دروس في مقياس القصيدة العربية

تخصص نقد ودراسات أدبية

المستوى : السنة الثالثة ل م د

إعداد الأستاذ/ عراب أحمد

الموسم الجامعي 2019-2020

وحدة التعليم الأساسية الأولى: نظرية الشعر و نقده.

محتوى المادة:

1-القصيدة العربية/ تحديد المصطلح و المفهوم.

2-البدايات الأولى لقصيد القصيدة / دراسة تاريخية فنية.

3-البناء الهيكلي للقصيدة العربية.

4-لغة القصيدة.

5-موسيقى القصيدة.

المحاضرة الأولى:

القصيدة العربية/ تحديد المصطلح و المفهوم.

مفهوم القصيدة و بناؤها:

تقديم :

يرجح أن بعض المفاهيم الأدبية التي درج البحث في ماهيتها لغة واصطلاحا قد جرى الفصل فيها وبشكل نهائي ، بحيث لم تعد تطرح على مستوى الدرس النقدي سؤالها المقلق نظرا لاستيفاء تلك المفاهيم و المطالب حظها من النقاش والإجابة من لدن رواد النقد الأدبي في القرنين ... وأُلف فيها المتون والمصنفات إلى حدّ الإتخام وقد ارتبطت ارتباطا وثيقا بقضايا الشعر أساسا واستمرت تلك المساجلات بين النقاد عبر الأقطار العربية تسترفد مقولاتها من محصلات شعراء العصور الأولى للشعرية العربية تحديدا وفي أغراض شعرية معينة.

       ومهما يكن ، فإن معالم هذا النقد المتشرب الاتجاهات والمتعدد الأوجه قد تشكّلته ظروف مرحلة جديدة من تاريخ نقدنا العربي الحديث والمعاصر أخذت على عاتقها مهمة السير به أشواطا برؤى تتجاذبها الذاتية والانطباعية والأحكام القيمية غير المؤسسة أبدى من خلالها الناقد العربي إخلاصا للممارسة النقدية وانفتاحا جريئا على ما أتاحته له ثقافته الأجنبية من إطلاع واسع على أدب الشعوب الأخرى ونقدها انطلاقا من ترجمتهم لكتاب فن الشعر لأرسطو ووعيهم بنظرياته النقدية التي حاولوا تمثلها في مقولاتهم ،وقد أمكنهم ذلك من تقليص الفارق الزمني في تمثلهم لتلك النظريات والتكيف مع منطلقاتها الفلسفية ورؤاها الأدبية.

من أولوية القضايا التي انبرى لها النقد العربي محققا في سؤال ماهيتها – حدّ القصيدة – باعتبارها صورة لما كان عليه الإبداع الشعري العربي قديما – أي في المراحل الأولى من تشكّل معالم الشعرية العربية التقليدية حتى العصر العباسي- ، وفي هذا المجال كان النقد العربي في متابعاته لتك الأعمال الشعرية سخيا في ردوده وإجاباته إلى حدّ الإقناع بأن الشعر قول موزون مقفى دال على معنى "[] فقد قطعت مقولة قدامة بن جعفر قول كل ناقد .

وبحسب النقد في تلك المراحل المزهرة من تاريخه تجاوزه تلك المسائل التي عدّت في عصرها من المسلمات التي لا ينبغي الالتفات إليها ما دام النقد قد فصل فيها وشفّعها بنصوص كرست قدسية النظرة إلى القصيدة العمودية باعتبارها النمذجة المقترحة في الاستشهاد والاستدلال والبرهنة لكمال وتمام بنيتها الشكلية والموضوعية، ليعاد إحياؤها ومن ثم طرحها من جديد في نقدنا الحديث والمعاصر في ضوء مناهج البحث النقدية السياقية والنسقية لتظهر في صورة صراع متجدد أخذ أبعادا حساسة مع دخول النقد الاستشراقي طرفا في هذا السجال واندحار بعض المسلمات في نقدنا العربي، بداية مع طرح مفهوم القصيدة كما يتراءى في إفهام المستشرقين ومن جهة نظر تغلب النظرة العلمية قبل كل شيء.

