في المحاضرة السابقة (02) أشرنا إلى أول نسق استنباطي في تاريخ الرياضيات، ووصلنا إلى ما تعرّض له ذلك التصور التقليدي من نقد وشكوك أدّت إلى ظهور الهندسات اللإقليدية، وإذا كان ذلك واضحا فلنتحدث عن الدلالات الابستيمولوجية له.

  لقد حدثت على صعيد الرياضيات أزمة عميقة مست الرياضيات في صميمها، فقد هيمن النسق الإقليدي الذي كان يقوم على مصادرة التوازي قرونًا طويلة. حيث كان هذا النسق المثال الأعلى للهندسة، حتى لقد "بدت بديهيات نسق إقليدس طبيعية و واضحة إلى حدٍ بدت معه حقيقتها أمرًا لا يتطرق إليه الشك". وقد كانت كل الإضافات التي تلت الهندسة الإقليدية و التي جاء بها الرياضيون فيما بعد تدور في نفس هذا النسق، وتندرج ضمن نفس ( البراديجم). لأن كل ما جاءت به أنها كانت تنطلق في ذلك من المبادئ الأولى للنسق الإقليدي ومثال ذلك الهندسة التحليلية، فلئن كانت هذه الهندسة تجديدًا في الرياضيات، إلاّ أنها كانت تجديدًا يُفهم في إطار النسق الإقليدي.

  لقد شيّد (إقليدس) (300 ق.م) نسقًا هندسيًا محكمًا، فقد كان كتابه المسمى"الأصول" دائرة معارف لما توصلت إليه رياضيات القدماء، فقد كان النسق الإقليدي ولأول مرة في التاريخ بناءً واحدًا محكم الحلقات، بحيث يستند برهان كل نظرية لاحقة إلى ما تقدم عليها في الترتيب داخل ذلك البناء، وشكل ذلك البناء مثالا للنظرية الاستنتاجية لا يمكن تجاوزه وتصعب مساواته، فالحدود الخاصة بالنظرية لا تدرج فيها دون تعريفات ،والقضايا لا تقدم فيها دون برهنتها، باستثناء بعضها الذي يؤخذ في البداية كمبادئ، لأن البرهنة يجب أن تقوم على مجموعة من القضايا الأولية، غير أن إقليدس اعتنى باختيارها حتى لا يرتاب فيها عقل سليم.

  إن النسق الاستنباطي الإقليدي يقوم على استخلاص مقدمات أو قضايا أولية، وهي البديهيات (AXIOMS)، والمسلمات أو المصادرات (POSTULATS)، ولا فرق بين هذين النوعين إلاّ في درجة الوضوح والبداهة. فالأول أوضح بينما الثانية يقبلها العقل على أنها كذلك لأجل إقامة البرهان، والشيء المشترك بينهما  هو أن كلهما قضايا واضحة ومطابقة للواقع ومعبرة عنه، وهو الموقف الذي عبر عنه (أرسطو) و(إقليدس) وحتى الفيلسوف (كانط) فيما بعد، والذي اعتبر تلك القضايا "ضرورية" لأنها تعبر عن خواص المكان الحقيقي الوحيد، والذي هو في رأي (كانط) مكانًا قبليًا في الذهن و ليس واقعيًا في العالم الخارجي. لكن الاختلاف بين (كانط) وإقليدس حول يقينية المبادئ الرياضية.     وبالتالي فهو نسق يقيني استنباطي، واليقينية تعني هنا مطابقتها للعالم الخارجي، وتبعًا لذلك تكون أيضًا القضايا المشتقة منها بالبرهان يقينية كذلك.

  ومع ذلك فإن الهندسة الإقليدية والتي كانت ولمدة طويلة من الزمن أكمل الأمثلة التي يمكن أن تقوم على النظرية الاستنتاجية، فإن الجهاز المنطقي الذي كان يدعمها لم يكن خاليًا من العيوب، فلقد تم ملاحظة بعض هذه العيوب منذ زمن مبكر. فقد رأى البعض أن النسق الإقليدي لم يبلغ هدفه المنشود وذلك لأسباب منها: أن فيه بعض الحشو نظرا لاحتوائه على بعض التعريفات التي لا فائدة منها البَّتة، وكذلك -وهو الأهم – أنه استند إلى افتراضات مستترة لا يمكن أن تنبثق عن البديهيات.

