلك التي لا يقترن موضوعها بما يدلّ على الكم، مثل قولنا: "إنّ علم الأضداد واحد"، وقولنا: "إنّ اللذة ليست خيرا".

 ومن حيث أنّ المنطقيين، فيما يتعلّقُ بالقضية الشخصية، « في أعقاب أرسطو وبوجه عام قد اتفقوا على إلحاقها بالقضية الكلية، فالموضوعُ في كلا الحالين مستعمل بكلّ ماصدقه »[8]؛ فإنّ أرسطو الذي يؤكد أنّ « كل برهان وكل قياس(...) إمّا أن يكون كليا أو جزئيا»[9]، ينتهي إلى أربعة أنواع من القضايا تسمى المحصورات أو المسورة (Quantifiée) هي المعتبرة في بناء القياس:

1- القضية الكلية الموجبة (Proposition universelle affirmative) ك.م – A؛ وهي التي تحكم بثبوت صفة لجميع أفراد الموضوع، مثل قولنا: (كل إنسان فان).

2- القضية الكلية السالبة (Proposition universelle négative) ك.س E؛ وهي التي تحكم بسلب صفة عن كلّ أفراد الموضوع، مثل قولنا: ( لا إنسان خالد).

3- القضية الجزئية الموجبة (Proposition particulière affirmative) ج.م –I؛ وهي التي تحكم بثبوت صفة لبعض أفراد الموضوع، مثل قولنا: (بعض الإنسان فان).

4- القضية الجزئية السالبة (Proposition particulière négative ) ج.س-O؛ وهي التي تحكم بنفي صفة عن بعض أفراد الموضوع، مثل قولنا: (بعض الإنسان ليس خالدا).

ملاحظة:

 إنّ حروف العلة Voyelles الأربعة: A، E،  I، O من وضع المنطقيين الأوربيين في العصر الوسيط لأجل الاختصار[10]، ولها فوائد جمّة ستتبيّن في القياس ومسائله لاحقا، وهي ليست موضوعة اعتباطا، بل A و I اللتين تشيران إلى الكلية الموجبة والجزئية الموجبة، والكل مقدم على الجزء، من الكلمة اللاتينية: AFIRMO التي تعني : أثبت أو أوجب.

والحرفان E و O الدالان على الكلية السالبة والجزئية السالبة من الكلمة: NEGO التي تعني : أنفي أو أسلب.

تحليل القضية:

         يتضح ممّا سلف أنّ القضية تتألّف مما يلي:       

1- الموضوع (Sujet): وهو الشيء المتحدّثُ عنه والمحكوم عليه، أو هو كما عرّفه ابن سينا: «الذي يحكم عليه بأنّ شيئا آخر موجود له أو ليس بموجود له».[11]

2- المحمول (Prédicat): يعرفه ابن سينا قائلا: «والمحمول هو المحكوم به أنّه موجود أو ليس بموجود لشيء آخر»،[12] وبتعبير آخر المحمول هو نحمله على الشيء المتحدّث عنه ونقوله عنه، فهو إذن المتحدّث به.

3- الرابطة (Copule): اللفظ الدال على النسبة الذي يربط المحمول بالموضوع، من هنا سُمي ذلك اللفظُ رابطة، وهو ظاهر في  اللغات الهندية الأوربية، مثاله في اللغة اليونانية "أستين"، وفي الفارسية "هست"، وفي الفرنسية "est"، و الإنجليزية "is"، وخلافا لذلك إنّ فعل الكينونة «يحذف في لغة العرب أصلا » كما يقول ابن سينا[13]، فالقضية الثنائية، بغض الطرف عن السور، في العربية " كل إنسان فان"، هي في الفرنسية ثلاثية: Tout homme est mortel.

