المحاضرة السادسة: الكليات الخمس. المقولات ونظرية التعريف

 

I- الكليات الخمس (Les cinq universaux ):

         لو ذكرت أمام شخص ما الاسم "جالينوس" مثلا، وهو لا يعرفه، فإنه سيسأل ما جالينوس هذا؟ فتجيب: إنسان. وإذا تمادى فسأل: وما الانسان؟ فستجيب: حيوان. ولأنّك تعلم أنّ ماصدق "حيوان" يعم الإنسان وغير الإنسان، فإنك تميزه قائلا: حيوان عاقل......

في محاولة تعريفك لـ "جالينوس" وهو حد جزئي، استخدمت ثلاثة حدود كلية: إنسان، حيوان، عاقل. ولو سئلت: جالينوس هذا عالم أم فنان.....؟ تجيب: طبيب. وهذا حد كلي أيضا. وقد تضيف فتقول: كان لون شعره كذا، وهذا لفظ كلي كذلك.

مجموع هذه الألفاظ الكلية خمس، ويلاحظ أننا استعملناها لوصف شيء ما، وتحدثنا بها عنه، وحملناها عليه، ولذلك تعرف بـ الكليات أو المحمولات الخمس، ومما سلف يتضح أنها:

تعريف الكليات الخمس:

         ألفاظ كلية يتضمن معناها العام حقائق جزئية. وهي، وإن كانت في روحها أرسطية؛ إلا أنها من تصنيف الفيلسوف فرفوريوس الصوري في كتابه إيساغوجي أو المدخل، وليس أرسطو. وتتقسم إلى ذاتية (جوهرية، ضرورية، أساسية)، وعرضية (ثانوية).

الكليات الذاتية:

1- النوع (Espèce): «هو المحمول على كثيرين مختلفين بالعدد من طريق ما هو؟»، وبعبارة أخرى هو حد كلي يقال على أفراد كثيرين، يتفقون في صفة أو صفات أساسية.

مثال:

الإنسان (نوع) يقال على أفراد: محمد، علي، فاطمة،..............الخ.

المثلث (نوع) يقال على: مثلث قائم الزاوية، الحاد الزاوية، المتساوي الأضلاع..........الخ.

2- الجنس (Genre): «المحمول على كثيرين مختلفين بالنوع من طريق ما هو؟». أو هو لفظ كلي يقال على أنواع متفقة في صفة أو صفات أساسية.

مثال:

الحيوان: (جنس) يقال على: العاقل+ غير العاقل = أنواع: طيور، جوارح، قوارض.....الخ

الشكل الهندسي (جنس) يقال على: المثلث، الدائرة، المربع..............الخ.

         هذا، والجنس إما قريب مثل حيوان بالنسبة للنوع إنسان. وإما بعيد مثل كائن حي بالنسبة للنوع إنسان.

3- الفصل النوعي (Différence spécifique): «الفصل هو الذي من شأنه أن يفرق بين ما تحت جنس واحد بعينه»، أو بعبارة أبسط هو لفظ كلي يقال على نوع ما لتمييزه عن أنواع أخرى داخل جنس واحد.

مثال:

ناطق، أو عاقل فصل نوعي يقال على: النوع "إنسان" لتمييزه عن الأنواع الأخرى داخل الجنس "حيوان".

ذو ثلاثة أضلاع وثلاث زوايا فصل نوعي يقال على: النوع "مثلث" لتمييزه عن الأنواع الأخرى (مربع، معين، دائرة، مستطيل) داخل الجنس "شكل هندسي".

 الكليات العرضية:

4- الخاصة (Propre): لفظ كلي عرضي يشير إلى صفة ثانوية يشترك فيها بعض أفراد نوع واحد دون الأنواع الأخرى. وعرفها الجرجاني بقوله: «كلية مقولة على أفراد حقيقة واحدة فقط قولا عرضيا»

مثال: كاتب، مدخن، راقص؛ صفات عرضية لا يتصف بها جميع أفراد النوع إنسان وإنّما تخص

بعضهم، ولا يتصف بها أفراد من أنواع أخرى. وهي صفة عرضية لأنها ليست مقوما ذاتيا لماهية من يتصف بها.

5- العرض العام (Accident général): «هو الذي ليس بجنس ولا فصل ولا نوع ولا خاصة، وهو أبدا قائم في موضوع»، وبتعبير أوضح هو لفظ كلي يشير إلى صفة ثانوية عامة، يشترك فيها أفراد أكثر من نوع واحد.

مثال: السواد، المشي على رجلين، الإبصار بعينين...

