لنستحضر أولا معاني كل من الفلسفة باتجاهاتها ومذاهبها وطبيعتها، وثانيا العلم بطبيعته ومناهجه وما يميزه عن الفلسفة.

إن فلسفة العلوم أحد فروع الفلسفة الذي يهتم بدراسة الأسس الفلسفية والافتراضات والمضامين الموجودة ضمن العلوم المختلفة، بما فيها العلوم الطبيعية مثل الفيزياء والرياضيات وعلم الأحياء، والاجتماعية مثل علم النفس وعلم الاجتماع والعلوم السياسية. ومنه يبدو أن فلسفة العلوم تتضمن فلسفة تنظر في كل علم على حدى، وبهذا نتحدث عن فلسفة الرياضيات، وفلسفة الفيزياء، وفلسفة التاريخ.....إلخ

بهذا المفهوم تكون فلسفة العلوم وثيقة الصلة بنظرية المعرفة، فهي تبحث عن أشياء مثل: طبيعة وصحة المقولات العلمية، طريقة إنتاج العلوم والنظريات العلمية، طرق التأكد من النتائج والنظريات العلمية، صياغة وطرق استعمال الطرق العلمية المختلفة أو ما يدعى بالمنهج العلمي، طرق الاستنتاج والاستدلال التي تستخدم في فروع العلم كافة.

وفلسفة العلم ليست جزءا من العلم ذاته، وهي ليست ممارسة للعلم، بل هي حديث فلسفي عن العلم، أي أنها لا تقدم معارف علمية، بل تتفلسف حول تلك المعارف وحول المناهج التي توصلت إليها. لأن فلسفة العلوم تأتي في صعيد وحدها لأنها حديث عن ذلك العلم، فعندما نقول عن علم الاجتماع أنه علم وصفي لا يكون هذا القول من علم الاجتماع وداخل ضمن قضاياه بل حديث عن علم الاجتماع، وبالمثل عن العلوم الأخرى.

وتتناول فلسفة العلم الموضوعات التالية :

1- الأسس النظرية لكل علم

2-  المبادئ العامة لكل علم

3- ظروف تبلور كل علم وتطوره

4-  أساليب كل علم

ومما تجدر الإشارة إليه أنه إذا كانت إشكاليات العلم وآثارها على الإنسان واحدة، فإن الفلسفات التي تدرسها متعددة تبعاً لمذاهبها وتياراتها ومدارسها، وكل فلسفة تنظر إلى هذه المشكلة العلمية من زاوية معالجتها وآثارها الراهنة والمستقبلية على حياة الإنسان. وعلى العموم تتسع فلسفة العلوم إلى المجالات التالية:
*-  الجانب الأنطولوجي يتصل بنظرية الوجود الفلسفية، والذي يعنينا منها بالنسبة للعلم هو المترتبات الفلسفية على التصورات أو المفهومات العلمية مثل المادة أو الطاقة أو الموجة , وكذلك تركيب الذرة , وطبيعة المجال والحركة . فكل تلك المفهومات قد تبعث لدى بعض الفلاسفة تساؤلاً عن الوحدات الأساسية التي يمكن أن يُنسج منها الكون . ومهما تكن الإجابة على ذلك التساؤل , فإنها إجابة لا تندمج في تكوين العلم نفسه , بل هي إجابة تنتمي إلى فلسفة العلم ,أي أن قبولها لها أو رفضها إياها لا يعتمد على الاستدلال العلمي بل يقوم على ما ترتضيه من نسق فلسفي .
*- الجانب الإبستيمولوجي يتعلق بنظرية المعرفة الفلسفية، وهي النظرية التي تتألف من محاور ثلاثة . يحدد الأول إمكان المعرفة ؛ ترى هل يملك الإنسان حقاً القدرة على بلوغ الحقيقة عن طريق العلم ؟ ويعين المحور الثاني طبيعة المعرفة ؛ أي طبيعة العلاقة بين الباحث وموضوعات بحثه , هل هي من إنشاء عقله أو هي واقع خارجي مستقل عن إدراكه , مثل هل يمكن القول بأن الإلكترون موجود ؟. والمحور الثالث يتعلق بأدوات المعرفة ومصادرها , هل هي العقل , أو الحدس ,أو معطيات الحس .
*- الجانب الأكسيولوجي ينضوي تحت نظرية القيم في الفلسفة , ولا يعني هذا في فلسفة العلم ربط العلم بالأخلاق فحسب، بل يتسع لكل أنواع القيم ,فضلا عن تصوير العلم بوصفه مشروع إنساني يستهدف غايات معينة مستخدمة وسائل محددة لتحقيقها .
وهناك أيضاً "سيكولوجية العلم" التي تبحث في العمليات النفسية والعقلية التي تتعلق بالكشف العلمي، وما يقترن بها من القدرات الإبداعية والخيالية الموجهة لحل المشكلات العلمية .وكذلك "سوسيولوجيا العلم " التي تدور أبحاثها حول التفسير الاجتماعي لتطور العلم ونظرياته , وتطور تقبل المجتمع لها بالإشارة إلى أسلوب التنظير العلمي ونمطه الذي يعكس في مرحلة معين على أوضاع المجتمع الثقافية و الاجتماعية و الاقتصادية والسياسية .