4- السور/ اللفظ الحاصر (Quantificateur): اللفظ الدال على كميّة أفراد الموضوع، والجدير بالذكر أنّ أرسطو نظر في القضية من جهة الكم والكيف دون أن يشير إلى اللفظ الدال على كم الموضوع، وهو المسمى 'السور". وفي حدود علمنا إنّ أبا نصر الفارابي هو أوّل من أشار إلى ذلك بوضوح، وسمى اللفظ الحاصر سورا عندما ذكر أنّ  «المحصورةَ بالأسوار هي التي يُقرنُ بموضوع كلّ واحدة منها سورٌ، وهو اللفظُ الذي يدلّ على أنّ المحمولَ حُكم به على بعض الموضوع أو كلّه، والأسوار أربعة: كل ولا واحد وبعض وليس كل».[14] وواضح من كلام المعلم الثاني أنّ أسوار القضايا الحملية المحصورة أو المسوّرة هي:

كل: للقضية الكلية الموجبة.

لا/ لا واحد: للكلية السالبة

بعض: للجزئية الموجبة.

ليس بعض: للجزئية السالبة.

ويُلاحظ في هذا المستوى أنّ أرسطو اهتم بكمّ الموضوع ولم يشر إلى كمّ المحمول، فأعتبر الأول ماصدقيا والثاني مفهوميا، ذلك لأنّ الأصل في القضية الحملية عنده هو أنهـا قول يحمل صفة على موصـوف، فالقضيـة (كل إنسان فان) معناها إنّ كل فرد من أفراد الإنسان موصوف بصفة الفناء؛ وعليه فالمعتبر في تحديد كمّ كمُّ الموضوع مع إغفال كمّ المحمول، إذ السور(كل، لا واحد، بعض، ليس بعض أوليس كل) في الأصل إنّما هو معدود في جانب الموضوع. وبعد هذه التوضيحات بإمكاننا الحديث عن أجزاء القضية عند أرسطو. وفيما يلي مثال جامع لأجزاء القضية في اللسان العربي ومقارنته باللغة الفرنسية:

أجزاء القضية

سور

موضوع

رابطة

محمول

العربية

كل

إنسان

 

فان

الفرنسية

Tout

homme

est

mortel

 

القضية الموجهة (Proposition modale):

         عندما نقول:

                       "الانسان حيوان"

ونقول:

               "الانسان كاتب"

ونتأمل الفرق العميق بين القضيتين بعيدا عن ظاهرهما؛ ندرك أنّ المحمول "حيوان" الذي تحدّثنا به عن الموضوع "إنسان" في القضية الأولى صفة أساسية جوهرية (راجع الكليات الخمس)، بينما في القضية الثانية المحمول "كاتب" صفة ثانوية غير ذاتية، وبالتالي فنسبة المحمول إلى الموضوع في القضيتين ليست في درجة واحدة، ولو تساءلنا: هل من الضروري أن يكون الإنسان كاتبا؟ فلا شك أن الجواب سيكون: من الممكن أن يكون ومن الممكن أن لا يكون.

ولكن في المقابل تلك الاحتمالية فيما يخص صفة الكتابة لا تصدق بالنسبة إلى صفة الحيوانية، إذ من الضروري أن يكون الانسان حيوانا كما هو معلوم، وهكذا لأجل مزيد من الدقة في بيان كيفية نسبة المحمول إلى الموضوع نقول:

أ) من الضروري أن يكون الإنسان حيوانا.

وواضح من هذا أنّه: من المستحيل أن يكون الإنسان جمادا.

ب) من الممكن أن يكون الإنسان كاتبا.

         يسمى هذان اللفظان "الجهة". وفي مقابل القضايا المطلقة، تسمى القضية التي دخل عليها لفظ الجهة "القضية الموجهة"، هذه الأخيرة عالجها أرسطو في كتاب "العبارة" وكتاب "التحليلات الأولى[15]، وبحث الأقيسة المؤلفة منها في كتاب "التحليلات الأولى"[16]، والاثنان يكونان ما يدعى "المنطق الموجه" الذي يتميز بدرجة ملحوظة من الصعوبة جعلت المنطقيين يصفونه بـ: "محنة المنطقيين"[17].

