·         فلسفة الفيزياء: ( الكلاسيكية نيوتن، النسبية انشتاين، الكوانتم ماكس بلانك

مثلما وجدنا الحال في الرياضيات في المحاضرات السابقة، أصاب العلم وخاصة الفيزياء مع انتهاء القرن التاسع عشر تحولاً عميقا، واكتسى هذا التحول طابعا ثوريا، زعزع العلم الكلاسيكي القديم في أركانه وأسسه، فقد أدى هذا التحول إلى انهيار شبه كلِّي للفيزياء النيوتينية. هذه الفيزياء الذي أصبح يُنظر إليها على أنها أصبحت عاجزة عن استيعاب الواقع العلمي الجديد، ولم تعد قادرة على التكيف ومسايرة الواقع الفيزيائي الجديد.

فلقد كان ينظر إلى فيزياء (نيوتن) حتى القرن التاسع عشر- على أنها العلم الذي يعكس الصورة الدقيقة للعالم الفيزيائي، وأنها أصدق علم فسَّر الواقع المادي تفسيرا موضوعيا. فقد كان يُظن أنها أبدية وتمثل الصدق المطلق.

  لقد ارتكزت الفيزياء الكلاسيكية منذ نشأتها مع (غاليلي) على جملة من المفاهيم التي استوحيت في غالب الأحيان من الحدس الحسِّي والقياس البشري العادي. والتي تصلح في غالب الأحيان في ميدان العالم الماكروسكوبي، أي الظواهر في المقياس البشري والمستوى الإنساني، والتي يمكن إدراكها بالحواس أو بالآلات، والتي تساعد على تحويل الظواهر المعنية بالدراسة إلى نتائج تجريبية واضحة وضوحا يمكن معه التعبير عنها تعبيرا كميا يتوخى الدقة والضبط. والخصائص الرئيسية التي انطبعت بها الفيزياء الكلاسيكية من جراء ارتباطها بالظواهر المدروسة في المستوى الإنساني، هي الاتصال، ويقصد بذلك أن الفيزياء الكلاسيكية تعتبر المكان متصلا يمتد ويسترسل، فهو مكان إقليدي متجانس ومتكافئ الاتجاهات ومستقل عن الزمان الذي له نفس الصفات الاتصالية، فهو بدوره متجانس  ومتكافئ الاتجاهات،  ويجري جريانا منظما، والحركة التي تهتم بدراستها الميكانيكا تحدث داخل هذين الإطارين، ذلك أن أي جسم متحرك يوجد في كل لحظة في زمان، وفي نقطة معينة من المكان، و يشغل حيزا منه.

  وينتج عن هذا أنه إذا كنّا نعرف حالة جسم ما في لحظة معينة واستطعنا تحديد هذا الجسم تحديدا دقيقا في الزمان، أمكننا تحديد أو تعيبين حالته في جميع لحظات الزمان الأخرى تعيينا دقيقا ومضبوطا.

 فالفيزياء الكلاسيكية كانت تقوم على أن هناك حتمية مطلقة تخضع لها كل الظواهر، فالاعتقاد بمبدأ الحتمية من الركائز الأساسية التي يقوم عليها النظام الميكانيكي الذي يسود عالم الفيزياء، بل ضروري لتبرير توقعاتنا و ضمان صدق معارفنا. والاعتقاد بمبدأ الحتمية يعني أن الظواهر تخضع في أطرادها لنظام محكم لا تحيد عنه، بمعنى أن ظاهرة ما لا تحدث إلاّ إذا توافرت شروط بعينها، كما أنه من المستحيل أن تحدث هذه الظاهرة إذا لم تتحقق هذه الشروط. وينحصر دور العلماء في اكتشاف تلك النظم ذات الطبيعة العلمية المحدودة، التي تجرى حوادث الطبيعة طبقا لها،  والكشف عن هذه النظم هو بمثابة الكشف عن القوانين التي تحكم الطبيعة، وقد عبر عن ذلك (لابلاس) بقوله: " يجب أن ننظر إلى الحالة الراهنة للكون نتيجة لحالته السابقة وكسبب لحالته اللاَّحقة، فلو أن عقلا يمكنه أن يعرف في لحظة من اللحظات جميع القوى التي تحرك الطبيعة... فإنه سيكون قادرا على أن يضم في عبارة رياضية حركة أكبر الأجسام في الكون وحركات أصغر وأدق الذرات".