وهناك "تاريخ العلم" الذي يعنى بالبحث الذي يتتبع نمو المشكلات العلمية وتطورها، وما قدمه العلم من نظريات أو حلول لتلك المشكلات في نطاق سياقه الاجتماعي الثقافي.

غير أن فايجل و زملائه من التجريبيين المنطقيين يضعون تفرقة حاسمة وقاطعة بين تلك المجالات وبين فلسفة العلم، وقد أطلقوا على تلك المجالات عنواناً مستحدثاً خاصاً وهو "علم العلم Science of Science"، وعلم العلم كما يقول كارناب تحليل ووصف العلم من وجهات نظر متعددة مثل المنطق،  وعلم المناهج , وعلم الاجتماع وتاريخ العلم .إلا انه يعود ويقرر أن المهمة الرئيسية لعلم العلم هي تحليل لغة العلم , بل إن مهمة الفلسفة بأسرها هي تنمية منطق ومناهج بحث العلم على النحو الذي يحول أكثر مشكلات الفلسفة التقليدية إلى مشكلات علم العلم بحيث تكون مهمة الفلسفة تحليلاً للغة العلم .
وخلاصة القول أن فلسفة العلوم ليست في الحقيقة – مهما اختلفت الرؤى – ليست علما يضاف إلى قائمة العلوم كأنه علم واحد منها، ولكنه يأتي بعد العلوم كلها، فيحلل طرقها ومبادئها ونتائجها.

المحاضرة 02

فلسفة الرياضيات (من الهندسة الاقليدية إلى الهندسة اللااقليدية، أو أزمة الأسس في الرياضيات وظهور النسق الآكسيومي).

مجال حديثنا في هذه المحاضرة "فلسفة الرياضيات"، وهي كما سلفت الإشارة إليه تندرج ضمن "فلسفة العلوم". هذا ويتميز ميدان فلسفة الرياضيات بطبيعة ونوعية الأسئلة التي يطرحها ويحاول الإجابة عنها، ومن بين الأسئلة الرئيسة التي تطرحها فلسفة الرياضيات ما يلي:

*- ما هي طبيعة الموضوعات الرياضية؟

*- هل الرياضيات ضرورية للعلوم الأخرى؟

*- لماذا تعتبر الرياضيات فعالة في التعبير عن القوانين الطبيعية؟

*- ما هو الفرق بين الرياضيات البحتة والرياضيات التطبيقية؟

*- بأي معنى من المعاني نستطيع القول بأن الكائنات الرياضية موجودة؟

*- ما هو مفهوم الكائن الرياضي؟

ما هو مفهوم الوجود في ميدان الرياضيات؟

ما هو مفهوم الصدق الرياضي؟

      إنّ الإجابة عن هذه الأسئلة تختلف باختلاف المدارس الفلسفية، ونجد في فلسفة الرياضيات المدارس التالية:

1) الأفلاطونية الرياضية أو الواقعية الرياضية.

2) المنطقانية أو اللوجستيك.

3) الصورانية.

4) الحدسانية.

5) البنائية الرياضية.

6) المواضعاتية.

      ومن بين أهم المواضيع التي تبحثها فلسفة الرياضيات أزمة أسس الرياضيات، وحتى نفهم المسألة ينبغي التقديم لها.

في الرياضيات يبرهن الرياضي على قضية (أ) مثلا بإرجاعها إلى قضية (ب) تمّت البرهنة عليها من قبل، ومعنى هذا أنّ القضية (ب) قد برهن عليها بالقضية (ج)، وتسمى القضية التي تمّت البرهنة عليها بـ "المبرهنة".