هذا، وإذا كان فيما ذكرنا ما يستخلص منه أنّ الجهة هي «اللفظ الدال على كيفية نسبة المحمول إلى الموضوع، إيجابية كانت أو سلبية»[18]، فإنه تجدر الإشارة إلى أن المنطق الموجه ذلك عرف نقاشات طوال تاريخ المنطق، وإضافات وتفصيلات لا يسمح المقام بذكرها، ولنكتفي بهذا، ونلخص أقسام القضية عند أرسطو في الجدول التالي:

 

 

 

 

 

 

قضية مطلقة

شخصية

موجبة

كالياس أبيض

سالبة

كالياس ليس أبيضا

مهملة

موجبة

علم الأضداد واحد

سالبة

اللذة ليست خيرا

محصورات

ك.م/ A

كل إنسان فان

ك.س/ E

لا إنسان خالد

ج.م/ I

بعض الإنسان فان

ج.س/ O

بعض الإنسان ليس خالدا

قضية موجهة

جهة الضرورة

موجبة

من الضروري أن يكون كل إنسان حساسا

سالبة

من الضروري أن لا يكون أي إنسان جمادا

جهة الإمكان

موجبة

من الممكن أن يكون الانسان كاتبا

سالبة

من الممكن أن لا يكون أي إنسان كاتبا

 

ملاحظات:

1) تحدث أرسطو في كتاب العبارة[19] أيضا عن قضايا يكون السلب جزءا من محمولها، أي حيث يدخل النفي على المحمول مثل: "هذا السلوك لاإنساني"، وتسمى العبارة حينئذ: قضية معدولة، أما إذا لم يكن السلب جزءا من المحمول مثل "ليس هذا السلوك إنسانيا" فهي: قضية محصلة.

         2) ولأن القضية المهملة موضوعها كلي، ولكن لم يُبيّن فيه أن الحكم في كله أو بعضه، فمعنى ذلك أن دلالتها كلية. وكذلك الحال بالنسبة للقضية الشخصية مثلما أشرنا، فأرسطو رغم بعض الإشارات التي توحي بأنه يدرك الفرق بين القضية الكلية والقضية الشخصية، إلا أنه رد الثانية إلى الأولى واعتبرهما من صورة منطقية واحدة، إذ في القضية الشخصية يكون الحكم بصيغة الكل لأن الحمل متعلق بكل أفراد الموضوع. ومهما يكن فإن القضية الشخصية التي موضوعها الفرد لا شأن لها بالبرهان، ولا يُعتد بها في العلم خلافا للمحصورات الأربع المعتبرة، ولذلك لا يذكر تلك القضية التي موضوعها اسم علم وتخصّ شخصا واحدا بعينه في القياس، ومعنى هذا أن أرسطو لا يقبل الحد الفردي، وإن كان قد أشار إلى القضية الشخصية في كتاب العبارة.

         3) وإذا علمنا، من جهة أخرى، أنّ جميع الأفعال تُرد إلى فعل الوجود (أستين = être)؛ تبين لنا أن الرابطة في القضية الحملية لم تقتصر وظيفتها على مجرد الربط بين المحمول والموضوع فقط، بل إنها جمعت بين جنس ونوع، وبذلك اختلط معنى الحمل المطلق بفكرة الوجود، فالموضوع مندرج في المحمول اندراج النوع في الجنس، وهو ما يعبر عنه بالقول: «إن كل قضية هي قضية إندراجية أو وجودية »[20]. وبناء على ذلك كان منطق أرسطو منطق حدود تعبر عن تصورات كلية أساسها التجريد، ووقف الأمر عنده عند علاقة التضمن دون غيرها من العلاقات الكثيرة.

         4) من المهم أن نذكرّ أنّه رغم أنّ القضية الحملية تتصف بالكثرة، وذلك من جهة كونها تحتوي على موضوع ومحمول ورابطة، إلاّ أنّ أرسطو يبرز وِحدة القضية وعدم قابليتها للتجزئة[21]، فما يسمى موضوعا ليس قضية بمفرده، وكذلك حال المحمول، ولا يوصف أحدهما بالصدق أو الكذب، بل القضية الواحدة الناجمة من ترابطهما. وهذه القضية من جهة ثانية ذات دلالة كلية وذلك لأنّ  القضية الجزئية وإنْ كان الحكمُ فيها على بعض الموضوع؛ فإنّ هذا الأخير حدّ كُلّي، وذلك الذي أشار إليه أبو البركات البغدادي بدقّة عندما ذكر  «وتُسمّى القضية التي هي كذلك جزئية أي جزئية الحكم لاختصاص حكمها ببعض من الموضوع وإنْ كان الموضوع في نفسه كليا».[22]

الاستغراق في القضية الحملية:

         القضية الحملية تتضمّنُ حكما بالثبوت أو السلب كما رأينا، وهي تتألّف من حدين؛ موضوع ومحمول.