  إن أهم ملاحظة شدَّت انتباه الرياضيين عبر مدة طويلة من الزمن؛ هي أن بعض مبادئ إقليدس ليست في نفس مستوى الوضوح و اليقين مع غيرها  من المبادئ الأخرى داخل النسق. فهناك المصادرة المشهورة حول الخطوط المتوازية، والتي بدت أقل وضوحًا من بكثير من المصدرات الأخرى، فإقليدس بنفسه طلب التسليم بها دون أن يتمكن من تسويغها إلاّ بضرب من اللجوء إلى الوضوح الحدسي. ولعل أشهر هذه المصادرات هي المسلمة  الخامسة لإقليدس والتي مفادها أنه "من نقطة خارج مستقيم لا يمر إلاّ خط مواز واحد لهذا المستقيم". فخلا قرون طويلة لم يشك العلماء في مصادرة التوازي هذه كواقعة رياضية لأن التجربة نفسها كانت تعطي المشروعية لهذه الواقعة، وإنما الإشكال تَمثَّل في البرهنة على هذا الصدق، فقد كانت محاولة البرهنة عليها كثيرة واستمرت قرون طويلة، ولَعّل أقدم هذه  المحاولات كانت على يد الرياضي العربي، نصر الدين الطوسي (القرن الخامس للهجري)غير أن محاولته باءت بالفشل، وفي العصر الحديث حاول الأب (جيرولا مو ساكيري) (1667-1733) في كتابه "يطلب من (إقليدس) كل ما هو جديد"  أن يبرهن على هذه المصادرة بردها إلى المحال و لم ينجح في ذلك إلاّ نجاحا جزئيا، لكن فشله أدى إلى الإيحاء بعد قرون إلى إنشاء الهندسات اللاإقليدية. إن هذه الطريقة في البرهنة  التي اعتمدها (ساكيري) والتي هي البرهنة غير المباشرة  أو البرهان بالخلف، أوحت للبعض بالانطلاق من مصادرات أخرى واستخلاص النتائج اللازمة عنها بحيث نثبت صدق المصادرة الأولى بالحصول على تناقض في النتائج المستخلصة من المصادرات الأخرى، أي عندما يثبت لنا خطأها. وكان العالم الألماني "فريدريك جوس" (GAUSSE)-(1777-1855) قد أتم بحثا حول الهندسة اللاإقليدية  لكنه عزف عن نشره خوفًا من صدمة الرأي العام الرياضي.

  إذا كان البحث في هذه المسلمة قد استمر كل هذه المدة من الزمن على يد كبار الرياضيين، فإن محاولة جريئة جاءت على يد رياضي مجري شاب هو (جون بولاي) "J.Bolyai" (1802-1860) والذي اكتشف أن بديهية التوازي ليست عنصر ضروريا في الهندسة، حيث شيد هندسة تخلى فيها عن بديهية التوازي. وأحلَّ محلها مسلمة أخرى جديدة هي القائلة أنه "يمكن رسم أكثر من موازي واحد لمستقيم من نقطة معينة"، وقد تم في نفس  الوقت تقريبا الإعلان عن هندسة أخرى مماثلة لهذه على يد الرياضي الروسي (لوباتشفسكي) (Lobatchevski) (1793-1856)، فلقد أراد هذا العالم أن يبرهن على المسلمة الإقليدية الخامسة ( مسلمة التوازي) بواسطة البرهان بالخلف، فافترض عكس إقليدس أنه من نقطة خارج مستقيم يمكن رسم ليس موازي واحد  فقط، وإنما موازيان أو أكثر، وانطلاقا من هذا الفرض استنتج عددا من النظريات الهندسية دون أن يوقعه ذلك في التناقض ولا إلى بطلان الفرض الذي انطلق منه، فهو بذلك لم يصل إلى إثبات صحة مسلمة إقليدس وإنما توصل إلى هندسة أخرى جديدة كل الجِدَّة ومخالفة للهندسة الإقليدية، ومن النتائج التي توصل إليها مثلا؛ أن زوايا المثلث لا تساوي 180° درجة بل أقل من ذلك، والمكان عند لوباتشفسكي مقعر (كما تصوره) أو كالكرة من الداخل، وقد أعتبر الأستاذ بلانشي أن " الهندسة اللبتشفسكية أكثر عمومية من الهندسة الإقليدية، فلوباتشفسكي قدم هندسة كنظرية عامة تشمل الهندسة العادية كحالة خاصة منها".

  ولم يمض غير قليل من الوقت حتى اكتشف العلم الألماني (ريمانBernhard Riemann) (1826-1866) نوعا أهم من الهندسة اللاإقليدية تختلف عن كل من هندسة (إقليدس) وهندسة (لوباتشفسكي).