ألقى مفهوم القصيدة من جديد بثقله على البحث النقدي العربي و الاستشراقي مرددا صدى تلك المقولات المستجدّة على الساحة النقدية معتدّة بمناهج ونظريات خلخلت تلك المسلمات وقلبت الكفة إلى صالحها في محاولة منها مماحصة المفهوم وفق نظرتها ومنهجها طالما أن المفهوم لم يراوح الوضع القديم الذي انبثق منه "فإذا كان الإطار الجديد يعني استبدال الحاضر بالماضي ، والغرب المتقدم بالمشرق المتأخر ، فإنه كان يعني بداية أول قطيعة حادة مع التراث بوجه عام، ومن ثمة بداية تعويل الناقد العربي(الحديث) على أصول نقدية ليست من صنعه، ولا من تراثه".[]

تنطلق هذه الدراسة من فرضية استعادة حلقة الوصل مع جملة الأسئلة التي توالت وتراكمت حول الموضوع وكسر الحاجز النفسي الذي ترسب حول الذات العربية في بحثها عن تفسيرات لأصل التسمية لاعتبارات أقامتها قراءاتنا للتراث النقدي المبنية على أساس نظرة تقديس وإعلاء لكل ما هو أصلي و قديم في تراثنا الشعري وبين المفهوم نظرا لكثرة ما التبس به  من ناحية القراءة التوصيفية لمفهوم القصيدة العربية الجاهلية على وجه الخصوص ، وما أثارته استنتاجات البحث البنيوي من ناحية من إشكالات تعمقت معها الهوة بين اجتهادات منظري النقد العربي القديم وبين قناعات النقد الحديث والمعاصر في هذا المجال .

والحق إن أية محاولة في هذا الجانب لفهم ملابسات وضع المصطلح خارج مادة تكونه اللغوية أو العودة به إلى أصول وضعه الأولى في التراث النقدي العربي تعدّ تجاوزا منهجيا مخلا بالإطار المفاهيمي وخروجا مستنكرا عن أدبيات البحث العلمي ، وعلى هذا الأساس كان الخوض في تحديدات المفهوم اللغوي لمادة (ق ص د) في المعجمات العربية التراثية و الحداثية ضرورة لازمة وأولوية مقدمة في رصد و متابعة حيثيات هذه المسألة من منطلق أن النقد الأدبي القديم لم يقدم تصورا واضحا حيال مفهوم المصطلحات التي كان النقاد القدماء يستخدمونها للتعبير عن أفكارهم حول الشعر.[]

ومن غير الابتعاد عن محور البحث في الأصل المعجمي للمفهوم اللغوي لمادة ق ص د، والذي يبدو أنه لم يكن ليترسخ في المدونة النقدية على نطاق حقل تداوله المعرفي ما دام المصطلح داخلا في مفهوم أشمل، يقابله مفهوم  الشعر بدليل أن المحاولات في هذا الصدد تخضع أية دراسة إلى مفهوم الشعر لا القصيدة ، الأمر الذي يتعين على الباحث الفصل بين المفهومين القصيدة باعتبارها وحدة فنية مستقلة بذاتها عن تلك المقولات التي تقيد الشعر في خصائص لغوية وإيقاعية " و سيظل هذا الاختلاف بين الشعراء في معنى الشعر من حيث لفظه و أغراضه قائما ما قام هؤلاء الشعراء أنفسهم، و ما كانت لهم حياة خاصة غير خاضعة خضوعا تاما للتقليد" .[]

إن البحث عن إيجاد روابط تقيم  العلاقة بين أصل التسمية من جهة ، وحتمية الظروف الاجتماعية التي أوجدتها من جهة ثانية، فإن الصلة بين الأمرين تتأسس على مبدأ الحاجة أم الاختراع، وإن كان هذا الإبداع موقوفا على ما يمنحه الوسط الاجتماعي للمبدع من محفزات وما يحيطه به من عناية وتقدير يدفعه إلى إيلاء العمل الإبداعي اهتماما زائدا يدنيه مكانة  من ممدوحه، ويرفعه منزلة ، وذلك نزولا عند الطلب وما يتحقق على المستوى المادي للشاعر باعتبار "أن الطبيعة الصحراوية ،والطابع القبلي للعلاقات الاجتماعية، والتناحر المستمر على الكلأ والماء، يشكلون جميعا مبدأ الضرورة الذي حدد المحاور التي تتأسس عليها مضامين القصيدة".[]

 

 

 

أ/المفهوم اللغوي للقصيدة:

     يرى بعض اللغويين و أصحاب المعاجم أن الأصل اللغوي لكلمة قصيدة يرجع إلى: القصد، و القصد من الشعر ما تم شطر أبياته، يقول ابن جني" سمي قصيدا لأنه قصد و اعتمد، و الجمع قصائد، و قيل سمي قصيدا لأن قائله احتفل له، فنقحه باللفظ الجيد و المعنى المختار المنتقى، و أصله من القصيد و هو المخ السمين الذي يتقصّد أي يتكسر لسمنه، و ضده الرير أو الرار و هو المخ السائل الذائب.

