يهذف هدا المقرر إلى تناول جملة من الإشكاليات التي طرحتها الفلسفة الغربية في الفترة الحديثة كإشكالية الكوجيتو و الميتافيزيقا ,,,,,

مقياس : إشكاليات الفلسفة الغربية الحديثة

المحاضرة الأولى: الكوجيتو

1/ مفهوم الكوجيتو: لفظ يوناني بمعنى "أفكّر" وفيه إشارة إلى قولة الفيلسوف الفرنسي الشهيرة "أنا أفكّر إذن أنا موجود" ومعناها إثبات وجود النفس من جهة كونها موجودا مفكّرا والاستدلال على وجودها بفعلها المتمثّل في الفكر. والكوجيتو ليس استدلالا على وجه الحقيقة، مع أنّ منطلقه استدلالي، إنّما هو حدس يكشف حقيقة أوّليّة لا يتطرّق إليها الشكّ، بل الشكّ نفسه شكل من أشكال التفكير ومن ثمّ فهو دليل على وجود الفكر. وديكارت ليس أوّل من استدلّ على وجود النفس بالفكر إذ سبق إلى ذلك كلّ من القديس أوغستين وابن سينا. وقد تمّ توظيف الكوجيتو الديكارتي في معان مختلفة فحمله بعضهم على كونه موصلا بطريق الفكر إلى معرفة موجود مفارق للفكر ورأى بعضهم الآخر أنّه لا يثبت سوى وجود الفكر. وذهب هوسرل (Husserl) مثلا إلى أنّه لا يثبت وجود النفس من حيث هي جوهر مفارق بل يثبت وجود ما تفكّر فيه النفس أي وجود ظواهرها.

2/ الكوجيتو الديكارتي... من الشك إلى اليقين:

بعد المنهج المذهب، وهو تطبيق قواعد المنهج، لكل علم مبدأ، فأين نلتمس المبدأ الذي نقيم عليه العلم؟ إن عقلنا مشحون بأحكام ألفناها في عهد الطفولة أو قبلناها من المعلمين قبل تمام النضج والرشد، وإذا نظرنا في العلوم ألفيناها تكونت وتضخمت شيئًا فشيئًا بتعاون رجال مختلفين، فجاءت كالثوب الملفق أو البناء المرمم، فإذا أردنا أن نقرر شيئًأ محققًا في العلوم، كان من الضروري أن نشرع في العمل من جديد، فنطرح كل ما دخل عقلنا من معارف، ونشك في جميع طرق العلم وأساليبه، مثلنا مثل البناء يرفع الأنقاض ويحفر الأرض حتى يصل إلى الصخر الذي يقيم عليه بناءه، والأساس الذي نريد الوصول إليه هو العقل مجردًا خالصًا، فإن العقل واحد في جميع الناس، إذ أنه الشيء الوحيد الذي يجعلنا أناسي ويميزنا من العجماوات، فهو متحقق بتمامه في كل إنسان، وما منشأ تباين الآراء سوى تباين الطرق في استخدام العقل.

ولسنا بحاجة إلى التدليل على كذب آرائنا السابقة ليسوغ لنا اطراحها على هذا النحو، بل يكفي أن نجد فيها أي سبب للشك، إذ ليس الشك مقصودًا هنا لنفسه، بل لامتحان معارفنا وقوانا العارفة، ولسنا بحاجة كذلك الي استعراض تلك الآراء رأيًا رأيًا، بل يكفي أن نستعرض المبادئ، فإن هدم الأساس يجر وراءه كل البناء.

إذن فأنا أشك في الحواس لأنها خدعتني أحيانًا، ولعلها تخدعني دائمًا، وليس من الحكمة الاطمئنان إلى من خدعنا ولو مرة واحدة، وأنا أشك في استدلال العقل؛ لأن الناس يخطئون في استدلالتهم، ومنهم من يخطئ في أبسط موضوعات الهندسة، فلعلي أخطئ دائمًا في الاستدلال، ومن دواعي الشك أيضًا أن نفس الأفكار تخطر لي في النوم واليقظة على السواء، وليست أجد علامة محققة للتمييز بين الحالتين، فلعل حياتي حلم متصل، أي لعل اليقظة حلم منسق، وممَّا يزيد في ميلي إلى الشك أني أجد في نفسي فكرة إله قدير يقال أنه كلي الجودة وهو مع ذلك يسمح أن أخطئ أحيانًا، فإذا كان سماحه هذا لا يتعارض مع جودته، فقد لا يتعارض معها أن أخطئ دائمًا، ولكن ما لي ولله، فقد يكون هناك روح خبيث قدير يبذل قدرته ومهارته في خداعي، فأخطئ في كل شيء حتى في أبسط الأمور وأبينها، مثل أن أضلاع المربع أربعة، وأن اثنين وثلاثة تساوي خمسة.