لننظر إلى الموضوع والمحمول نظرة ماصدقية، أي من زاوية الأفراد المندرجين في كليهما، وبتعبير آخر نفرض أنّ كلا الحدين مجموعة مؤلفة من عناصر بالمفهوم الرياضي، ونبحث إن كان الحكم بالثبوت أو الإيجاب، وبالنفي أو السلب يشمل جميع أفراد ماصدق الحد (موضوع ومحمول)، أو كلّ عناصر المجموعة، وفي هذه الحالة نقول أن الحكم انطبق على جميع أفراد الحد أو عناصر المجموعة، وبالتالي فهو مستغرق. أمّا إذا كان الحكم إيجابا وسلبا مقصورا على بعض عناصر المجموعة؛ فالحد غير مستغرق.

تعريف الاستغراق (Absorption):

         لغة: هو الشمول. أما اصطلاحا، فالمقصود به في المنطق التقليدي شمول الحد لجميع الأفراد بحيث لا يخرج منهم واحد. أو «هو اندراج جميع ماصدقات الحدود ودخولها تحت الحكم الذي به نحكم في القضية».[23]

الاستغراق في القضايا الحملية:

1- في القضية الكلية الموجبة – ك.م / A

         لتكن القضية: كل الجزائريين أفارقة.

أ) من الواضح أن الحكم هنا بإثبات المحمول أو الصفة إفريقي شمل جميع أفراد الموضوع "جزائري"، فلم يستثن منهم أحدا، ومنه فالموضوع مستغرق.

ب) لكن الحكم لم ينطبق على جميع عناصر المحمول "أفريقي"، بل تحدث عن البعض فقط ممن هم جزائريون، وهناك أفارقة غير جزائريين لم ينطبق عليهم الحكم، وعليه فالمحمول غير مستغرق.

2- في القضية الكلية السالبة – ك.س / E

         ولتكن القضية: لا جزائري فرنسي.

أ) الحكم كما هو واضح وقع على كل فرد من أفراد الموضوع "جزائري" بالسلب، أي على أنّه ليس بفرد من أفراد المحمول، وبالتالي فالحكم بالنفي انطبق على جميع عناصره، لذا فالمحمول مستغرق.

ب) والأمر ذاته بالنسبة لجميع أفراد المحمول "فرنسي"، فلا عنصر منهم يتصف بالموضوع، وماصدق المحمول مبعد تماما عن الموضوع، ومنه فالمحمول مستغرق أيضا.

3- في القضية الجزئية الموجبة – ج.م/ I

         ولتكن القضية التالية: بعض الجزائريين أطباء

أ) الحكم بالإثبات كما هو ملاحظ لم يقع على جميع أفراد الموضوع "جزائري"، وإنّما اقتصر على البعض أو جزء غير معين من الجزائريين الذين هم أطباء دون غيرهم، ومنه فالموضوع غير مستغرق.

ب) وبالمثل لا ينطبق الحكم على جميع ماصدق المحمول، فهنا لم يشمل الحكم جميع عناصر المجموعة أطباء، بل اقتصر فقط على البعض منهم ممن هم جزائريون، أي يتصف بهم بعض أفراد الموضوع، وبالتالي فالمحمول غير مستغرق كذلك.

4- في القضية الجزئية السالبة – ج.س/ O

         ولتكن القضية: بعض الحيوان ليس إنسانا.

نعلم أن ماصدق الحيوان (جنس) أوسع من ماصدق الانسان (نوع)، وأن الحيوان = نوع الانسان (العاقل) + أنواع أخرى (غير العاقلة).