   و العرب تستعير السمنة في الكلام الفصيح فيقال هذا كلام سمين أي جيد، و قالوا شعر قصّد أي نقح و جوّد و هذب، و قيل سمي لشعر التام قصيدا لأن قائله جعله من باله فقصّد له قصدا و لم يحتسيه حسيا على ما خطر بباله و جرى على لسانه.

   أكد ابن رشيق ما ذهب إليه اللغويين في تعريف القصيدة فقال" إن اشتقاق القصيد من قصّدت الشيء كأن الشاعر قصد إلى عملها على تلك الهيئة ".

     و حسب هذه التعريفات اللغوية فإن جميع الأنماط الشعرية تدخل في دائرة القصيدة، ما دامت القصيدة متوافرة على التأليف و العمل، و لعل قصور*هذه التعريفات اللغوية في تحديد المفهوم يعود إلى تركيزها المباشر على الأصل اللغوي للكلمة دون الاهتمام بدلالاتها الفنية و الجمالية.

      يفسر لندنبارغ ما ذكره اللغويون في أصل هذه الكلمة في قوله" لأن معناها الشعر الغرض و القصد"، انطلاقا من هذا التعريف يزعم لندنبارغ أن كل مساومة و تجارة بالشعر القديم و الحديث و كل جشع لا يعرف الشبع في الفطرة العربية وجد التعبير عنه في لفظ قصيدة.

       و قد تهدى "بلوكلمان" لهذا التقسيم غير العلمي بقوله" إن الغرض و القصد لم يكن في الزمن القديم أصلا و لم يكن في الزمن المتأخر دائما هو كبس الجزاء المادي"

 و ذهب جورج جاكوب إلى تفسير كلمة قصيدة إلى شعر النسول و رد عليه بلوكلمان و رأى أنه لم يصب في تفسير مفهوم القصيدة.

       و يبدو أن لندنبارغ و جاكوب قد استغلا بعض المفاهيم اللغوية لمصطلح القصيدة و اعتمادها أساسا في التحامل و الطعن على الشعر العربي عامة (الخلفية الإيديولوجية) و اتهام الشعراء بالجشع بخاصة، و تعد تعريفاتهما الخاطئة نتيجة منطقية لإساءتها فهم مصطلح قصيدة في الشعر العربي.

يرى بعض الباحثين أن النقد العربي القديم ليس فيه الكثير الذي يمكن أن يسهم في المحاولات الحديثة في تحليل القصيدة من خلال:

1- إشارات بسيطة تدور إما حول شاعر جاهلي مشهور(امرؤ القيس) و إما أن تشير إلى مطلق القصيدة القديمة و حالة مقارنة القصيدة المحدثة في عصرهم الإسلامي.

2- إن المشكلة في هذه القضية تكمن في مدى وضوح مفهوم المصطلحات التي كان النقاد القدامى يستخدمونها للتعبير عن أفكارهم حول الشعر يقابله ( عدم الاستقرار على مصطلح قار في العصر الحديث)

3- جل اهتمام النقاد كان موجه إلى قصيدة المديح في الشعر القديم على وجه العموم، و إن كانت لا تمثل نسبة كبيرة في الشعر الجاهلي مقارنة بقصيدة الطلل.

إضافة إلى أن: عملية التدوين كانت متأخرة و خالية من المنهجية و هي الإشكالية التي وقع فيها الدرس النقدي الإستشراقي.

-       اهتمام النقد العربي القديم بالشاعر أكثر من القصيدة. يمكن العودة إلى كتاب حسن البنا عز الدين الكلمات و الأشياء بحث في التقاليد الفنية للقصيدة الجاهلية.

عرض حسن البنا عز الدين محاولات القدماء و المحدثين في وصف القصيدة الجاهلية، فرأى أن " صورة القصيدة الجاهلية في نقد القدماء كانت غامضة" ص44، و أن المحاولات النقدية الحديثة شغلت بمسألتين: قضية الوحدة، و الوصف الأسطوري للقصيدة الجاهلية.

    ففي قضية الوحدة لاحظ المحدثون افتقادها في القصيدة الجاهلية، ففسر بعضهم ذلك بأنه نابع من مجرد شعورهم بالارتباط الباطن بين أجزاء القصيدة، و رأى غيرهم غير ذلك،ـ و هي مسألة تحتمل النقاش، أما قضية الوصف الأسطوري للقصيدة الجاهلية فقد عاد فيها الباحث إلى جهود المستشرقين و الباحثين، فعرض كيف ربط ياروسلاف استيتكيفيتش بين القصيدة الجاهلية ببعدها الشعائري و مرحلة الانتقال التاريخية التي كان يمر بها المجتمع العربي آنذاك،ـ كما عرض تصور سوزان استيتكيفيتش لعلاقة القصيدة الجاهلية بالشعائر، و الذي يعتمد على طقس الصور بمراحله الثلاث، حيث طبقت سوزان هذا التصور في دراستين عن لبيب و امرئ القيس. 