ولكني في هذه الحالة من الشك المطلق أجد شيئًا يقاوم الشك، ذلك أني أشك، فأنا أستطيع الشك في كل شيء ما خلا شكي، ولما كان الشك تفكيرًا فأنا أفكر، ولما كان التفكير وجودًا فأنا موجود: «أنا أفكر وإذن فأنا موجود»، تلك حقيقة مؤكدة واضحة متميزة خرجت لي من ذات الفكر، لها ميزة نادرة هي أني أدرك فيها الوجود والفكر متحدين اتحادًا لا ينفصم، ومهما يفعل الروح الخبيث فلن يستطيع أن يخدعني فيها، لأنه لا يستطيع أن يخدعني إلا أن يدعني أفكر، وإذن فأنا أتخذ هذه الحقيقة مبدأ أول للفلسفة، الفكر مبدأ لأنه وجود معلوم قبل كل وجود، وعمله أوضح من علم كل وجود، هو معلوم بداهة، ومهما نعلم فنحن بفكرنا أعلم، فمثلًا لو اعتقدت أن هناك أرضًا بسب أني ألمسها وأبصرها، فيجب أن أعتقد من باب أولى أن فكري موجود، إذ قد أفكر أني ألمس الأرض دون أن يكون هناك أرض، ولكن ليس من الممكن ألَّا أكون في الوقت الذي أفكر فيه، ثم أنا اتخذ هذه الحقيقة الأولى معيارًا لكل حقيقة: فكل فكرة تعرض لي بمثل هذا الوضوح أعتبرها صادقة، وتعريف الفكر بالإجمال أنه«كل ما يحدث فينا يحدث ندركه حالًا بأنفسنا»، فحين أقول إنى شيء مفكر، أقصد «أني يشك ويثبت وينفي، ويعلم قليلًا من الأشياء ويجهل الكثير، ويجب ويبغض، ويرد ويأبى، ويتخيل أيضًا ويحس» والفكر صادر عن النفس، أو هو النفس أو الروح خالص ثابت عندي مهما أشك فى وجود جسمي وسائر الأجسام.

المحاضرة الثانية: الميتافزيقا

1/ مفهومه حسب المعاجم الفلسفية:

يعرفها جميل صليبا في معجمه بقوله: ما بعد الطبيعة أو الميتافيزيقا، Métaphysique، هو الاسم الذي نطلقه اليوم على مقالات أرسطو المخصوصة بالفلسفة الأولى. وسمبهذا الاسم لأن “أندرونيقوس الرودسي” ، الذي جمع كتب أرسطو في القرن الأول قبل الميلاد، ووضع الفلسفة الأولى في ترتيب هذه الكتب بعد العلم الطبيعي. وعلم ما بعد الطبيعة عند الكندي، هو الفلسفة الأولى وعلم الربوبية، وعند الفارابي هو ” العلم بالموجود بما هو موجود”. أما ابن سينا، فيقول ” أن هذا العلم يبحث عن الوجود المطلق، وينتهي في التفصيل إلى حيث تبتدئ منه سائر العلوم، فيكون في هذا العلم بيان مبادئ سائر العلوم الجزئية ” . أما ابن رشد فإنه يسمي هذا العلم ما بعد الطبيعة، وغرضه عنده :” النظر في الوجود بما هو موجود” ، وله ثلاثة أقسام القسم الأول ينظر فيه في الأمور المحسوسة بما هي موجودة، والقسم الثاني ينظر في مبادئ الجوهر، أما الثالث فينظر في موضوعات العلوم ومبادئها


وقد اختلف مدلول هذا العلم باختلاف العصور، فموضوعه عند أرسطو والمدرسيين مشتمل على البحث في الأمور الإلهية، والمبادئ الكلية، والعلل الأولى، وموضوعه عند المحدثين مقصور على البحث في مشكلة الوجود ومشكلة المعرفة .

أما عبد الرحمن بدوي فيعرفها في موسوعته الفلسفية بقوله:
كلمة ” ميتافيزيقية ” تعريب للكلمة اليونانية ( تامتاتا فوسيكا)، ومعناها ما بعد الطبيعة .
والمعروف في الأصل في هذا الاسم يرجع إلى ترتيب كتب ” أرسطو”، لما نشرها “أندرونيقوس الرودسي” في القرن الأول قبل الميلاد، فجعل موضع كتب أرسطو المتعلقة بالفلسفة الأولى تاليا لموضع كتاب ” الطبيعة “، وعلى ذلك فإن “ما بعد الطبيعة ” تعني فقط الكتاب التالي في الترتيب لكتاب الطبيعة ، ولا علاقة له بمضمون أو موضوع العلم. أما اسم هذا العلم عند “أرسطو ” فهو ” الفلسفة الأولى” وأحيانا يسميه الإلهيات.

استعمل الفلاسفة الإسلاميون لفظ الفلسفة الأولى للدلالة على هذا العلم منذ بداية الفكر الفلسفي في الإسلام. فنجد” الكندي” في رسالته” كتاب الكندي إلى المعتصم بالله في الفلسفة الأولى “، يبين مقارنة هذه الفلسفة الأولى على نحو ما فعل أرسطو ويقول:” وأشرف الفلسفة وأعلاها مرتبة الفلسفة الأولى أعني علم الحق الأول الذي هو علة كل حق.

وعلى نحو أدق يعرف ” ابن سينا” موضوع الفلسفة الأولى فيقول ” الفلسفة الأولى موضوعها الموجود بما هو موجود، ومطلوبها الأعراض الذاتية للموجود بما هو موجود مثل الوحدة والكثرة والعلية وغير ذلك” .

أما ” ابن رشد” فيستخدم ترجمة اللفظ فيسميه:” علم ما بعد الطبيعة ” ويقول في تفسير اسمه: ” ويشبه أن يكون إنما سمي هذا العلم ” علم ما بعد الطبيعة من مرتبته في التعليم، وإلا فهو متقدم في الوجود


ويحدد ديكارت مضمون الميتافيزيقا بأنه ” تفسير الصفات الرئيسية المنسوبة إلى الله وتفسير كون أرواحنا لا مادية، وإيضاح كل المعاني الواضحة القائمة فينا”.


2/ دراسة نقدية للمفهوم:

من الصعب تعريف الميتافيزيقا. مصطلح “الميتافيزيقا” بحد ذاته قد يعني “ما وراء الطبيعة” ولكن يصعب الحصول على معنى أكثر دقة بدون الدخول في جدال. يشير الاستخدام المبكر للمصطلح ببساطة إلى الموضوعات التي تغطيها الأعمال التي جاءت بعد كتاب “الطبيعة The Physics” ويرمز لها اصطلاحا بـ ميتا meta في شكلها التحريري الاعتيادي وليست تلك الشارحة لأعمال أرسطو التي كتبت من قبل فيلسوف رودس المشائي أندرونيكوس.