بعض الحيوان = غير العاقل في هذه القضية أعلاه. ومنه:

أ) الحكم بالنفي لم ينطبق على جميع ماصدق الموضوع (حيوان)، بل اقتصر على (البعض) غير العاقل بإبعاده عن المحمول إنسان، وبالتالي فالموضوع غير مستغرق.

ب) ولكن في المقابل شمل الحكم جميع أفراد المحمول "إنسان" بإبعادهم تماما عن بعض الموضوع، أي لا واحد من أفراد النوع إنسان هو من أفراد الأنواع غير العاقلة، ومنه فالمحمول مستغرق.

         ولنلخص ذلك في الجدول الآتي:

 

 

القضية

موضوعها

محمولها

القضية الكلية الموجبة

مستغرق (+)

غير مستغرق (-)

القضية الكلية السالبة

مستغرق (+)

مستغرق (+)

القضية الجزئية الموجبة

غير مستغرق (-)

غير مستغرق (-)

القضية الجزئية السالبة

غير مستغرق (-)

مستغرق (+)

         إذا تأملنا الجدول نلاحظ:

1/ من حيث الكم: الكليات تستغرق موضوعها.

2/ من حيث الكيف: السوالب تستغرق محمولها.

ومن الواضح تبعا لـ (1) أنّ الجزئيتين لا تستغرقان موضوعهما. وبناء على (2) أن الموجبتين لا تستغرقان محمولهما. وليُحفظ هذا لأجل الحاجة الماسة إليه فيما نحن مقبلون عليه، ذلك لأنّ مبحث الاستدلال يبنى على قواعد الاستغراق وغيرها.

 



[1] - يوسف كرم، تاريخ الفلسفة اليونانية، ص:45 و59.

[2] - Aristote, De l’interprétation, 4. P: 84.

[3]- Aristote, Premiers analytiques, L1. Chap.1. P : 16.

[4] - Aristote, De l’interprétation, 6. P: 86.

[5] - Ibid. 7. P:87.

[6] - Aristote, Premiers analytiques, L1. Chap.1. P : 17.

[7] - Ibid.  L1. Chap.1. P : 17.

 

 تريكو جول، المنطق الصوري، ص: 138. - [8]

[9] - Aristote, Premiers analytiques, L1. Chap.23. P : 139-140.

- جول تريكو، المنطق الصوري، ص: 150.[10]

- ابن سينا، كتاب النجاة، تحقيق ماجد فخري، دار الآفاق، بيروت، د ط، د ت، ص: 51-52.[11]

- المرجع نفسه، ص: 51.[12]

[13] - ابن سينا، الإشارات والتنبيهات، المنطق، ص: 285.

[14]- الفارابي أبو نصر، كتاب القياس، ضمن: المنطق عند الفارابي، تحقيق رفيق العجم، دار المشرق، بيروت، 1986م.

  ص: 13-14.

[15]-  Aristote, De l’interprétation, 9. 12. 13. Et  Premiers analytiques, L1. Chap. 3/13.

[16] - Premiers analytiques, L1. Chap. 8 à 22.

- تريكو جول، المنطق الصوري، 163 (الهامش).[17]

- صليبا جميل، المعجم الفلسفي، ج ص: 420.[18]

[19]-  Aristote, De l’interprétation, Chap. 10.

[20] - تريكو جول، المنطق الصوري ،ص: 131.

[21] -Aristote, De l’interprétation, 8, P 93.  Et voir:                                                                

تريكو جول، المنطق الصوري، ص: 128.

[22]- البغدادي أبو البركات، المعتبر في الحكمة، جمعية دائرة المعارف العثمانية، حيدر آباد، ط1، 1357ﻫ ص: 75. وانظر: الإيجي قطب الدين الصفوي، شرح كتاب غرة المنطق للجرجاني، حققه ألبير نصري نادر، دار المشرق، بيروت، لبنان، 1983م. ص: 163.

- إسلام عزمي، الاستدلال الصوري، مطبوعات جامعة الكويت، د ط، 1971، الجزء الأول، ص: 18.[23]