المحاضرة الثالثة: منطق الهند.

 

يميّز روبير بلانشي (1898-1975م) بين مستويين من المعارف؛ المعارف الضمنية والمعارف الصحيحة، وبعد أنْ بيّن أنّ قدرة الطفل الصغير على تكلّم اللغة بشكل صحيح لا تستلزم الحكم بأنّه يعرف قواعد لغته، خلص إلى القول: «وكذلك لا يكفي أنْ يكون تفكيرُ الإنسان صحيحا لكي يدّعي أنّه منطقي. ولهذا فإنّه ينبغي ألاّ ننسب لمؤلف من المؤلفين بوجه خاص، العلم بأحد قوانين المنطق، إن كان يكتفي باستعماله، بل يجب أن يعبّر عن ذلك صراحة»، ورغم ذلك عندما تحدّث عن المستوى الضمني  اكتفى بأمثلة تعود إلى الفترة اليونانية فحسب، وكأنّ الإنسان الذي وُلد منطقيا بالفطرة كونه يفكّر ويستدلّ طبيعيا لم يبرز إلى الوجود إلاّ مع الحضارة اليونانية، أو أنّ قواعد المنطق الاصطناعي التي سيصوغها أرسطو مؤسّسا علم المنطق جاءت بنوع من التوالد الذاتي.

هذا، والواقع أنّ الحضارة الهندية لعبت دورا أساسيا في آسيا الشرقية يماثل دور الحضارة اليونانية في أوربا وآسيا الغربية، ومثلما كان لليونان فلسفة فللهند أيضا فلسفة، وإنْ كانت للأولى أوصافُ تميّزها عن الثانية ممّا لا مجال للحديث عنه في هذا المقام.

أمّا المنطق الهندي الذي يبدو أنّه تجاوز مستوى المعرفة الضمنية، فيعود إلى القرن الثالث قبل الميلاد، وعرف تطوّره الواضح خصوصا مع مدرسة "النايايا" في القرن الثاني قبل الميلاد.

إن مدرسة النايايا (Nayaya) ذات نزعة تجريبية، شكّل المنطق ومبحث المعرفة دورا  كبيرا في صراعها الفكري ضدّ مدرسة "الفيدانتا" (Vedanta)، فهذه الأخيرة تقر بوحدانية الإله "براهما" (Brahmâ) الذي صدرت عنه جميع الكائنات، «وسرت منه روح في الجماد والنبات والحيوان»، مثلما تشير أسفار "الفيدا" (Véda) التي تعكس جانبا من المثالية الصوفية. أمّا النايايا القائلة بوجود عالم مادي مؤلّف من ذرات يشكل التآلف بينها جميع الموجودات، وبوجود عدد من الأرواح لا يحصى، فإنّها ترى أنّ الإله "إيشوارا"  لا يخلق تلك الذرّات أو الأرواح، وإنّما يخلف ذلك التآلف بينها وبين الأرواح فحسب، تماما مثلما فعْلُ إله أرسطو هو التحريك دون الإيجاد والخلق. ولعلّ هذا الصراع بين المدارس المختلفة من مادية ومثالية وتجريبية هو الذي أفضى إلى ظهور فنّ المنازعة، وعلم مصادر المعرفة، و"المعرفة الأصلية" التي هي المنطق عند الهنود.

I- أنماط المعرفة والمقولات:

         هذا وتقول النايايا بأربعة أنماط من المعرفة ملائمة لنزعتها التجريبية:

1- الإدراك الحسّي.

2- الاستدلال.

3- المقارنة.

4- شهادة الآخرين.

II- الپادرات (المقولات):

كما وضعت ثبتا للمقولات "پادرات" (Padàrtha) الأساسية للمعرفة، ويتضمّن الآتي:

1- الجوهر (Dravya).

2- الكيف (Guma)، الذي يلازم جوهرا واحدا فقط كجزء لا يتجزّأ منه، فالزرقة صفة تخص هذا الوعاء الذي نشير إليه فحسب في قولنا: "الوعاء أزرق" مثلا، وليس معنى كليا كمثل أفلاطون أو مقولات أرسطو التي سنبيّنها لاحقا.

3- الفعل (Kriyà).

4- الخاصية النوعية (Jàti).

5- الفصل البعيد (Visésa)، وهذه المقولة لتفسير الفرق بين الذرات التي يتألف منها العالم كما ذكرنا.

6- الملازمة (Samavàya)، وهي موضوعة لتفسير العلاقة بين مجمل المقولات.

7- الغيّاب (Abhàva).

إن هذه المقولات  تختلف عن مثيلتها عند أرسطو من حيث العدد والتصوّر معا؛ فأرسطو سيقول بعشر مقولات، ونظرة النايايا إلى مقولة الكيف تبيّن فضلا عمّا بيناه أنّ الجوهر ليس صورة مجردة تصلح لأنْ تصدق على موجودات أخرى، فلا محلّ هاهنا لما سيسميه أرسطو الجواهر الثانية كالإنسان في مقابل الجواهر الأولى كسقراط. ويُلاحظ من جانب آخر ارتباط "الپادرات" بنظرة المدرسة للوجود وأنماط المعرفة، فمقولة الغياب تحيل إلى شهادة الآخرين.

III- الاستدلال:

أمّا فيما يخصّ الاستدلال الذي هو العنصر الثاني من أنماط المعرفة الأربعة المذكورة، فنجد هذه الصورة

         الأساسية للاستنباط، وهي استدلال مُؤلّف من خمسة عناصر، تُدعى العبارتان غير الكاملتين فيه (1) و (2) إسنادات أو محمولات (Ascripts)، أمّا العبارات الأخرى فهي تقريرات (Assertions):

 

1- الجبل ذو نار.

2- بسبب الدخان؛

3- حيثما كان هناك دخان، تكون هناك نار، مثلما في المطبخ؛

4- (هذا الجبل) مماثل (أي: له نار)؛

5- إذن (هو) مماثل (أي: له نار).

         ممّا ينبغي ملاحظته أنّ "المطبخ" في هذا الاستدلال يبدو قائما بنفس الدور الذي يؤدّيه الشكل الإيضاحي في البرهان الهندسي، ففائدته لا تعدو تثبيت الانتباه، ولذلك يمكن حذفه.

ويُلاحظ أيضا أنّ موضوع القضية جزئي يُشار إليه: "هذا الجبل"، وليس معنى أو تصوّرا كليا. ومن جهة أخرى يشبه استدلال النايايا هذا قياس العلامة عند الرواقيين في اليونان «هذه المرأة ذات لبن، فهي إذن قد ولدت»، حيث يوجد بين الدلالة وبين الشيء الذي تدلّ عليه علاقة لزوم، بل إنّ من بين الأمثلة التي ذكرها "سكتوس أمبيريكوس" Sextius Empiricus (150-230م) فضلا عمّا سبق: "الدخان دليل على النار" كمثال يبيّن نصيب التجربة في معرفة الدلالة عند الرواقيين. وعلى العموم في قياس النايايا استدلال بمفرد على مفرد،

         وخلاصة القول أنّ هذا هو منطق الهند الذي يعود إلى وقت مبكر مع البوذية في القرن الثالث قبل الميلاد، وهو منطق عرف تطوره مع مدرسة النايايا، ثمّ في رسائل المنطقيين البوذيين. وتبقى مسالة تأثرّ المنطق الهندي بمنطق اليونان أو العكس موضوعا جديرا بالبحث.