ومن الأسس النظرية التي قامت عليها الفيزياء الكلاسيكية؛ القول بالموضوعية، فالباحث يكون موضوعيا بقدر ما يعكس الظاهرة المدروسة كما هي عليه في الواقع. فنقطة البداية في العلم هي الواقع، لذا كانت الموضوعية تقتضي الواقعية وتقوم عليها، فنتائج العلم هي صورة لما تجود به التجربة في الواقع، وتكون هذه النتائج ذات قيمة مطلقة ونهائية إذا برزت بصورة حقيقية وواقعية صفات وخواص الأجسام المدروسة، فاليقين في الفيزياء الكلاسيكية مرتبط بالموضوعية، والموضوعية مرتبطة بالإنشداد إلى الواقع.

  لقد كانت هذه أهم السمات الرئيسية التي ميّزت الفيزياء الكلاسيكية، غير أن هذه الصفات ستتعرض للزوال مع بداية القرن العشرين، إذ أن تطور العلم الحديث سيؤدي إلى ظهور فيزياء جديدة شكَّلت ثورة على الفيزياء الكلاسيكية. وقد تجلت هذه الثورة في نظريتين هما:

نظرية النسبية لاينشتاين،

وميكانيكا الكوانطا التي انطلقت مع ماكس بلانك وتطورت بإسهامات علماء آخرين.  

  إن أول مظاهر هذه الثورة العلمية التي بدأت تشرق أنوارها مع مطلع القرن العشرين، كانت تلك الضربة الموجهة إلى أحد المفاهيم الأساسية التي قامت عليها الفيزياء الكلاسيكية وهي مفهوم الاتصال وكانت على يد ( ماكس بلانك) (1858-1947) العالم الألماني وذلك سنة (1900)، والذي أقرّ أن الطاقة مثلها مثل المادة والكهرباء لا تظهر إلاّ بصورة منفصلة متقطعة، أي على شكل حبّات أو وحدات محددّة تسمى في الإصلاح العلمي بـ"الكوانتوم" "Quantum" والجمع "كونتا"Quanta ". والكوانتوم هو أصغر كمية من الطاقة يمكن إطلاقها وامتصاصها.

  وكان ظهور هذه النظرية شكَّل ثورة على النظرية الكهروطيسية الكلاسيكية التي كانت تعتقد أن الضوء عبارة عن موجهات متصلة، وكل موجة تنشر ساحة كهربائية وساحة مغناطيسية معًا، وهو الأمر الذي أثبت من خلالها أن الضوء عبارة عن موجات كهروطيسية. هذا الانكشاف الماكسويلي مكنّ النظرية الموجية من أن تسود العلم لمدة زمنية ليست بالقصير. إلى أن فرض اكتشافُ بلانك للكوانتوم رؤية جديدة، قوامها النظر إلى الشعاع الضوئي على أنه حبّات من الطاقة تنتقل بسرعة.

