المحاضرة الرابعة: منطق اليونان

 

مدخل: المنطق اليوناني قبل أرسطو:

         إذا كنا لا نعرف الكثير عن منطق الهند، فالأمر عكس ذلك تماما بالنسبة لفلسفة وعلوم ومنطق اليونان، ومثلما نستحضر اسم ألبرت آينشتاين وسيغموند فرويد، مثلا،كلما ذكرنا نظرية النسبية في الفيزياء المعاصرة واكتشاف اللاشعور في علم النفس؛ كذلك يقترن علم المنطق باسم أرسطو دون غيره.

ولكن لمّا كان لا إبداع من العدم من جهة، ولأنّ موضوع المنطق هو الاستدلال، والناس يستدلون بالفطرة دون معرفة بالمنطق؛ فإنّ أرسطو أفاد من أبحاث سابقيه دون شك، وكان عمله تتويجا للجدل الذي ولد مع بارمينيدس وتلميذه زينون الإيلي في المدرسة الإيلية، فالثاني اعتمد في البرهنة على أطروحة أستاذه الشهيرة "الوجود موجود واللاوجود غير موجود" على البرهان بالخلف، وجعلت منه حججه ضد الحركة «أول جدلي واع يستعمل الجدل بالمعنى الذي حدده أرسطو فيما بعد، وحججه تعد مثالا عجيبا على المحاكمة الاستدلالية لدى المدرسة الإيلية». كما لا يبعد أن تكون لوحة المقولات التي وضعتها المدرسة الفيثاغورية قد أوحت لأرسطو بصياغة مقولاته التي تماثلها في العدد، وإذا كنا سنعرض للثانية فيما بعد؛ فإنّ الفيثاغوريين ذكروا أنّ أنواع التعارض في الوجود عشرة هي: المحدود واللامحدود، الفردي والزوجي، الوحدة والتعدد، المستقيم والمنحني، المذكر والمؤنث، النور والظلمة، المربع والمستطيل، الخير والشر، الساكن والمتحرك، اليمين واليسار. وبالمثل، أفاد أرسطو من غير هؤلاء مثل السوفسطائيين الذين جاء المنطق لكشف زيف استدلالاتهم وتلاعبهم اللغوي بمدلولات الألفاظ، وذلك عمل بدأه سقراط في محاوراته التهكمية ضدهم، واستأنفه أفلاطون، هذا الأخير الذي نجد بعض الأصول الحقيقية لمنطق أرسطو في أعماله.

وبالفعل، فضلا عن الجدل تعتبر القسمة الأفلاطونية الأصل الحقيقي للقياس الأرسطي؛ والقسمة الأفلاطونية تلك هي وسيلة الجدل النازل لاستكشاف العلاقات بين المثل لتأليفها في أحكام، فإذا أردنا مثلا تعريف السياسة نبدأ فنقول: السياسة علم، والعلم نظري وعملي، والسياسة تنتمي إلى القسم الأول، وهكذا حتى يتحدّد معنى السياسة. ولو أردنا إثبات أن "الإنسان فان" نبدأ بالجنس "حيوان" فنقسمه: الحيوان فان وإما لا فان، ثم نقول: كل إنسان حيوان، ثم نواصل التقسيم: الإنسان فان وإما لا فان حتى نستنتج: الإنسان فان. ولكن يلاحظ أنّ هذا التقسيم لا يخلو من تعسّف أو تحكّم، فضلا عن كونه مصادرة على المطلوب، فمن يا ترى يجعل الخصم يقبل أن السياسة تنتمي إلى العلم النظري لمجرد تقسيم العلم على تلك الصورة؟ وما وجه الإقناع في تقسيم الإنسان ذلك التقسيم الثنائي لاستنتاج أنه فان؟

لقد تبيّن لأرسطو أن القسمة الأفلاطونية قياس عاجز لا يُبرهن به، وحتّى يكون الاستدلال يقينيا وجب أن يكون هنالك حد يكون ماصدقه وسطا بين ماصدقي الإنسان والفاني، فإذا ما اندرج في حد الفاني، واندرج حد الانسان فيه؛ لزم عن ذلك اندراج الحد إنسان في حد الفاني، لأنّ ما يقال على كلي يقال على أفراده، وما يقال على جنس يقال على جميع أنواعه. وذلك الحد الوسط ماصدقيا هو الحد الأوسط الذي بانتباه أرسطو له اكتشف القياس والمنطق على العموم.   

 

أولا- منطق الحدود الأرسطي:

ا         يتبيّن أنّ أرسطو، الذي تجاوز مجرّد تطبيق قواعد التفكير دون وعي، وانتبه لقوانين المنطق وقام بصياغتها «بصورة واضحة من أجل جمعها على شكل نظرية»؛ وضع علم المنطق، وليس المنطق، وضعا صريحا لا تضمين فيه لأوّل مرة، معلنا في عبارات في منتهى الدقة والوضوح: «إنّ أوّل ما ينبغي أن نذكر هو الشيء الذي عنه فحصنا هاهنا والغرض الذي إليه قصدنا. فأما الشيء الذي عنه نفحص فهو البرهان، وغرضنا العلم البرهاني »، ولهذا السبب إذن ينسب إليه وضع  علم المنطق دون غيره.