وانطلق (ريمان) في بناء نسقه الهندسي من إحدى الفروض التي وضعها (ساكيرى Girolamo Saccheri) من قبل، فريمان يرى أن المستقيم لا يمتد إلى ما لانهاية و إنما هو ينتهي حتما، و مخالفا في ذلك مسلمة إقليدس القائلة أن المستقيم يمتد إلى ما لا نهاية، كما افترض أيضا أنه من نقطة خارج مستقيم لا يمكن رسم أي موازي لهذا المستقيم، وأن أي مستقيمان كيفما كان وضعهما لابد وأن يتقاطعا. فلا توجد و الحالة هذه مستقيمات متوازية بالمعنى الإقليدي، وتوصل إلى أن مجموع زوايا المثلث تساوي أكثر من 180° درجة ويمكن فهم هندسة (ريمان) إذا اعتبرنا المكان كروي الشكل كالكرة الأرضية.

  إن ظهور هذه الهندسات الجديدة وضع العلماء أمام أسئلة كثيرة تركزت في جوهرها حول

الدلالة الإبستمولوجية لقيامها، فقد كنا أمام نسق هندسي واحد مثل النموذج الأسمى للهندسة والمثال الأكمل للنظرية الاستنتاجية وهو النسق الإقليدي، فأصبحنا أمام أنساق هندسية ثلاثة مختلفة في نتائجها. متساوية من ناحية صدقها ودقتها المنطقيتين، ونتيجة لذلك نشأت الملاحظات التالية:

  الهندسة اللاّإقليدية عقلية خالصة تنطلق من تصور عقلي للمكان (مفرغ من مضمونه الحسّي)، أما هندسة إقليدس فتقوم على المكان الذي يقدمه الحدس الحسي، وارتبطت الهندسة الإقليدية بتصور معين للمكان وهو أنه سطح مستو، وبالتالي فإن المكان الهندسي صادق على المكان الفيزيقي، وهو فرض استخدمه (إقليدس) دون أن يصرح به منذ البدء، والأمر نفسه يقال على الكثير من المبادئ و الفروض التي تكون أساسا للهندسة الإقليدية، لكنها في الواقع افتراضات ضمنية لم يتم التصريح بها، ممَّا قد يوقعونا في فجوات استنباطية.

  إن المبادئ التي يقوم عليها النسق الإقليدي ( تعريفات، بديهيات ومصادرات) مرتبطة بالأشكال والرسوم فإذا أردنا البرهنة على نظرية إقليدس استعملنا الأشكال والرسوم، وإذا ألغينا هذه الأشكال انهارت البرهنة، ومثال ذلك أن مصادرة المتوازيين تستدعي الحدس المكاني بشكل صريح و الذي هو مطلوب طيلة البرهنة.

  أمَّا البرهان في الهندسات اللاإقليدية فهو فرضي استنتاجي (Système Hypothéco.deductif) من منظومة أوليات يضعها الرياضي في نقطة الابتداء ويستنتج ما يترتب عنها. والواقع أنه كان من الصعوبة في مبادئ البرهان الرياضي التمييز بين البديهيات والمسلمات، وكثيرًا ما كانت تستخدم الكلمتان إحداهما مكان الأخرى بلا فرق، فما يعتبر عند بعض العلماء بديهية قد يعتبره الأخر مسلّمة، غير أن التمييز بينهما قد ارتكز خلال قرون طويلة على أن البديهية تتصف "بالبداهة العقلية" أو الوضوح العقلي. وتؤخذ كقضية يقينية  تفرض نفسها على العقل فرضا، في حين أن المصادرة هي أقل درجة في البداهة والوضوح من البديهية، فينظر إليها على أنها على أنها قضية تركيبية قد نجد لها نقيضا ولو بصعوبة، خلافا للبديهية التي اعتبرت قضايا تحليلية من الصعب إنكارها. لكن مفهوم الوضوح الذي تميزت به القضايا أثار الكثير من الجدل، فهو يختلف حسب المزاج الذهني لكل إنسان، فالشعور بالوضوح كما يراه الأستاذ بلانشي خداع، وحتى في ميدان الرياضيات نفسها فإن بعض العلماء رفضوا فكرة البداهة.