ترتيب الكليات الخمس:

         باعتبار أننا نتحدث عن الانسان، يمكن ترتيب عمومية التصورات في رسم بياني يدعى "شجرة فرفوريوس"، حيث يوضح اندراج الأفراد تحت النوع، واحتواء الجنس للنوع ،  وفيه يتبين أنّ:

أ/ كل ما فوق النوع "إنسان" جنس له، بدء بالجنس القريب، فالمتوسط، فالبعيد، فالجنس الأعلى.

ب/ وكل ما هو تحت جنس نوع.

ج/ الجنس جنس بالنسبة لنوع تحته، وهو نوع بالنسبة لجنس فوقه.

II-المقولات (Les catégories):

         إذا رجعنا إلى القياس الذي بدأنا به دراسة منطق الحدود لأرسطو؛ وجدناه، مثلما سلف الذكر، مؤلفا من ثلاث قضايا، وكل قضية هي قول يتضمن حدين، الحد الأول هو موضوع القول، والحد الثاني يُحمل على الأول ويُقال عليه، مثال ذلك قولنا: كل إنسان فان.

ولكن إذا قلنا هنا عن الانسان أنّه فان؛ فلا ينحصر الأمر في صفة الفناء، إذ بالمثل نقول عنه مثلا: طويل، أو في المدرج، أو ضرب، أو هو ابن آدم، وأنواع الدلالات في القول تلك حصرها أرسطو في عشر، سمّاها "المقولات"، وخصها بكتاب المقولات حيث ذكرها بتمامها، ومثل ذلك في كتاب الطوبيقا، ولا يخلو كتاب للمعلم الأوّل من ذكرها أو الإشارة إليها.

تعريف:

         بتعريف أدق «المقولة معنى كلي يمكن أن يدخل محمولا في قضية »، أو هي مختلف أنواع المحمولات التي يمكن أن يوصف بها موضوع ما أو تحمل عليه، ومعنى هذا أن في قولنا: كل إنسان فان، المقولة هي "فان"، فهي إذن تطلق على ما يسمى في القضية محمولا، وذلك لأنه مقول على الموضوع، وهذا الذي يبرر الحديث عنها في المنطق، وإن كانت في حقيقتها تنتمي أصلا إلى مبحث الوجود (الأنطولوجيا)، وأثارت جدلا حول عددها وطبيعتها وكيف تستخرج مما ليس هذا مجاله.

         هذا، وقد  جمع أحدهم  المقولات الأرسطية في بيتين، فقال:

            زيد، الطويل، الأسمر، ابن مالك            في داره، بالأمس، كان متكئ

             في يده سيف، لواه، فالتوى                 فهذه العشر مقولات سوا

وسنتعرّف إليها باختصار اعتمادا على هذين البيتين.

1- الجوهر- (زيد): يعرفه أرسطو «الموصوف بأنه أول بالتحقيق والتقديم والتفضيل، فهو الذي لا يقال على موضوع ما، ولا هو في موضوع ما»، وإذا كان في كلام أرسطو ما يومئ إلى أن الجوهر يقابله العرض؛ فإنه ينبغي التمييز- كما فعل هو ذاته – بين الجوهر الأول (Substance première) وهو الكائن المفرد مثل: (زيد، سقراط...) الذي لا يكون إلا موضوعا في القضية. والجوهر الثاني (Substance seconde) كالإنسان والحيوان، فهذا يكون موضوعا ويكون محمولا، فلا حجة لمن يقول أن الجوهر ليس مقولة، ويدعي تصحيح أرسطو والقول أنها تسعة فقط بإبعاد مقولة الجوهر. (2) الكم (الطويل): ما يقال عن شيء ما في جواب كم هو؟، ويطيل أرسطو في التمييز بين الكم المتصل والكم المنفصل، وخصائص مقولة الكم ممّا نحن في غنية عنه.(3) الكيف (الأسمر): ما يقال على الشيء في جواب كيف هو؟. (4) الإضافة (ابن مالك). (5) المكان/ الأين (في داره). (6) الزمان/ المتى (بالأمس). (7) الوضع (متكئ). (8) المِلْك (في يده سيف). (9) الفعل (لواه). (10) الانفعال (فالتوى).