 

I- مؤلفات أرسطو المنطقية:

         ومن جهة أخرى إذا كان أفلاطون، مثلا، ساهم في حل مشكلة الحمل التي سنأتي على ذكرها في مبحث القضية، وذكر أنّ هذه الأخيرة مركبة من موضوع ومحمول، كما أشار إلى أنّ القولين المتناقضين لا يمكن أن يحملا على الشيء الواحد، إلا أنّه لم يبحث في القضية بحثا كاملا، ولم يتوصل إلى صياغة مبادئ العقل بوضوح. وفي المقابل أسهب أرسطو في بحث مسائل المنطق، وصاغ قواعد الاستدلال ومبادئ العقل، وخصّ كلّ ذلك بكتب منطقية أساسا، ولمّا قام أندرونيكوس الرودسي Andronicos de Rhodes في القرن الأول قبل الميلاد بنشر كتب أرسطو؛ جمع ورتب المؤلفات المنطقية في مجموع سمّاه "الأورغانون" Organon، أي "الآلة"، فلا الكلمة تلك ولا كلمة "منطق" من وضع أرسطو إذن.

         هذا، ويقول الخوارزمي الكاتب (387-997 ه) عند التعريف بالمنطق ومؤلفات أرسطو فيه: «...في المنطق؛ وهو تسعة فصول: الفصل الأول في إيساغوجي، الفصل الثاني في قاطيغورياس،الفصل الثالث في باري أرمينياس، الفصل الرابع في أنولوطيقا، الفصل الخامس في أفودقطيقي، الفصل السادس في طوبيقى، الفصل السابع في سوفسطيقي، الفصل الثامن في ريطوريقي، الفصل التاسع في بيوطيقي. وهذا العلم يسمى باليونانية (لوغيا) وبالسريانية ( مليلوثا) وبالعربية (المنطق) ».

 وإذا كان المراد بالفصل الكتاب؛ فإنّ الصواب أنّ كتب أرسطو المنطقية ستّة لا تسعة، فكتاب "إيساغوجي" Isagoge، أو "المدخل" الذي أُلحق بها من تأليف فرفوريوس الصوري Porphyre de Tyr (234- 305م)، وليس أرسطو. كما أنّ كتاب الخطابة Rhétorique أو "الريطوريقا"، وكتاب الشعر Poétique أو "فويطيقا"، وإن كانا من تأليف أرسطو، إلاّ أنّه لا صلة لهما بالمنطق. فلم تبق إلاّ ستّة كتب، هذه هي تبعا للترجمة العربية القديمة:

1- المقولات - Catégories: يقع في مقالة واحدة من خمسة عشر فصلا، مضمونه البحث في مختلف أصناف الوجود أو المحمولات التي تحمل على موضوع ما، أو الأقسام الأولى للوجود.

2- العبارة - Hermeneutica/ l’interprétation De: وهو أيضا مقالة واحدة تتضمن أربعة عشر فصلا، مضمونه البحث في الأصوات الدالة بالإجمال، والاسم والفعل والأداة، والقضية وقسمتها وخصائصها، وتقابل القضايا البسيطة وقوانين التناقض والتضاد، والتقابل في قضايا الممكن المستقبل، القضية المحصلة والمعدولة، والقضايا الموجهة وتقابلها.

3- التحليلات الأولى/ القياس - Les premières analytiques: وهو مقالتان عرض فيه أرسطو نظرية القياس من حيث صحته الصورية فقط، أو رد الاستدلال إلى مبادئه الصورية التي يتعلق بها لزوم النتيجة من المقدمتين لزوما ضروريا بصرف النظر عن مادة ومحتوى الاستدلال.

4- التحليلات الثانية/ البرهان - Les Secondes Analytiques: في مقالتين حيث تمّ رد البرهان إلى المبادئ المادية التي يتعلق بها صدق الاستدلال، و بحث القياس المؤتلف اليقيني، القائم على مقدمتين ضروريتين.

5- الجدل/ المواضع - La Topique: في ثماني مقالات وهو مخصص عموما للحجاج الجدلي، أي القياس ذي المقدمات الظنية أو المحتملة.

6- الأغاليط/ التبكيتات السوفسطائية- Réfutations Sophistiques : في مقالة واحدة من أربعة وثلاثين فصلا، موضوعه الاستدلال المموه، وبدأه أرسطو بتعريف الغلط بأنّه قياس في الظاهر فحسب لا في الحقيقة، واستطرد في بيان المغالطات التي تقع في القياس بسبب اللفظ، أو في المعنى، أو في صورة القياس، أو في مادته، ومتى يكون الغلط ومتى تكون المغالطة، وكذا الحديث عن المغالطات بسبب أشياء خارجة عن القياس، ثمّ حلّ تلك الإشكالات.