  إن بعض بديهيات إقليدس قد منيت بشيء من التقهقر، مثال ذلك بديهية "الكل أكبر من الجزء" و التي اعتبرت دوما قضية بديهية لا يمكن الطعن في صحتها، لم تعد بالنسبة إلى الرياضيات الحديثة إلاّ في ميدان المجموعات المتناهية، و بهذا المعنى لم تعد قضية تحليلية. بل هي اصطلاحا يحدده حقلاً معينًا. ومن ذلك فليس هناك أي اعتبار خاص ولا أفضلية للبديهية على المسلمة، بل هما في الفكر الرياضي الحديث مجرد فرض يتم قبوله على أساس اختيار واع، فلقد أصبح المهم في قضية من  القضايا التي تؤخذ كأساس تقوم عليه البرهنة في الرياضيات، وهو الدور الذي تلعبه هذه القضية في هذا البناء، لا درجة الوضوح و البداهة التي تتميز بها.

  إن هذا التصور الجديد للمبادئ الرياضية وطبيعتها، أو الأسس التي يقوم عليه التفكير الرياضي، قد انعكس أثره على البرهان الرياضي نفسه، فلقد اعتبر البرهان الرياضي قديما برهانا يؤدي إلى نتائج ضرورية، فكون المبادئ التي يقوم عليها صحيحة صحة مطلقة، فإن القضايا التي تنتج عنها هي بدورها صحيحة صحة مطلقة. أمّا في الرياضيات المعاصرة فقدْ فَقَدَ هذا البرهان طابعه اليقيني و أصبح مجرد "تواضع" فالمهم أنه إذا وضعنا هذه المبادئ أساسًا للاستنتاج فسينتج عنها نتائج صورية معينة. إن الضرورة في البرهان الرياضي لم تعد تتعلق بتلك المبادئ أو القضايا الأولية المنطق منها، و إنما في الرابطة المنطقية التي تؤلف بينها في النسق الاستدلالي.

  ونتيجة لهذا أصبحت الرياضيات تكتسي طابعا فرضيا استنتاجيًا، فهي عبارة عن بناء فكري يتم تشييده بواسطة مبادئ هي مجرد فروض، دون النظر إلى صدقها أو كذبها.    والشرط الأساسي في هذا البناء هو خلوه من أي تناقض داخلي،  فالمهم في النسق ليس الأوليات بال العلاقة التي تقوم بينها، مما جعل الرياضي يهتم بالعلاقات فقط، والتحرر التام من المعنى الواقعي العيني الذي تحمله الأوليات.

  من هذه الملاحظات السابقة نشأت أسئلة عديدة:

  هل يمكن إقامة قائمة من المبادئ الخاصة بكل نسق؟ وإذا كان هذا غير ممكن فأي الأنساق صادقة وأيها كاذب؟ وما هي شروط إقامة نسق استنباطي؟.

  وللإجابة على هذه الأسئلة وصل الرياضيون إلى موقف مفاده، أن لا تَسَلْ عن أي صدق واقعي للمبادئ أو النظريات أو المصادرات، وإنما خذ نقطة بدايتك أي مبادئ ثم استنتج منها نظريات، بشرط أن يكون هذا الاستنباط صوريا محكما لا أثر فيه لرسوم أو أشكال أو لفكرة المكان. حينئذٍ يكون الاستنتاج صحيحًا، وإذا جاء في النسق أي عيب استنباطي أو فجوة منطقية فالنسق إذا فاسد. إن هذا النظام أو البناء الرياضي يختار فيه الرياضي منطلقاته وأولياته بكل حرية من أجل تشييد بناء متماسك قائم على علاقات منطقية بين أجزائه، هو ما يطلق عليه اسم "الأكسيوماتيك" "Axiomatique" وهو منظومة أوليات يقوم عليها بناء رياضي معين، وكل بناء يختلف عن الآخر باختلاف الأوليات التي يقوم عليها كل نسق، ومن ذلك تعتبر هندسة (إقليدس) وهندسة (لوباتشفسكي) و هندسة (ريمان) وغيرها من الهندسات. كل منها يشكل أكسيوماتيكًا خاصًا.

  ويعتبر العالم الرياضي الألماني(مورتز باش) "M. Pasch" أبو الكسيوماتيك، فهو أول هذه الحركة عام 1882 فقد عرض الهندسة في نسق من المصادرات، وقد عبر عن ذلك بقوله: " لكي تصبح الهندسة علما استنتاجيا حقا يجب أن تكون الكيفية التي تستخلص بها النتائج مستقلة في كل مكان عن معنى التصورات الهندسية. مثلما يجب أن تكون مستقلة عن الأشكال، فلا نأخذ بعين الاعتبار إلاّ (العلاقات) التي تضعها القضايا (التي تقوم بوظيفة التعريفات) بين التصورات الهندسية". وقد وضع (مورتز باش) الشروط التي يجب أن تتوفر في بناء رياضي استنتاجي (أكسيومي) يكون هدفه الصرامة الحقيقية      وهي:

  1 – يجب التصريح بالحدود الأولية التي نريد أن نعرِّف بواسطتها سائر الحدود الأخرى.