دعونا نتمعن في الأشياء التي لا تعبر عن الميتافيزيقا. إنه لمن الواضح أن نظريات نيوتن عن الجاذبية ، ونظريات أينشتاين عن النسبية ، ومعظم الأعمال التي كتبت في ميكانيكا الكم ليست ميتافيزيقا. هذه النظريات بطبيعتها تحدد توقعات محددة حول الظواهر التي يمكن ملاحظتها وهي عرضة للرفض لعدم ثبوت صحتها لأننا نستطيع مقارنة التوقعات بالنتائج الفعلية التي يمكننا الحصول عليها في العالم الحقيقي. على سبيل المثال ، إذا أردنا أن نعلن إنه “لكل ذرة في هذا الكون ، هناك ذرة مقابلة في كون موازٍ” فإن هذه ليست نظريات فيزيائية لأنه لا يمكن دحضها حيث أنه لا يمكننا حاليًا الكشف عن وجود ذرات في أكوان موازية.

وهذا يجعلنا نناقش إشكالية مثيرة للاهتمام في الميتافيزيقا. إن النظرية القائلة بأن كل المواد تتكون من جسيمات صغيرة تسمى ذرات كانت تعتبر ميتافيزيقيا في فترة ماضية. ولكن حينما بدأ الناس باختراع تقنيات قادرة على اكتشاف مثل هذه الأشياء الصغيرة ، انتقلت النظرية الذرية من الميتافيزيقا إلى الفيزياء. لذا فإن الميتافيزيقيا تكون دائمًا على “المنطقة الحدودية الفاصلة” وفي المستقبل قد تتحول بعض من الميتافيزيقيات إلى فيزيائيات.

الدين أيضا ليس من الميتافيزيقا. فهو يعتمد على مجموعة من القناعات التي قد تضع تصورات حول العالم أو تفسر سبب حدوث بعض الظواهر ، ولكن لا يُسمح ببعض التغيير دون الإخلال بالدين. هذا لا يعني أن الأديان لا يمكن أن تتغير ، ولكن إلى حد ما فإن الدين يجب أن يبقى سليما كما هو. على سبيل المثال ، أوضحت بعض الأديان (مثل الأساطير اليونانية) أن الظواهر الغامضة تسببها العديد من الآلهة المختلفة. في مثل ذلك السياق الديني ، سيكون من المستحيل تغيير هذا الاعتقاد ليصبح “إن كل الظواهر يتسبب بها إله واحد” للقيام بذلك سيتعيّن اختراع دين آخر مناقض.

وهذا يثير مشكلة أخرى مثيرة للاهتمام في الميتافيزيقا. كثيرا ما تدوس الميتافيزيقا على أرضيات مقدسة وتصبح على تعارض مع الدين. ولكن قد تعطينا هذه الاعتبارات بعض الحدود ، حيث يمكن تعريف الميتافيزيقيا بسهولة أكبر داخل تلك الحدود.

يهتم علم الميتافيزيقا بشرح “كيف هي” الأشياء في العالم المادي.  في المقام الأول تعنى الميتافيزيقا بـ “الوجود كوجود Being as being” أي تعنى بأي شيء بقدر ما هو موجود. ومع ذلك ، لا تهتم الميتافيزيقا بدراسة الخصائص الفيزيائية للأشياء الموجودة ، ولكنها بدلاً من ذلك ، تدرس المبادئ الأساسية التي تؤدي إلى عالم طبيعي موحد. على هذا النحو ، فإن العبارة التي تقول إن “الشر غير موجود” هي ميتافيزيقية لأنها عبارة تتعامل مع الشيء “الشر” الذي هو على النقيض من “الخير” وهو موضوع ميتافيزيقي ، بينما يشير البيان الذي يقول إن “كل الأشياء تتكون من ذرات والتي هي بدورها – أي الذرات – مكونة من إلكترونات وبروتونات ونيوترونات” وذلك بالتأكيد ليس موضوعا ميتافيزيقيا ، ويميل نحو كفة العلوم الفيزيائية.

الميتافيزيقا هو فرع من فروع الفلسفة ، وكجزء من الإجابة على السؤال “ما هي الميتافيزيقا” يتطلب منا تحديد الفرق بين العلم والفلسفة. يعني “العلم” هنا كعلم تجريبي أو كعلم غير تجريبي. في العلوم الطبيعية ، من المهم بالنسبة إلى التفسيرات الجديدة وضع توقعات يمكن اختبارها بالتجارب. لكن هذا ليس شرطًا للفلسفة ، وتحديدًا في الميتافيزيقيا. بدلاً من ذلك ، نحن نخضع أي بيان فلسفي لمفهومه المطلق أو افتراضاته. المفهوم المطلق للميتافيزيقيا هو الوجود، في حين أن الافتراضات هي مبدأ التناقض.