مفهوم القصيدة في التراث النقدي العربي:

    ذاع مفهوم القصيدة في حقل الإبداع الشعري عبر كل العصور قديمها و حديثها، غير أن المدلول التاريخي يشدها من حيث دلالاتها إلى الشكل الأصولي للشعرية العربية و التي تنتظم وفق خصائص جمالية و فنية هي الوزن و القافية و اللفظ و المعنى و هي المعايير التي اعتمدها النقاد القدامى في تحديدهم للمفهوم الأدبي الاصطلاحي للقصيدة كمرجع أصلي، و أضافوا إلى ذلك مقياس آخر هو قوة التأثير في نفسية المتلقي و قد وافق هذا المعيار قول ابن طباطبا العلوي في معرض حديثه عن تأثير قوة القصيدة" ... و كان كالخمر في لطف دبيبه و إلهائه و هزه و إثارته "

  وعلى هذا النحو تعددت تعاريف الشعر عند النقاد لنصب في منحى واحد قوامه الجودة    وغايته إمتاع المتلقي و إفادته.

و إن كانت المعايير الأولى(الوزن، القافية، اللفظ و المعنى) ترسم الملامح العامة للقصيدة، فإنها من الناحية الفنية تقصر بالشاعر إلى إدراك المفهوم الأدبي للمصطلح، و لذلك وجدنا ابن رشيق يربط بين الإبداع و الشعر فيقول" إنما سمي الشاعر لأنه يشعر بما يحس به غيره" .

القصيدة و ثنائية الطول و القصر:    

احتكم النقاد القدماء و المحدثين إلى معيار الكم للتفريق بين القصيدة و المقطوعة، فالجاري في حكمهم و عرفهم أن ما زاد على عدد معين من الأبيات فهو قصيدة، و ما قل عن هذا العدد فهو مقطعة و الحاصل من كل ذلك أن الاختلاف حول تثبيت عدد موحد يشكل إجماعا نقديا فتح باب نقاش واسع بين من يحكم معيار القصر و بين من يحكم معيار الطول، و على هذا الأساس تباينت آراء النقاد.

 

الناقد

عدد الأبيات

مقطعة

قصيدة

الأخفش

ابن جني

الفراء

ابن رشيق

ابن رشيق

03

 3أو 10 أو 15

20

7

10 أو 11

 

 

 

 

 

 

فالأخفش يرى أن ما كان من ثلاثة أبيات هو قصيدة، و يؤكد هذا في قوله" و مما لا يكاد يوجد في الشعر البيتان الموطئان، ليس بينهما بين (...) و ليست القصيدة إلا ثلاثة أبيات"

و إذا كان الأخفش من أنصار القصر، فإن ابن جني على خلاف ذلك إذ يقول" و في هذا القول من الأخفش جواز، و ذلك لتسميته ما كان على ثلاثة أبيات قصيدة" و أضاف" و الذي في العادة أن يسمى ما كان على ثلاثة أبيات أو عشرة أو خمسة عشر قطعة، فأما ما زاد على ذلك فإنما يسميه العرب قصيدة".

  و يذهب الفراء أبعد من ذلك، إذ يتصور أن القصيدة ما بلغت العشرين بيت فأكثر

في حين يقدم ابن رشيق قراءة للمسألة مستفيدا من هؤلاء النقاد الذين سبقوه في تحديد أبيات القصيدة، حيث يقول" [ و قيل إذا بلغت الأبيات سبعة فهي قصيدة و لهذا كان الإيطاء( عيب من عيوب الشعر)، و بعد سبعة غير معيب عند أحد من الناس(...) و من الناس من لا يعد القصيدة إلا ما بلغ العشرة و جاوز و لو بيتا واحدا(...) و يستحسن هنا أن تكون القصيدة وترا، و أن يتجاوز بها العقد( العشرين) أو توقف دونه]، كل ذلك ليدلوا على قلة الكلفة و إلقاء البال بالشعر" و الحق أن أية قراءة في جدول الأرقام هذا لا تجيز لنا ترجيح خيار على آخر، ذلك أن قضية الإطالة و القصر خاضعة عند الشعراء القدامى إلى التجربة الشعرية و إلى الموضوع الذي يطرقه الشاعر و بالظروف النفسية المحيطة  بالمتلقي للقصيدة.