لكن لا يتمّ التراجع إلى ما لا نهاية، بل يتوقف البرهان عند قضايا نبرهن عليها ولا نبرهن عليها وإلاّ استحال البرهان، وتسمى هذه القضايا في مقابل المبرهنات بـ "اللامبرهنات"، وهي تمثل مبادئ البرهان وأولياته وأسسه؛ والسؤال الذي يتبادر إلى الذهن: ما هي هذه القضايا الأولية التي يتأسس عليها البرهان، ولماذا لا نبرهن عليها؟

مبادئ البرهان في الرياضيات الكلاسيكية:

كان الرياضي اليوناني أقليدس (306- 283 ق.م) أول من أوضح أنّ البرهان الرياضي يشكل نسقا نبرهن فيه على قضايا بقضايا أخرى لا نبرهن عليها، وهي:

1) البديهيات:

قضايا أولية صادقة (= بيّنة، واضحة) بذاتها، يجزم العقل بها من دون برهان. ومن أمثلتها:

- الكل أكبر من الجزء.

- المساويان لثالث متساويان.

2) المصادرات:

وتسمى أيضا: الموضوعات والمسلمات. هي قضايا غير بينة بذاتها، وهي مما يضعه العقل، أي يسلم بصدقها لكي يستطيع بناء البرهان الرياضي المطلوب، ومن أمثلتها من المصادرات التي وضعها أقليدس:

- المكان ذو ثلاثة أبعاد؛ طول، عرض، عمق.

- من نقطة خارج مستقيم لا يمكن أن نرسم سوى خط مواز له.

- الخطان المتوازيان لا يلتقيان مهما امتدا.

3) التعريفات:

ومثالها: تعريف المثلث، الدائرة........إلخ.

نتيجة أولية:

يتضح مما سلف أنّ التصور الكلاسيكي لمبادئ البرهان يميّز بين البديهية والمصادرة، ويعتبر البديهية قضية يقينية تفرض نفسها على العقل، وبناء على ذلك النتائج المستنبطة يقينية مطلقة.

تطور الرياضيات والنقد الداخلي للتصور الكلاسيكي:

*- تطورت الرياضيات وظهرت نظريات ومفاهيم جديدة منها نظرية المجموعات وفكرة اللامتناهي، تبين أنه لا يكون الكل أكبر من الجزء إلا إذا كانت المجموعتان متناهيتين.

*- في الهندسة الاقليدية يستعين البرهان بالأشكال والرسوم، ومعنى هذا أن البرهان يستمد صدقه من مطابقته للواقع الحسي في مجال يتصف بالتجريد.

من الهندسة الأقليدية إلى الهندسة اللأقليدية:

*- لو تساءلنا: لماذا من نقطة خارج مستقيم لا يمكن أن نرسم سوى خط مواز له؟ مثلا، لا نجد جوابا ضمن مصادرات أقليدس (28). وحاول الرياضيون في مختلف العصور بعد أقليدس مناقشة مبادئ هندسته، خصوصا المصادرة المذكورة دون جدوى، وفي  العصر الحديث أثار الرياضيون المسألة من جديد، ونتج عن ذلك هندسات لا إقليدية .

كان العالم الرياضي الروسي لوباتشفسكي (1793- 1857م) أول من أثار الشك حول مصادرة أقليدس التي ذكرناها، وتمكن عام 1830م من نقضها حيث اهتدى الى الاساس الذي بنيت عليه، وهو المكان المستوي، وتصور مكانا آخر يختلف عنه وهو المكان المقعر (كرة من داخل).

بعده جاء العالم الرياضي الألماني ريمان (1826- 1856م) وشكك ايضا في المصادرة المذكورة، وتمكن عام 1854م من نقضها على أساس آخر، وتصور المكان محدبا (كرة من خارج).

وهكذا ظهرت هندستان جديدتان مخالفتان لهندسة أقليدس:

 

اقليدس

لوباتشيفسكي

ريمان

المكان الهندسي

مستو انحناؤه= 0 (لم يصرح)

مقعر انحناؤه أقل من 0

محدب انحناؤه أكبر من 0

من نقطة خارج مستقيم

مواز واحد

مالانهاية من الموازيات

0

مجموع زوايا المثلث

180 درجة

أقل من 180

أكثر