 

المحاضرة الثالثة: وحدة الوجود

تمهيد

مما لا شك فيه أن الفلسفة المعاصرة قد أضفت على مفهوم الوجود بعدًا أساسيًا. وأصبح الوجود بذلك هو المفهوم الرئيس في الفلسفة. وفعلا، فقد منحَ هايدجر، بربطه بين الوجود والزمن، بعدًا خلاَّقًا للأونطولوجيا، موقظًا بذلك الفلسفة من سباتها الميتافيزيقي العميق لكي تعود إلى حظيرة التفكير في الوجود. وعمل دولوز، من جهته، على ربط الوجود بالاختلاف وبالتكرار وبالصيرورة، فأصبح الوجود إبداعًا وخلقًا وبناءً للمفاهيم الجديدة، مفاهيم تفجر قوة الفكر وقوة الحياة. ويشكل هذا الرجوع لمفهوم الوجود دفعًا للفلسفة وللتفكير الفلسفي، مثلما أنه يمثل ربطًا لحاضر الفلسفة بماضيها الأونطولوجي. وكأن الفلسفة قد بدأت مع ماقبل السقراطيين، مع هيراقليطس وبارمنيدس، بالتفكير في الوجود لتعود ثانية، في الفلسفة المعاصرة، لتعطيَ الوجود حضورًا متميزًا.

وحدة الوجود عند اسبينوزا: إن أصل هذا العود لإشكالية الوجود ليس وليد الفلسفة المعاصرة، بل يرجع الفضل فيه، حسب المختصين إلى الفلسفة السبينوزية.  فهي التي أعطت الوجود، في عمق فلسفة القرن السابع عشر، قوة ونفسًا جديدين كانا قد خفتا عندما انهممت الفلسفة بقضايا يعود أصلها إلى قوى متعالية. وبالفعل، فقد جسدت الفلسفة السبينوزية عودًا مظفرًا لمبحث الوجود. فأهم ملامح أصالة كتاب “الإتيقا” تكمن بالأساس في إعطائه مشكل الوجود، مفهوم الوجود، دورًا أساسيًا في بنائه الفلسفي. وقد بينت دراسات دولوز أن كتاب “الإيتيقا” قد أسس أونطولوجيا أصيلة وخلاقة، أونطولوجيا تجاوزت التصورات اللاهوتية، بل تجاوزت كذلك التصورات الميتافيزيقية،كالفلسفة الديكارتية. ولن يكون بعيدًا عن الصواب الإقرار بأن التصور الأونطولوجي السبينوزي هو المؤسس الفعلي للحداثة الأونطولوجية الراهنة. حقيقة أن كتاب “الإيتيقا” يتحدث عن الجوهر الفرد الذي ينطوي على ما لا نهاية له من الصفات والأحوال، وحقيقة أن سبينوزا قد سمى كتابه الأول، في الله، غير أن ذلك كله لا يعني أنه قد ظل وفيًا للتقاليد القروسطية المعروفة. فمقصود سبينوزا عند حديثه عن الجوهر وعن الله هو الوجود. فالله، أو الوجود، أو الجوهر تعبيرات عن معبر عنه واحد، وتسميات لمسمى واحد. بل إن سبينوزا استعمل المفاهيم التقليدية، كمفهوم الجوهر ومفهوم الله ومفهوم الصفة، لضمنها بمعنى أونطولوجي لم تعهـده الفلسفة من قبل.

والواقع أن تعامل سبينوزا مع مسألة الإبداع الفلسفي قد اتخذ مسارًا متميزًا، ويقوم بالخصوص على إفراغ المفاهيم المتداولة من أجل شحنها بمعنى جديد كل الجدة. فبعدما كان مفهوم الله ومفهوم الجوهر، وهما المفهومان الأكثر تداولا منذ أرسطو والفكر الديني، يحملان أبعادًا لا تَفِي بمطامح الأونطولوجيا وَمتطلباتها، أصبحت، مع سبينوزا، تعبر عن الطموح الأونطولوجي المحض. أصبح مفهوم الجوهر، بل أصبح مفهوم الله، ينطوي على كل الصفات وعلى كل الأحوال، وأصبح علة محايثة للكل وعلة قريبة للكل. لقد أصبح مفهوم الجوهر أو مفهوم الله، بعدما كان عُربون التعالي المجسد للفكر الميتافيزيقي وللفكر اللاهوتي، شرطًا أساسيًا لتأسيس الأونطولوجيا. أصبح مفهوم الله محايثًا لكل الصفات المؤسِّسَة لماهيته. لذلك فالخصائص التي أسندها سبينوزا لمفهوم الجوهر أو لمفهوم الله هي خصائص تجعل كل واحد منهما هو التعبير الصريح عن الهدف الأونطولوجي، وعن الطموح الوجودي. لذلك فافتتاح سبينوزا لكتابه بجزء عن الله هو في حقيقته افتتاح بمفهوم الوجود. مثلما أن إقراره بجوهر واحد لكل الصفات معناه أن الوجودَ فرد، مع أنه ينطوي على كل الصفات والأحوال. هكذا حقق سبينوزا قلبًا للتصوات اللاهوتية والميتافيزيقية باستعمال مفاهيمها ومصطلحاتها مؤسسًا بذلك أونطولوجيا تعطي لمفهوم الوجود البعد الذي يستحقه.

المحاضرة الرابعة:

اللاهوت والسياسة عند اسبينوزا من خلال كتابه: "رسالة في اللاهوت والسياسة"