و في هذا السياق سأل " أبو عمر بن العلاء" هل كانت العرب تطيل؟ فقال نعم ليسمع منها، قيل هل كانت توجز؟ قال: نعم ليحفظ .

  و تستحب الإطالة عند الأعذار و الأنذار و الترهيب و الترغيب و الإصلاح بين القبائل و التماس الأعذار: كأنك شمس و الملوك كواكب إذا بدوت لم تبدو منهن كوكب النابغة ( زهير بن أبي سلمى، الحارث بن حلزة)

  لا يمكن أن تقاس القصيدة بالعدد لكن عندما نصل إلى أعداد و نماذج كثيرة لا يمكن أن تحتكم لعدد مادام الشعر إحساسا فقد يكون غزيرا أو قليلا فالشعرية لا تحتكم بالعدد.

  أحيانا كثيرا يراعي الشاعر أثناء نظمه لقصيدة المتلقي، و الموضوع نفسه، فيقصر و يطيل حسب هذه العناصر.

   نظر النقاد إلى الطول و القصر مراعاة لنفسية و ظروف المتلقي( و غالبا يكون الحاكم، الخليفة) كالنابغة في وصفه للمندر:  ما بال عينيك منهما الماء ينسكب.

لأن الصفة ليست عامة أنما خاصة تنطبق على عبد الملك بن مروان.

المحاضرة الثانية:

  البدايات الأولى للقصيدة العربية( دراسات تاريخية فنية):

  يرى أحمد حسن الزيات في كتابه " تاريخ الأدب العربي" أن أولوية الشعر العربي مجهولة، فلم يقع هذا الشعر في سماع التاريخ إلا و هو محكم و مقصّد، و ليس مما يصوغ و يبرز في العقل أن الشعر بدأ ظهوره على هذه الصورة الناصعة الرائعة في شعر المهلهل ابن ربيعة و امرئ القيس، ذلك أن أي بداية تكون كمحاولات أولية تحتاج في كل مرة إلى التعديل و الإضافة لتظهر في صورة نهائية تتخذ كنماذج يسير عليها اللاحقون، و عليه فالشعر كذلك فقد اختلفت عليه العصور و تقلبت به الحوادث و عملت فيه الألسنة حتى تهذب أسلوبه و تشعبت مناحيه و مما يدل على أن هذا الشعر قديم العهد قول امرؤ القيس:

عوجا على الطلل القديم لعلنا      نبك الديار كما بكى بن جذام

و قول عنترة:

هل غادر الشعراء من متردم      أم هل عرفت الدار بعد توهم

و قول زهير:

ما نرانا نقول إلا معارا            أو معادا من القول مكرورا

 و قد ورد في كتاب إعجاز القرآن للباقلاني أن العرب بدؤوا بالنثر و توصلوا منه إلى الشعر و كان عثورهم عليه بالأصل بالاتفاق غير مقصود إليه فلما استحسنوه و استطابوه و رأوا الأسماع تألفه و النفوس تقبله تتبعوه و تعلموه و تكلفوا به.

  يؤكد ابن رشيق في كتابه العمدة ما ذهب إليه الباقلاني في معرض حديثه عن أولية الشعر العربي القديم إذ يقول:" كان الكلام كله منثورا فاحتاجت العرب إلى الغناء لمكارم أخلاقها، و طيب أعراقها، و ذكر أيامها الصالحة، و أوطانها النازحة، و فراسها الأمجاد، و سماحتها الأجواد لتهز أنفسها إلى الكرم(...) فتوهموا أعاريض جعلوها موازين الكلام، فلما تعر لهم وزنه سموه شعرا" . العمدة ص 20.

 و المضنون أن العرب خطوا من المرسل( النثر) إلى السجع و من السجع إلى الرجز، ثم تدرجوا من الرجز إلى القصيد، فالسجع هو الطور الأول من أطوار الشعر توخاه الكهان مناجاة للآلهة و تقييد للحكمة و تغمية للجواب، و فتنة للسامع و كهان العرب ككهان الإغريق هم الشعراء الأولون، زعموا أنهم مهبط الإلهام و أنجياء الآلهة فكانوا يسترحمونها بالأناشيد و يستلهمونها بالأدعية و يخبرون الناس بأسرار الغيب في جمل مقفاة و موقعة، و أطلقوا عليها اسم السجع، تشبيها بسجع الحمامة لما فيها من تلك النغمة الواحدة البسيطة، ثم تعددت الأوزان بتعدد الألحان فكان للحماسة وزن و كان للمدح وزن و للغزل وزن و هلم جرا.