  غير أن ميلاد نظرية الكوانطا لم يكن من محض الصدفة، وإنما كان نتاجا لمحاولات علمية سابقة كانت تهدف إلى حل بعض المشكلات التي استوقفت العلماء لمدة من الزمن، وعجزوا عن إيجاد حل لها، والمتمثلة خاصة في ما يسمى "بمعضلة الأشعة ما فوق البنفسجية"؛ فمن المعلومات التي كانت سائدة لدى جميع الفيزيائيين أن جميع الأجسام المعدنية عندما تسحن تتوهج وتبعث إشعاعا بتغير لونه بتغير درجة الحرارة، فمن البرتقالي إلى الأصفر ثم إلى الأبيض. فكل محاولات العلماء لتفسير هذه الظاهرة باءت بالفشل، حيث حاولوا استنباط قانون يبيِّن العلاقة بين الطاقة المشعة من الجسم الساخن، وبين طول الموجة ودرجة الحرارة، غير أن أشهر التجارب التي حاولت حل هذه المشكلة، ما يعرف بتجربة "الجسم السود" حيث لوحظ أن هذا الجسم يمتص بالكامل الطاقة الضوئية التي  يصدرها هو نفسه، وبعدها توصل العلم الانجليزي (رايليغ) "Rayleigh" (1842-1919) إلى صياغة معادلة رياضية تفيد أن شده الموجات التي يطلقها الجسم الأسود تزداد بتوتر الإشعاع، وهذا يعني أن كمية الأشعة في الجسم الأسود تتوقف على تواتر موجاتها.

  لكن ما لاحظه العلماء هو مشكلة تناقض هذه النظرية مع التجربة، غير أن مراجعة النظرية لا يظهر أي عيب أو فجوة فيها، مما حتَّم مراجعة الأسس الذي يبني عليه هذا الاستدلال، فمعادلة (رايليغ) مبنية ضمنيا على الفكرة السائدة والقائمة على أن الطاقة متصلة، ومن هنا بدا أن الأسس الذي قامت عليه هذه النظرية غير صحيح، ومنه كان السؤال لماذا لا ننطلق من فرضية مفادها أن الطاقة منفصلة؟.

  لقد بدا من هذه المشكلة أن العلم أصبح في أزمة، أزمة النظرية نفسها والاعتبارات الناتجة عنها، وللخروج من هذه الأزمة لزم إدخال عنصر جديد تمام الجدَّة، ومخالف تمام المخالفة لما عرفته النظرية الكهروطيسية الكلاسيكية، أنه المفهوم الذي يعتبر تبادل المادة والإشعاع للطاقة لا يحصل حصولا متصلا كما تقتضي ذلك النظرية الكهروطيسية الكلاسيكية، بل يحصل بصورة منفصلة ومتقطعة، وهي الفكرة التي انطلق منها بلانك (انفصال الطاقة). حيث اعتبار الضوء عبارة عن طاقة تسري على شكل كوانتوم أو "كميات" أي وحدات صغيرة لا تقبل التجزئة، وأخذ يبحث عن الكيفية التي تتوزع بها الطاقة الضوئية في الجسم الأسود، رابطا بين التوزيع بتوتر أشعة ذلك الضوء ودرجة حرارة ذلك الجسم، فتوصل إلى نتيجة تتوافق تماما مع معطيات التجربة. و بهذا استطاع (بلانك) أن يفسر ما عجزت عنه نظرية (رايليغ)،  وأن يغير وجهة العلم الفيزيائي، حتى وإن تطلب ذلك كثيرًا من الوقت حتى تبرز آثاره الانقلابية للعيان، ومن هذا الانقلاب الكبير الذي أحدثته نظرية بلانك، أصبح لزاما على العلماء التخلي عن الكثير من المفاهيم والمبادئ التي اعتبرت صحيحة لمدة طويلة من الزمن، والتي شيّد عليها العلم الفيزيائي طوال قرون خلت وأبرزها فكرة الاتصال الذي تبنته النظرية الاتصالية، فقد ثبت عدم توافق جذري بين المفاهيم الفزيائية الكلاسيكية، والتي هي مفاهيم تناسب مستوى الظواهر الكبرى (الماكروفيزيائي) وبين المتطلبات النظرية والاعتبارات الفلسفية التي فرضها العلم الميكروفيزيائي.