لا يجهل أحد ما لقيه الإنسان الأوربي من قمع العقل وطمسه، إذ كانت الكنيسة (الكاتوليكية) في نظر المسيحيين المتدينين صورة للإخلاص والصفاء والأمانة، فأصبحت الكنيسة وعلى رأسها البابوية سيدة أوربا التي لا تنازع، إذ كان البابا يعتبر نفسه مستمدا للسلطة من الإله، وبالتالي فهو المسؤول عن تصرفات الإنسان المسيحي، ولا يحد من قوته إلا الحدود الإلهية، فهو من جهة واهب كل الدرجات داخل الكنيسة، والمحدد للقيم داخل المجتمع من جهة ثانية، بل الحارس والمدافع عن القوانين الدولية من جهة ثالثة، لذلك عرف قرن ما قبل اسبينوزا (قرن العقلانية)، بقرن النهضة والإصلاحات الدينية والسياسية مع “جون هوس(1369-1415)” و”مارتن لوثر(1483-1546)” و”جون كالفن(1564-1509)” في الإصلاح الديني، ومع “نيكولا ميكيافيلي(1469-1527)” و”جون بودان (1530-1596)” وغيرهما في الإصلاح السياسي، أي المرحلة التي بدأت فيها أوربا تبتلع العالم على حد تعبير “فيرناند بروديل" . فجاء عصر اسبينوزا كأحد أهم فلاسفة العقل والتنوير الذين عاشوا في القرن السابع عشر، فوضع منهجا فلسفيا مغايرا للمنهج الذي كان سائدا آنذاك في الكنائس الكاثوليكية والكالفينية، وهو منهج عقلاني صارم لا يقبل إلا بالبراهين والأدلة والوضوح، بين من خلاله رؤيته للكون والعالم والإنسان، لكن تطبيقه للمنهج الشكي على الكتب المقدسة هو ما أثار حفيظة رجال الدين الكاثوليكيين والكاليفيين عليه أكثر من غيره، حيث أثبت الكثير من التناقضات والتلفيقات وأنكر الكثير من المعجزات الواردة في الكتب المقدسة، والتي تتناقض في رأيه مع نظام الكون.

أهمية الرسالة:

تكمن أهمية رسالة اسبينوزا في كونها تعتبر ثورة حقيقية فكرية على الأوضاع الاجتماعية والسياسية في عصره وبعد عصره، لتمتد فلسفة ديكارت وتنزل مع التلميذ اسبينوزا، فما كانت فلسفة الرجل إلا امتدادا للفكر الديكارتي الذي يعتمد على المنهج العلمي والرياضي في تحليل الظواهر الكونية، كما أشرنا في المقدمة، فهو الديكارتي الوحيد الذي استطاع أن يطبق المنهج الديكارتي تطبيقا جذريا في المجالات التي استبعدها ديكارت من منهجه، خاصة في مجال الدين (الكتب المقدسة، الكنيسة، العقيدة، والتاريخ المقدس،…)، إضافة إلى أن اسبينوزا في رسالته طبق منهج الأفكار الواضحة والمتميزة في ميدان الدين والعقائد، كما يرفض الرجل في رسالته تفسير الآيات الواضحة تفسيرا خياليا حسب هوى المفسر، وهذا ما سنقف عنده في محورنا اللاحق، فهو ينتهج منهج النقد التاريخي  للكتاب المقدس، يفصل به بين الآيات الصحيحة والآيات المكذوبة أو المشكوك فيها.

وبنفس المنهج انتقد اسبينوزا في رسالته هاته السياسة، ليكون سابقا على كانط وهيجل، في هذا اللون من التفكير السياسي من أجل تحديد الصلة بين الفكر والواقع، أو بين الدين والدولة، بحيث يعتبر الديكارتي الوحيد –يقول حنفي دائما- الذي طبق منهج ديكارت في السياسة، فدرس الرجل أنظمة الحكم، وقارن بينها، ونقد الأنظمة التسلطية القائمة على حكم الفرد المطلق، وانتهى إلى أن النظام الديموقراطي هو أكثر النظم اتفاقا مع العقل والطبيعة، علما أن ديكارت استثنى في الكوجيطو النظم السياسية والتشريعات الوطنية، وعادات البلد، أي أنه أخرج الجانب الاجتماعي كله من الشك وقصره على الفكر.

وعليه فإن اسبينوزا ورسالته كانت تهدف إلى تأصيل الدين، وإخضاع الكتاب المقدس للنقد التاريخي، في الوقت الذي كانت مهمة أستاذه ديكارت: تبرير الدين، بحيث لم يأت بما يعارض قضاياه، بل جاء مؤيدا لأهم قضاياه: كوجود الله، وخلق العالم، وخلود النفس… أما اسبينوزا -يقول حنفي- فقد غلب المصلحة العامة ضد الدين ورجاله، وضد نظم الحكم القائمة، ويشير إلى أن الأمانة الفكرية، والبحث العلمي، والموقف الشريف، أجدى على الدولة وعلى سلامتها وأمنها من النفاق الفكري، والتشويه العلمي، والتملق للسلطة، والسعي لها.

أهم موضوعات رسالة اسبينوزا

·         الأول: إثبات أن حرية الفكر (العقل) لا تُمثل خطرا على الإيمان

·         والثاني: إثبات أن حرية الفكر لا تُمثل خطرا على سلامة الدولة (السياسة)

فإذا غاب التفكير (العقل) ظهرت الخرافة، وإذا سادت الخرافة ضاع العقل، والخرافة تظهر بإرجاع الظواهر الطبيعية إلى علل أولى، أو إلى قوى وهمية، أو إلى أفعال خيالية، أو إلى موجودات غيبية مثل الجن والشياطين والأرواح الخبيثة أو الطيبة، وإن خرجت هذه الظواهر عن المألوف بدت وكأنها معجزات وخوارق يمكن معرفتها، يقول اسبينوزا: “لو استطاع الناس تنظيم شؤون حياتهم وفقا لخطة مرسومة، أو كان الحظ مواتيا لهم على الدوام، لما وقعوا فريسة للخرافة… ولما كانوا يتقلبون بلا هوادة بين الخوف والرجاء لحرصهم الشديد على النعم الزائلة التي يجلبها القدر، فإنهم يميلون دائما أشد الميل إلى التصديق الساذج. من خلال مضامين هذه الفصول ومحتوياتها يمكن تقسيم محاور اهتمام الرسالة إلى جانبين أساسيين وهما:

·         الجانب اللاهوتي:  ويبتدئ من الفصل الأول حتى نهاية الفصل الثالث عشر:

(من ص:119 إلى ص: 366)

·         الجانب السياسي:  ويبتدئ من الفصل السادس عشر إلى الفصل العشرين:

(من ص:337 إلى ص: 445)

·         الجانب اللاهوتي في رسالة اسبينوزا

ويمكن تقسيم فصول هذا الجانب إلى ثلاثة محاور أساسية:

·   الأول، يتعلق بالنبوة عموما:  ونجده في الفصول الثلاثة الأولى، وقد بدأ سبينوزا بدراسة النبوة لأنها الموضوع الذي يتناوله الباحث عندما يريد دراسة الوحي، بحيث يتم كشف الوحي من خلال النبوة. ويعرف سبينوزا النبوة على أنها المعرفة اليقينية التي يوحي الله بها إلى البشر عن شيء ما. و النبي هو المفسر لما أوحى الله به لأمثاله من الناس الذين لا يقدرون على الحصول على المعرفة اليقينية[16]. كأن النبوة هنا تتطابق تماماً مع المعرفة الفطرية لأن ما تعرفه بالنور الفطري يعتمد على معرفة الله وحدها وعلى أوامره الفطرية، وتشمل النبوة مستويين عند اسبينوزا: الجانب الرأسي، وهو صلة النبوة بمصدر الوحي، والمستوى الأفقي، الذي يتحدد بالتاريخ، وتحديدا بصلة النبوة بالرواة وانتقالها من رواية إلى أخرى، حتى يتم التدوين، وانتقال المصحف من يد إلى أخرى حتى يتم التقنين، وقد درس اسبينوزا هذا الأخير عن طريق النقد التاريخي للكتب المقدسة. رى سبينوزا بأن النبوة لا تزيد في علم النبي شيئاً، بل تتركهم و أفكارهم السابقة. فلقد جهل الأنبياء أشياء كثيرة، حيث أن كثير من أقوالهم في تناقض صريح مع العلم، فقد ظن أن الشمس تدور حول الأرض لأنه لم يكن عالماً في الفلك. يقول سبينوزا“… والأفضل أن أقول صراحة أن يشوع قد جهل علة بقاء الضوء، وأنه اعتقد مع جمهور الحاضرين بدوران الشمس حول الأرض، وبأنها توقفت في هذا اليوم بعض الوقت".  كذلك ظن أن تناقص الظل يرجع إلى تناقص الشمس. ولكن جهل الأنبياء بالأمور النظرية لا يعني جهلهم بالإحسان وبقواعد السلوك البشري في الحياة، لذا فإن علينا تصديقهم فيما يتعلق بغاية الوحي وجوهره، وهو العدل و الإحسان. ويطرح سبينوزا سؤالا آخر وهو هل هناك صلة بين المعرفة النبوية و المعرفة الطبيعية؟ فيرى أن لا فرق بين الاثنين حيث أن المعرفة النبوية هي معرفة يقينية، و المعرفة الطبيعية أيضاً معرفة يقينية. لكن المعرفة النبوية خاصة بالأنبياء وحدهم، أما المعرفة الطبيعية فهي عامة للبشر جميعاً، و يوجد فرقين اثنين يمكن تميزهما، الأول هو أن المعرفة النبوية تستعمل الصور الخيالية من أجل التأثير على النفوس، في حين أن المعرفة الطبيعية تدرك الحقائق ذاتها دون تخيل، والثاني أن المعرفة الطبيعية غايتها الحق، في حين أن المعرفة النبوية غايتها الخير. قبل أن ينتقد اسبينوزا الآراء المتعارضة فيما بينها عند الأنبياء، ويؤكد على أنه لا جدوى على الاطلاق من أن نلتمس لديهم معرفة بالأشياء الطبيعية والروحية، فلسنا ملزمين بالإيمان بالأنبياء إلا فيما يتعلق بغاية الوحي وجوهره، أما فيما عدا ذلك فيستطيع كل فرد أن يؤمن بما يشاء بحرية تامة

·   والثاني يتعلق بالقانون الإلهي في وضع الشعائر، والمعجزات الإلهية وهو المتضمن في الفصل الرابع والخامس والسادس، فالشريعة هي القانون الإلهي الذي تمت صياغته في قانون إنساني، والوحي لم ينزل فكرا فقط، بل نزل أيضا نظاما للكون، كما يقول حسن حنفي: وكما نقول نحن المسلمون: “الدين عقيدة وشريعة”، وقد كان الدين اليهودي عند موسى شريعة أكثر منه عقيدة، وكان الدين المسيحي عقيدة أكثر منه شريعة.[

·    فالقانون عند اسبينوزا يتوقف على ضرورة طبيعية، عندما يصدر بالضرورة من طبيعة الشيء ذاته أو من تعريفه، وإما عن طريق قرار إنساني عندما يفرضه البشر على أنفسهم وعلى الآخرين ليجعلوا الحياة أكثر أمنا وأكثر يسرا. في إشارة منه إلى القانون الخاص والذي يتعلق بالإنسان وأخيه الإنسان، والذي هوعبارة عن قاعدة للحياة يفرضها الانسان على نفسه، أو على الآخرين من أجل غاية . في إشارة منه للتفرقة بين القانون الإلهي الذي يتطلع ويصبوا إلى الخير الأقصى وهو معرفة الله وحبه، والقانون الإنساني الذي يتطلع ويصبوا إلى الأمن والسلام والاستقرار داخل الدولة. فلما كان حب الله هو السعادة القصوى والغاية الأخيرة للأفعال الإنسانية، فإن من يحب الله يكون هو المطيع حقا للقانون الإلهي، لا عن خوف أو رجاء، بل عن معرفة بالله، يقول الفيلسوف المتصوف في هذا المقاموإذن فالدرس الذي تُعلمنا إياه فكرة الله هو أن الله خيرنا الأقصى، وبعبارة أخرى فإن معرفة الله وحبه هما الغاية القصوى التي ينبغي أن تتجه إليها جميع أفعالنا". ومما ذكر سابقا خلص اسبينوزا إلى أن شريعة موسى يمكن اعتبارها قانونا إلهيا، رغم أنها لم تكن شاملة، فبالنظر إلى طبيعة هذا القانون الإلهي.