الأصول الأولى للشعر العربي القديم:

 ظل الشعر العربي القديم طيلة أربعة عشر قرن (14قرن) أسير صيغة تقليدية ثابتة تحقق لها شكلها و بنائها و مقوماتها الفنية و الموضوعية في العصر الجاهلي قبل ظهور الإسلام بوقت غير قصير و هي صيغة قد غلب عليها عنصر بعينه يسري في أغراضها و أوزانها و لغتها، و معانيها و صورها الشعرية، و المقصود بهذا عنصر الوحدة ( وحدة البيت إلى الوزن إلى الغرض و القافية إلى اللغة، الصور أحيانا تتغير بشكل عجيب).

و تتمثل هذه الوحدة في وحدة الشطر و البيت و الوزن و القافية في القصيدة الواحدة.

أثبت صاحب جمهرة أشعار العرب أحاديث في الجن و أخبارهم و قولهم الشعر على ألسن العرب- أبو زيد القريشي ج. أ. ع في الجاهلية و الإسلام ص 42. 

في حين يقول ابن قتيبة:" لم يكن لأوائل الشعراء إلا الأبيات القليلة يقولها الرجل عند حدوث الحاجة" الشعر و الشعراء ابن قتيبة ص 51.

   و في التزام الشعراء العرب من العصر الجاهلي بالنظم في هذه الصيغة الثابتة على نحو أبانت عن ظهور أخرى أصبحت لإطرادها و غلبتها على الشعر العربي في عصوره و قصائده المختلفة من عيوبه الفنية المزمنة، و هي عيوب تتمثل من حيث الشكل في تكراره لأغراض، و معاني، و أوزان، و موسيقى و ما تؤديه رتابة.

  كما تتمثل من حيث المضمون في إثار الصفات العامة على ما عاداها من الخصائص الفردية، ذلك أن شعراء العرب كانوا يحرصون فيما يعرضون له من موضوعات على تجريد الأشخاص الذين يمدحونهم أو يهجونهم أو يتقربون منهم من صفاتهم الفردية بأن يصبوا فضائلهم و مساوئهم في قوالب نمطية يخفونها تحت أقنعة من المعاني المطلقة، الأمر الذي جعل من القصيدة في صيغتها التقليدية ثابتة عاجزة عن مواكبة التطور الذي أخذ يجد       -يستجد- عن الحياة العربية عبر عصورها المختلفة.* 

 و الأكيد أن القصيدة الجاهلية و هي الصيغة الفنية المثلى التي صيغ فيها أقدم ما وصل إلينا من الشعر الجاهلي، هي تنتسب من الناحية التاريخية إلى فترة قريبة من ظهور الإسلام، و أنها مرت بمراحل طويلة من التطور قد انتهت إلى هذه الصيغة المكتملة و هي مراحل لا يعرف عنها شيء لضياع أصولها و هذه القصيدة تتألف من عنصرين:

1-   عنصر شكلي أو موضوعي: و نقصد به احتوائها على عدد من الأغراض التي تتكرر من قصيدة إلى أخرى و هي في أغلب الأحوال متمثلة في الوقوف على الأطلال و الغزل و الضغائن و الرحلة و ما يتصل بها من وصف للناقة التي تحمل الشاعر و تشبهها في قصص الصيد المعروفة بالضبي و الحمار الوحشي في أغلب الأحيان، و أخيرا ما يختم به القصيدة من مديح أو هجاء أو فخر أو رثاء أو غير ذلك من الأغراض التي نظم الشاعر القصيدة فيها.

2-  عنصر فني: يختص بأسلوب الشاعر و طريقته الفنية في استغلال الامكانيات الموضوعية ( الرحلة، الصيد)، و اللغوية و التصويرية و الموسيقية في تشكيل البناء الفني لقصيدته.  


المحاضرة الثالثة :

بناء القصيدة العربية و تطورها:

البناء الهيكلي للقصيدة العربية:

قسم حازم القرطجني أنماط الشعر العربي و أشكاله إلى قسمين:

1-   قصائد و مقطعات: و ميز بين القصيدة المركبة من القصيدة البسيطة المستقلة الموضوع فقال" و القصائد منها بسيطة الأغراض و منها مركبة، و البسيطة مثل القصائد التي تكون مدحا صرفا أو رثاء صرفا، و المركبة هي التي تشتمل الكلام فيها على غرضين مثل أن تكون مشتملة على نسيب و مديح، و هذا أشد موافقة للنفوس الصحيحة الأذواق لما ذكرناه من ولع النفوس بافتنان في أنحاء الكلام و أنواع القصائد".