         تلك هي كتب أرسطو المخصصة للمنطق، وتوجد في كتبه الأخرى مسائل تتعلق بالمنطق مثل كتابه في النفس، وكتاب الطبيعة، وأيضا ما بعد الطبيعة أو الميتافيزيقا. ويلاحظ هنا أنّه إذا كان كتاب المقولات يكشف عن صلة منطق أرسطو بأنطولوجيته، وكان كتاب التحليلات الثانية وكتاب الجدل وكتاب الأغاليط ممّا ينتمي إلى المنطق التطبيقي؛ فإنّ كتاب العبارة والتحليلات الأولى تنتمي إلى المنطق الصوري الذي هو موضوع محاضراتنا أساسا.

II- مباحث منطق أرسطو:

ذكرنا أنّ موضوع المنطق الرئيس هو الاستدلال، هذا الأخير يسمى عند أرسطو "القياس"، ومثاله:

كل إنسان فان

وكل فيلسوف إنسان

إذن فكل فيلسوف فان

         يبدو جليا أنّ هذا القياس شيء مركب؛ فهو ينحل إلى ثلاث جمل تسمى في المنطق قضايا، وكل واحدة من تلك القضايا تنحل إلى لفظين مفردين، فالتحليل ينتهي إذن إلى لفظ نسميه في المنطق: "الحد" مثل: إنسان / فيلسوف / فان، وبالتالي فالحد هو الوحدة الأساسية التي يُبنى عليها منطق أرسطو، وتأسيسا على ذلك يوصف منطق أرسطو بأنه "منطق حدود"؛ فمن الحدود تتألف القضايا، ومن القضايا يتألف القياس، وحتّى  نفهم القياس؛ يجب أن نبدأ من أبسط أجزاءه التي ينحل إليها، أي الحدود، ثم يلي ذلك البحث في القضية، وأخيرا يكون النظر في القياس. وتأسيسا على ذلك ينقسم منطق أرسطو إلى ثلاثة مباحث، منطق التصورات، ويشمل مبحث الألفاظ.  ومنطق التصديق ويبحث القضايا. ومنطق القياس ويشمل البحث في القياس وأنواعه المختلفة.

هذا، والحق أنّ أصل هذا التقسيم لمباحث المنطق يرجع رأسا إلى أرسطو ذاته؛ فهو عندما شرع، أولا، في الحديث عن القياس حرص على أن يبدأ ببيان ما المقدمة (القضية)، ثمّ ما الحد من حيث هو ما تنحل إليه المقدمة (القضية)، ثمّ عرّف القياس في المرحلة الأخيرة، وهذا الذي عبّر عنه ابن سينا بدقة عندما ذكر أنّه «لما لم يكن لنا سبيل إلى معرفة القياس إلاّ بعد معرفة ما القياس مؤلف منه، فقُدّم النظر في بسائط القياس، وبسائطه القريبة هي القضايا، وبسائطه البعيدة التي هي بسائط بسائطه هي المفردات. فبُدئ بالمفردات. فلمّا أحصيت وعُلمت، تلي ذلك بالنظر في التأليف الأول منها الذي يكون فيه الصدق والكذب. فلمّا عرف ذلك وفصل، شرع في تعليم القياس».

          ثانيا؛ خصص أرسطو لكل مبحث من تلك المباحث كتابا مستقلا، وجاءت مؤلفاته على ذلك الترتيب كما ذكرنا آنفا.

         وأرسطو، ثالثا، أعلن أنّ غرضه من تأليف كتبه المنطقية تلك، وفي مقدمتها كتاب التحليلات الأولى، حيث يدرس القياس، العلم البرهاني. وهو نفسه أومأ إلى تقسيم العلم إلى تصوّر وتصديق مثلما ذكر في المقالة الثانية من كتاب النفس، وهو الذي اشتهر عند المنطقيين المسلمين ، وعنهم أخذ اللاتين بدورهم ذلك التصنيف. وإذا علمنا أنّ التصوّر هو حصول صورة شيء ما مفرد في الذهن، وأنّ التصديق هو حكم العقل بين تصورين مفردين مؤلفا قضية، أو بين حكمين بأن أحدهما الآخر أو ليس الآخر مؤلفا استدلالا، أي قياسا؛ فإنّ التصوّر يتقدم التصديق إذن، ويكون التقسيم المذكور قائما على أساس تحليل عمل العقل بهذه الصورة والترتيب: فالعقل يبدأ بإدراك شيء مفرد، ثمّ يربط بين مفردين، وفي المرتبة الثالثة يوجد رابطا بين قضيتين ليستنبط منهما قضية ثالثة، من هنا  كانت مباحث منطق الحدود الأرسطي:

1/ مبحث التصورات أو الحدود.

2/ مبحث التصديقات، وموضوعه القضايا أو الأحكام.

3/ مبحث الاستدلال.