 

وأما المعجزات والتي يعتبر العامة في نظر اسبينوزا أن قدرة الله وعنايته تظهران بأوضح صورة ممكنة إذا حدثت في الطبيعة،… فهم يعتقدون أن أوضح برهان على وجود الله هو الخروج الظاهر على نظام الطبيعة" . حيث ترى أن تفسير هذه الظواهر الخارقة بعللها الطبيعية المباشرة إنكار لوجود الله، فإذا عمل الله توقفت الطبيعة، وإذا توقفت الطبيعة عمل الله، كأن هناك قوتان عند العامة: قوة الله وقوة الطبيعة التي خلقها الله وتخضع لقوته، ويعتقد باروخ أن أصل هذه الفكرة يعود إلى اليهود القدماء.

وعموما فإن اسبينوزا هنا يركز على أنه لا يحدث شيء يناقض الطبيعة، فالطبيعة تحتفظ بنظام أزلي لا يتغير، كما أنه لا يمكن معرفة ماهية الله أو وجوده من خلال المعجزات، كما لا يمكن معرفة العناية الإلهية أيضاً، ولكن يمكن معرفتها كلها عن طريق قانون الطبيعة الثابت الذي لا يتغير.

الجانب السياسي في رسالة اسبينوزا

عكس هوبز انتقل اسبينوزا في الفصول الخمس الأخيرة من رسالته من الفصل بين الفلسفة واللاهوت، بإثبات أن اللاهوت يترك لكل فرد حرية التفلسف إلى أن يتساءل إلى أي حد يمكن المضي في ممارسة حرية الفكر والقول في أفضل الدول؟ وكيف يكون المواطنون أحرارا في الدولة؟ وما الحق الطبيعي لكل إنسان؟ وما حق الدولة؟

وقد وضح اسبينوزا قصده بالحق الطبيعي أو التنظيم الطبيعي بكونه مجرد القواعد التي تتميز بها طبيعة كل فرد، وهي القواعد التي ندرك بها أن كل موجود يتحدد وجوده وسلوكه حتميا على نحو معين". هو الحق الذي يكتسبه الكائن الإنساني وفقاً لطبيعته. فلكل كائن حي طبيعة، فمن طبيعة السمك أن يعيش في الماء ويأكل الكبير منه الصغير، وبذلك فالماء هو الحق الطبيعي الخاص بالسمك، وما ينطبق على الأسماك ينطبق على كل كائن حي، ومعنى هذا أن الحق الطبيعي للكائن الحر هو حقه في حفظ بقائه واستمراره في الحياة بتمكنه من وضع يده على كل ما يحفظ هذه الحياة ويديمها. والكائن الإنساني أيضاً له حق طبيعي في المحافظة على وجوده، وبذلك يكون هو السلوك وفقاً لقوانين طبيعته الخاصة. هذا الحق المطلق في الحياة وحفظ البقاء يشترك فيه الإنسان مع الحيوان، ولذلك فالحق الطبيعي المطلق أو البيولوجي يعطي للإنسان الحق في أن يفعل ما يشاء ويعتبر من يقف في طريقه عدواً له، وهو في ذلك يسلك وفقاً للرغبة والشهوة. لكن هذا ما يؤدي إلى حدوث صراع بين الناس لا ينتهي. وهذا الحق الطبيعي المطلق يحدث له تهذيباً وتعديلاً، ذلك لأن الإنسان مجبر على العيش في جماعة، وتكون هذه الجماعة هي الأخرى ممتلكة لحق طبيعي في البقاء، ولا يمكن أن يستمر بقاؤها إذا كان لكل فرد فيها الحق المطلق في أن يفعل ما يشاء وفقاً لرغباته وشهواته، لأن هذا ينتهي إلى الصراع الذي يهدد وجود الجماعة ذاتها. وهكذا ينتقل سبينوزا من الحق الطبيعي المطلق إلى الحق الطبيعي الاجتماعي والعقلاني، الذي يفرض على الناس العيش وفقاً للعقل بمراعاة مصالح الآخرين وحقوقهم، يقولولكي يعيش الناس في أمان وعلى افضل نحو ممكن، كان لزاما عليهم أن يسعوا إلى التوحد في نظام واحد، وكان من نتيجة ذلك أن الحق الذي كان لدى كل منهم، بحكم الطبيعة، أصبح ينتمي إلى الجماعة، ولم تعد تتحكم فيه قوته او شهوته، بل قوة الجميع وإرادتهم".

ويقوم التنظيم الاجتماعي هذا على تعاهد الأفراد المكونين له على أن يتخلَّوْا عن أهدافهم وشهواتهم ويضعوا المصلحة العامة فوق مصالحهم الشخصية، ويتجسد هذا التعاهد في صورة عقد اجتماعي، يفوض فيه المجتمع أموره العامة إلى شخص يمثله و ينوب عنه، ويضع في يده سلطة تسيير الأمور العامة. وبالتالي يكون هذا العقد بين طرفين: الجمهور الذي يعين شخصاً منه لتولي شؤون المصلحة العامة، والشخص الذي تم اختياره ليكون نائباً عن الجمهور، وهذا هو الحاكم الذي يستمد سلطانه من الجمهور ومن المجتمع، والذي يستمد شرعيته من كونه ممثلاً للشعب وقائماً على المصلحة العامة.