  2 – يجب التصريح بالقضايا الأولية التي نريد أن نبرهن بواسطتها سائر القضايا الأخرى.

  3 – يجب أن تكون العلاقات المذكورة بين الحدود الأولية، علاقات منطقية خالصة    وأن تبقى مستقلة عن المعنى العيني الذي يمكن أن نعطيه للحدود.

  4 – يجب أن لا تتدخل في البرهان إلا هذه العلاقات، بقطع النظر عن معنى الحدود، (إنما يمنع على الأخص أن نأخذ أي شيء من اعتبار الأشكال).

  و قد  تطورت هذه الحركة على أيدي الكثيرين أمثال: (بيانو) "Piano" و "دافيد هلبرت" "Helbert"، حيث أضافوا إلى الشروط السابقة شروطا أخرى يجب توفرها في قائمة القضايا الأولية وهي : ( الاتساق، التمام، والاستقلال). وقد استطاع هلبرت إعادة صياغة الهندسة الإقليدية في ضوء هذه العناصر والشروط. بحيث تصبح نسقا متكاملا دون أخطأ أو فجوات، مثلها في ذلك مثل الأنساق اللاّإقليدية الصحيحة.

  وفي الأخير يمكن أن نتساءل عن القيمة الإبستيمولوجية التي نتجت عن الثورة الرياضية، حيث يمكننا حصر هذه النتائج فيما يلي:

 -إعادة النظر في مفهوم البديهية الذي أصبح مجرد اصطلاح، فالفكر الحديث لا يرى أن هناك قضية علمية واضحة وضوحا مطلقا، فهو ينشئُ استدلالاته على فرضيات بمعزل عن الصدق والكذب بل يسلم بها كعلاقات منطقية صرفة، على أن يبقى متقيدا بها. فالعلم الحديث مجموعة علاقات كل منها يتغير بتغير الآخر.

 -كان المنهج الاستدلالي استنتاجيا فأصبح فرضيا استنتاجيا، وأصبحت الرياضيات تعرف بمنهجها لا بموضوعها الذي تجاوز بحث العلاقات الكمية.

 - الهندسة الإقليدية أمست جزءا بسيطا من علم يتوسع باستمرار، وهي كمية في عالم مدركاتنا الحسية، فقد برهنت نظرية النسبية والميكروفزياء، على أن المكان في مفهوم ريمان أقرب إلى الواقع في مجموعه من مكان (إقليدس).

 - بناء رياضيات على منظومة أوليات يمكن لأي رياضي استبدالها في شروط منطقية لأن الأوليات مجرد علاقات منطقية صرفة، فتح آفاقًا لتقدم الرياضيات الحديثة ولبقية العلوم الأخرى، فالفيزياء الكلاسيكية كانت استقرائية، أما الفيزياء الحديثة فأصبحت فرضية استنتاجية، أي عبارة عن نسق استنباطي، لأن الموضوع لا تطاله الحواس ولا الخيال، فهو عقلي خالص، يثبته التطبيق دون أن يرى العالم الظاهرة أو الواقعة. و ما كان "لأينشتاين" أن يكتشف النسبية لو لم يعتمد على مكان ريمان الذي أثبتت التجربة وظيفته الإجرائية.

 - انفصال الرياضيات الحديثة عن الواقع الخارجي، فهي كنسق استنباطي يبني على أوليات مستقلة عن الواقع، فالتصورات الرياضية صورية محضة، ورموزه  تدل على معانٍ وأعداد، ومجاهل... ، كما انفصلت الرياضيات الحديثة عن الرياضيات التطبيقية، فالرياضيات المحضة تنشئ عالمها النظري الخاص، وهذا الانتقال من الحدس الحسي – حيث يتلق الإنسان الأشياء – إلى الحدس العقلي – حيث  يفرض الإنسان نفسه على المحسوسات -  مكّن الفكر العلمي الحديث من التحدث عن الذرات في أدق أجزائها،     وصياغة مجموعة كبيرة من الظواهر في معادلة رياضية واحدة، ومن ثمة تحويل الظاهرة المادية إلى علاقات رياضية، فالتحليل الرياضي الآن هو الذي يعطي المعرفة الفيزيائية صورتها.