و في السياق نفسه حاول ابن قتيبة تحديد بناء القصيدة المركبة حسب التقاليد الفنية الموروثة زاعما أن شيوخ الأدب هم اللذين سنوا نهج القصيدة العربية المركبة من خلال ما تيسر لهم الإطلاع عليه من الشعر الجاهلي، فقال" و سمعت بعض أهل الأدب يذكر أن من مقصد القصيد إنما ابتدأ فيها بذكر الديار و الدمن و الآثار فبكى و شكا و خاطب الربع و استوقف الرفيق، ليجعل ذلك سببا لذكر أهلها الطاعنين عنها،...ثم وصل ذلك بالنسيب فشكا شدة الوجد، و ألم الفراق و فرط الصبابة و الشوق ليميل نحوه القلوب و يصرف إليه الوجوه و ليستدعي به إصفاء الأسماع، لأن النسيب قريب من النفوس لائط(ملتصق)  بالقلوب إنما جعل الله في تركيب العباد من محبة الغزل و ألف النساء فليس يكاد أحد يخلو من أن يكون متعلقا منه بسبب ضارب فيه بسهم حلال أو حرام، فإذا علم أنه قد استوثق من الإصغاء إليه و الاستماع له، عقب بإيجاب الحقوق فرحل في شعره و شكل النهب ( التعب) و سهر الليل و شرى الليل، و حر الهجير و إضناء الراحلة و البعير، فإذا علم أنه أوجب على صاحبه حق الرجاء و ذمامة التأميل و قرر عنده ما ناله من المكاره في المسير، بدأ في المديح، فبعثه عن المكافئة و هزه للسماح و فضله على الأشياء.

فالشاعر المجيد من سلك هذه الأساليب و عدل بين هذه الأقسام فلم يجعل واحد منها أغلب على الشعر و لم يطل فيمل السامعين و لم يقطع و بالنفوس ظمئ للمزيد. ابن قتيبة الشعر و الشعراء من ص 74-75-76. 

شرح: يرى د/ عز الدين إسماعيل في مقال له بعنوان النسيب في مقدمة القصيدة الجاهلية في ضوء التفسير النفسي أن العنوان يوحي بالفصل بين الأطلال و النسيب فيقول أن النسيب هو ذكر الهوى و الغزل و إبلاغ في وصف المرأة.

كما هو الحال عند ابن قتيبة، غير أن إسماعيل يشير إلى أن مصطلح النسيب يشمل الأطلال و ذكر المرأة معا من حيث أن الشاعر الجاهلي قد جمع بين هاذين الشعورين: الشعور بالبهجة المرتبطة بالغزل و الشعور بالحزن المرتبط بالأطلال.

 و على هذا الأساس يمكن أن تصبح القصيدة المركبة تامة البناء مكتملة الجوانب في نظر ابن قتيبة و من نقل عنه من أهل الأدب أو شيوخ الأدب، و قد نظروا إلى القصيدة في علاقاتها بالمتلقي( الممدوح) أكثر مما نظروا إليها من ناحية علاقتها بالشاعر و هم ينطلقون من تفسير نهج القصيدة من اعتبارات اجتماعية يؤكدها ابن رشيق و كثيرون سواه حينما يحتج بحسن الافتتاح في المديح لأنه داعية الانشراح و مطية النجاح و لطافة الخروج سبب ارتياح الممدوح. فالشعر قفل أوله مفتاح و ينبغي على الشاعر أن يجوّد.

 و يلاحظ أن ابن قتيبة حاول أن يرسم صورة تقريبية مما كان رائجا في تناولهم قصيدة المدح التي كانت تميزها ثلاث مراحل أساسية و هي:

1-   المقدمة: على اختلاف أغراضها و قد تكون نسيبا و قد تكون حديثا آخر مثل: الطيف أو الطلل أو الشيب و الشباب أو سوى ذلك.

   إن المقدمة التي تنفرد بذكر أحوال الطبيعة ( السماء) و صرف النبات و الحيوان، و أشكال الطيور يلاحظ فيها: أن الشاعر يتتبع الأطلال برثاء من كان يسكنها، أو رثاء شخص بعينه أو حتى رثاء نفسه( لا يجوز النسيب هنا).

   إن وصف المقدمة لغويا ينقسم إلى قسمين بحسب نظر " حسن البنا عز الدين"

مقدمة أ: توصف المقدمة فيه من خلال الطلل و يختفي النسيب( يعول على الطلل و يخفي النسيب) ممكن أن تكون في غرض الرثاء.

 مقدمة ب: توصف فيها المقدمة من خلال دراسة علاقة الأطلال بهذه التقاليد مثل: الضغن، الطيف، الرحلة. 