 

III- نظرية التعريف /الحد (Définition):

         عندما شرعنا في دراسة التصور، لاحظنا أنّ العقل أدرك معنى وحقيقة أو ماهية "إنسان" و"مثلث"، وتمثل صورتهما، بينما تعذّر ذلك فيما يتعلق بـ "خنشفار"، و"عنزائيل"، وترجمتم أنتم أنفسكم عدم حصول صورة هذين الأمرين في الذهن بالتساؤل: ما هو الخنشفار؟ وما هو عنزائيل؟

         إنّ السؤال ما هو الشيء هو طلب تعريفه، وتعريفه يقتضي شرح اللفظ وتحليله حتّى يصير واضحا في ذهن من يجهل معناه، وهنا فقط إذا ما روعيت قواعد التعريف وشروطه التي سنأتي على ذكرها، نستطيع أن نكوّن التصورات في أذهاننا، أي تمثّل صورتها وإدراك حقيقتها، وبدون ذلك يتعذر التصوّر حيث يدرك العقل الشيء المفرد، وبالتالي تتعطل القدرة على الربط بين مفردين لتكوين قضية، ومن ثمّة إيجاد رابط بين قضيتين لتأليف الاستدلال.

         وهكذا يتضح أنّ جميع الأبحاث السابقة ليست سوى تمهيدا لمبحث التعريف، فهذا الأخير هو جوهر مبحث التصورات، مثلما القياس هو جوهر مبحث الاستدلال، وذلك لأنّ المنطق موضوع لأجل العلم، والعلم كما سلف بيانه إما تصور ينالُ بالتعريف، وإماّ تصديق أو قضية يُوصلُ إليها بالقياس، وهذا الذي أدركه المنطقيون المسلمون وعبّر عنه ابن سينا عندما حصر موضوع المنطق في نظريتين أساسيتين؛ هما التعريف الموصل إلى تصور صحيح، والبرهان الذي يحدّد آليات التصديق.

         هذا، ولقد بحث أرسطو نظرية التعريف أو الحد في المقالة الثانية من كتاب "البرهان" أو "التحليلات الثانية" كاملة، وكذا في بعض فصول المقالة الأولى من كتاب "الطوبيقا" أو الجدل، وفي المقالة السادسة منه بجميع فصولها، مع العلم أنّ النظرية تلك أضيف لها الكثير ممّا سنتركه جانبا، ونكتفي بما لأرسطو تبعا لما يفرضه المقام.

تعريف التعريف (الحد):

         ينبغي أولا عدم اعتبار العبارة التالية: "المثلث هو الشكل الهندسي المستوي المحاط بثلاثة خطوط مستقيمة متقاطعة مثنى" كلها تعريفا، بل إنها تنحل إلى جزأين:

                            1) المُعرَّف: وهو المثلث.

2) التعريف: وهو باقي العبارة، وهذا هو موضوع بحثنا.

         أمّا فيما يخص التعريف، فإنّ أرسطو الذي يرى أنّ الغرض منه هو البحث عن الماهية، فيعرفه بقوله: «الحد هو القول الدال على ماهية الشيء».

أنواع التعريف:

         وتبعا لذلك، يميّز أرسطو بين نوعين من التعريف؛ تعريف يفيد ماهية الشيء، وتعريف لا يفيد لكنه يعيّن علاقة لفظية بين المحدود (المُعرَّف) والحد (التعريف) الذي يشير إليه، وعلى هذا الأساس أقيم التقسيم بين التعريف بالحد الحقيقي، والتعريف بالحد اللفظي.

أ) التعريف بالحد اللفظي:

         ويسمى حد بحسب الاسم أو الاسمي (Définition nominale) وهو تعريف يبيّن

معنى لفظ بآخر أوضح منه أو بجملة من الألفاظ، كما هو الحال في معاجم اللغة.

ب) التعريف بالحد الحقيقي:

         وهذا هو التعريف الحقيقي (Définition réelle)، أو الحد الذاتي (Définition essentielle) الذي يبيّن حقيقة شيء ما، وحتى يكون كذلك؛ يتعيّن أن يكون بالماهية، وليس تعريفا بالرسم (Description)، الذي يكون بذكر الصفات العرضية كالخاصة والعرض العام اللذين حددنا معناهما في الكليات الخمس. وحتى يكون التعريف حقيقيا تاما؛ ينبغي مراعاة جملة من القواعد نحاول استنباطها اعتمادا على مجموعة أمثلة، ودون الخروج عمّا قرره أرسطو.

قواعد التعريف الحقيقي:

* الأسد هو القسورة/ الذهب هو العسجد/ الجمل هو سفينة الصحراء.

         إذا كان الغرض من التعريف توضيح مفهوم اللفظ حتى يصبح واضحا؛ فمن البيّن أنّ تعريف الأسد بالقسورة والذهب بالعسجد لا يزيد هما إلا غموضا في ذهن من يجهل معناهما، ويلزم عن هذا ضرورة اجتناب الألفاظ المبهمة والمجاز والألفاظ المشتركة في التعريف مما هو غير ظاهر الدلالة، ومنه:

قا/1- يجب أن يكون التعريف أوضح من المعرّف.