2-    الرحلة: و يتم خلالها وصف الراحلة و عناء السفر في البيداء و يتحدث الشاعر خلال ذلك عن حيوان الصحراء الوحشي، و الصراع من أجل الحياة ثم يتحدث عن معاناة هذه الوحوش في ظل واقع قامع و طبيعة شرسة مدمرة، و من خلال هذا التصوير لمظاهر الطبيعة الخارجية بعكس شيء من ذاته بل يجسد حالته النفسية من هذا الصراع.

3-    المدح: حيث لا يقف حد المدح عند الثناء وحده بل يتجاوزه إلى حديث يضع الممدوح ليطلع على خلفية الشاعر و غايته مثل تلميحه في حديثه عن الفقر و الخوف من المصير و تصوير النفس و محاورة الزوج و وصف حال الأولاد و المبالغة في إطراد الممدوح و وصف سلوكه و واقعه الاجتماعي و الطبقي و قد اشترط النقاد في المتكلم شاعر أو كاتب أن يراعي ثلاث مواضع في كلامه حتى يكون أعذب لفظا و أحسن سبكا و أوضح معنى: أولها الابتداء و ثانيها التخلص و ثالثها الابتداء.

فالأول أي الابتداء يسمى براعة الاستهلال أو حسن الابتداء و أحسنه ما يناسب المقصود

و الثاني التخلص و يسمى الخروج و هو عندهم شبيه بالاستطراد لأن الخروج كأنما تخرج من نسيب إلى مدح أو غيره بلطف حتى لا يشعر السامع بانتقال من المعنى الأول إلى المعنى الثاني.

و الثالث الانتهاء و سمي المقطع و هو قاعدة كل كلام و خاتمته و آخر ما يبقى في الأسماع و سبيله أن يكون محكما لا تمكن الزيادة عليه، و لا يأتي بعده أحسن منه و إذا كان أول الكلام مفتاح له، وجب أن يكون الأخير قفل عليه

·         عادة ما يصبح الطلل مُلهِما و الشاعر مُلهَما ( علاقة تأثير و تأثر) ملهما و خلاق قادر على استنطاق الشاعر. 

يرى " بروكلمان " أن هذه المقاييس التي حددها النقاد لنهج القصيدة المركبة، كانت انطلاقا من النصوص التي ورثوها عن العصر الجاهلي، و ألزموا الشعراء المتأخرين اتباعها فكان ذلك مدعاة إلى تكرار بعض أوصاف حيوان الوحش و أوصاف العير، و ما يلاقيه الشاعر من عناء رحلته، و بكثرة هذا التكرار صارت هذه التشبيهات و الأوصاف نفسها من لوازم الأسلوب الشعري الفني، فيما بعد و ربما كان كل ذلك مساعدا للمتأخرين على انتحال أشعار القدماء، و إذا كان بعض الشعراء الأمويين قد حرصوا على هذه التقاليد الفنية و لم يحيدوا عنها بل أصلوا بنائها و أقروا أساسياتها و أضافوا عليها بعض من إبداعاتهم في تنويع المقدمات أو الرحلة، فإن شعراء العصر العباسي الأول تخلصوا من الالتزام بنمط القصيدة القديمة خاصة المقدمة و الرحلة لأن الغاية الأساسية من هذا التقليد لم تعد ذات قيمة ما دامت أغلب القيم الاجتماعية في تغير مستمر، و كان ذلك أثره على تطوير نظرة الإنسان للحياة و الوجود و الفن و الشعر. 


قدامة بن جعفر: نقد الشعر، تح كمال موافي،مكتبة الخانجي للنشر والطبع والتوزيع، القاهرة، ط3، 1978ص17. []

 جابر عصفور:قراءة التراث النقدي ،مؤسسة عيبال للدراسات والنشر،ط1، 1991قبرص ص25.[]

ينظر حسن البنا عز الدين: الكلمات والأشياء( بحث في التقاليد الفنية للقصيدة الجاهلية) دارالفكر العربي، مصر، دط، دت، ص  56. []

[]  طه حسين، في الأدب الجاهلي: دار المعارف ط 19، القاهرة 2011.

عبد العزيز موافي:قصيدة النثر( من التأسيس إلى المرجعية) الهيئة المصرية العامة للكتاب، دط، 2006.ص 40. []

*  مثلا نظروا إلى القصيدة الجاهلية مقارنة بالقصيدة الحالية في العصر العباسي- القصيدة كانت شفهية- كل ناقد له اتجاهه و منهبه لا يجد الناقد ركيزة قوية يستند عليها.

*  ينتزع من الممدوح صفاته الشخصية و يأتي بصفات عامة تنعكس على عدة أناس.