* الحيوان هو ما ليس جمادا/ العدل ما ليس ظلما/ الحركة ما ليس سكونا/ الأدب ليس علما.

         واضح أنّ هذا ليس تعريفا لماهية الحيوان والعدل والحركة والفلسفة، بل لما ليس فيها، وهل إذا كان الأدب ليس علما، فهل هو أي شيء ماعدا العلم، إنّ طالب التعريف قد يعتقد أنه فلسفة، أو فقه، أو غير ذلك، والشيء لا يمكن إدراك حقيقته بما ليس هو. ولكن ينبغي أن نلاحظ أنّه أحيانا لا يمكن تصوّر أشياء إلا بهذه الصورة العدمية، كأن نقول مثلا في تعريف الأعزب بأنّه ليس بمتزوج، والأعمى بأنه من لا يبصر إذا كان ما نسلبه أوضح من المعرّف،  ومنه:

قا/ 2- يجب أن لا يكون التعريف سلبيا (بالنفي).

* الإنسان هو الحيوان الفيلسوف.

* * الانسان هو الحيوان الذي يمشي على رجلين، أو يبصر بعينين.

فيما يتعلق بالتعريف الأول يلاحظ أنّ الحد المراد تعريفه هو "الإنسان"، وبالرجوع إلى ماصدقه يتبيّن أنّ هذا التعريف ضيّق لا يشمل كل أفراد ماصدق المعرف، وهو غير جامع لغير الفلاسفة من الناس، أو غير شامل لجميع أفراد الحد المراد تعريفه. وواضح أنّ السبب استخدام "الخاصة" وهي كلي ثانوي.

وفيما يخص التعريف الثاني، إذا كان التعريف السابق ضيقا؛ فإن هذا واسع يسمح لغير أفراد ماصدق الحد المعرف بالدخول في تعريفه، وغير مانع للطيور من الاندراج في نوع الانسان، والسبب استخدام الكلي الثانوي المسمى العرض العام ومنه:

قا/3- يجب أن يكون التعريف جامعا ومانعا.

*  الإنسان حيوان عاقل.

         يبدو واضحا هنا أنّ هذا التعريف شامل لجميع أفراد ماصدق المعرّف (الانسان)، والسبب أنّه تمّ بواسطة ذكر الجنس القريب، ومنع غير هؤلاء الأفراد الذين ينتمون إلى أنواع أخرى من الدخول في التعريف بواسطة استعمال الفصل النوعي، وبالتالي تحقق الشرط المذكور قبله، والقاعدة هذه نصّ أرسطو ذاته عليها عندما أشار إلى أنه «إن كان مما يقال في الحد فهو إما جنس وإما فصل، لأنّ الحد مأخوذ من جنس وفصول»، وبعبارة أوضح:

قا/4- يجب أن يكون التعريف بالجنس القريب والفصل النوعي.

* يستنبط من القاعدتين 3 و 4، ومن تعريف أرسطو حيث الحد يدل على ماهية الشيء، أنّه يتعيّن استبعاد الخاصة والعرض العام من التعريف، ذلك لأنّه إذا كان الهدف الرئيس من التعريف البحث عن الماهية؛ فإنّ هذه الأخيرة ثابتة، بينما الخاصة والعرض متغيران، ومنه:

قا/5- يجب أن يتناول التعريف الماهية، لا العرض.

* لو حاولنا عكس التعريف: "الانسان هو الحيوان الذي يمشي على رجلين"، لما أمكن ذلك إذ ليس صحيحا أنّ الحيوان الذي يمشي على رجلين هو الانسان.

بينما يمكن عكس التعريف: "الإنسان حيوان عاقل" إلى: "الحيوان العاقل هو الانسان"، ومعنى هذا وجود علاقة مساواة بين المعرّف والتعريف: الانسان = الحيوان العاقل، والمساواة علاقة تبديلية، وبالتالي فالتعريف الثاني صحيح. ومنه:

قا/6- يجب أن يكون التعريف قابلا للانعكاس (بين المعرّف والتعريف علاقة تبديلية).

إذا توافرت شروط التعريف التي أتينا على ذكرها؛ أمكن توضيح مفهوم اللفظ في ذهن من يجهل معناه، وكان ذلك طريقا إلى إدراك حقيقة الشيء، فإذا ما انتبه العقل إلى وجود رابطة بين ذلك الشيء وغيره مما يتصوّره؛ ربط بين التصوّرين، وارتقى إلى مستوى التصديق الذي سنستقصي أمره في المحاضرة اللاحقة.