ولأن السلطة السياسية تنشأ من رغبة الجماعة في الحفاظ على ذاتها وعلى مصلحتها العامة ولأنها تتأسس في تخلي الأفراد عن حقهم المطلق في الدفاع عن أنفسهم للسلطة، فإن من واجب الأفراد إطاعة هذه السلطة والخضوع لها تماماً، طالما أن هذه السلطة تستمد شرعيتها من المجتمع وطالما أنها تمثله وتدير شؤون مصالحهم العامة، ويذهب سبينوزا إلى أن الفرد في خضوعه لأوامر السلطة لا يكون عبداً لها، ذلك لأن العبودية هي أن يتبع المرء أهواءه وشهواته، أما الخضوع للسلطة الشرعية ولما تمثله من مصلحة عامة فليس عبودية بل هو طاعة للعقل وأوامره العقلانية. ويكون الفرد الملتزم بقوانين مجتمعه مواطناً طالما ظل قابلاً للسلطة التي يمثلها الحاكم والتي تستمد شرعيتها من هذا المجتمع نفسه. إلا أن تكون مخالفة لأمر الله، فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، يقولوقد يسألني سائل: ما العمل إذا ما أعطت السلطة العليا أمرا مناقضا للدين والطاعة التي وعدنا بها الله تنفيذا للعهد الصريح؟ هل يجب الخضوع للأمر الإلهي أم للأمر البشري؟… سأكتفي بأن أقول هنا بأنه عليه أن يطيع الله قبل كل شيء عندما يكون لدينا وحي يقيني لا شك فيه. فهو يرى أن الغرض من إقامة نظام سياسي ليس السيادة أو القهر أو إخضاع الشعب لطاعة فرد آخر، بل التحرر من الخوف بحيث يعيش كل فرد في سلام و طمأنينة، أي المحافظة على الحق الطبيعي في الحياة وفي السلوك وفي العمل دون إلحاق الضرر بالغير.

وهكذا نصل مع سبينوزا إلى أن النص الديني لا يجب أن ننظر إليه بتلك النظرة الساذجة أو بذلك الإيمان الاعتقادي المسبق. دون تحليل نابع من النص وفق المنهج الهندسي الذي يتم الاحتكام إليه، فهو منهج علمي بالمقام الأول يقوم على عرض الأفكار في شكل قضايا، وبعد ذلك يتم البرهنة عليها لاستخلاص النتائج. ومع ذلك فإن فلسفة سبينوزا كانت أشبه باختراع سابق لأوانه فهي لم تحدث أثرا كبير في العصر الذي ظهرت فيه، لأن ذلك العصر لم يكن على استعداد بعد لتقبل مثل هذه الأفكار الثورية، فوجهت الرسالة بنقد شديد من طرف الأوساط الكالفينية والكاثوليكية التي لم يكن هجومها غيرة على الدين بقدر ما كان خوفا على مصالحهم ومكانتهم داخل مجتمعاتهم، لكن فلسفة سبينوزا في تقديرنا كانت بحق نهضة تاريخية في النقد الديني والفلسفي، والتي كان لها وقع وأثر كبير في عصر العقل وعصر النهضة وعصر العلم في أوربا، بحيث قال عنه هيجل إما أن يكون المرء سبينوزيا أو لا يكون فيلسوفا على الإطلاق”.

 

 

 

 

 

 

المحاضرة الخامسة: مفهوم المناد

الموناد:  (Monade) في الأصل لفظ يوناني يعني الوحدة، أطلقه أفلاطون على "المثال"، واستخدمه بعض المفكرين المسيحيّين للتعبير عن الجواهر الروحيّة المكونة للكون، وهو في الاصطلاح الفلسفي عامة يدلّ على الوحدة الأساسيّة للوجود. وإن تباينت التفسيرات وفق اختلاف المذاهب الفلسفيّة؛ فبيتاغور يتعامل مع المصطلح على أنّه وحدة رياضيّة، وأنّ الموناد أساس العالم. أمّا جيوردانو برونو، فيعتبره المصدر الوحيد للوجود، ويرى أنّ الأضداد تلتقي فيه: النهائي واللانهائي، والزوجي والفردي.. وأمّا لايبنتز، فأطلقه على كلّ واحد من الجواهر البسيطة التي يتكوّن منها العالم، "وهي جواهر روحيّة كلّها إدراك ونزوع تتحرّك بنفسها، وكلّ تغيّراتها من باطنها" (مدكور، 1983، ص 197) والموناد مفهوم أساسي في فلسفة لايبنتز، إذ تحدّث عنه بإسهاب في كتابه "المونادولوجيا"، وهو باختصار "جوهر بسيط مغلق لا يقبل التغيير، وهو الروح العقلي للإنسان" (الحاج، 2000، ص 583)

الجوهر أو المونادا عند جوتفريد فيلهلم ليبنتز(1646- 1716)

الجوهر الواحد بوحدة تامة خليق باسم مطابق له، وهذا ما حمل ليبنتز بعد أن قال «الجوهر» على أن يقول «مونادا» (١٦٩٦)، واللفظ يوناني الأصل معناه الوحدة، وقد أخذه عن جوردانو برونو أو أحد الكيميائيين من معاصريه، وكان قد ظهر بلندن سنة ١٦٧٢ كتاب لطبيب فيلسوف اسمه فرنسيس جليسون، فيه نظرية مماثلة لنظرية ليبنتز، فهل عرفه أثناء إقامته بلندن وتأثَّر به؟ لا ندري، ومهما يكن من هذه النقطة، فإن المونادا عنده قوة متجهة إلى الفعل بذاتها، حاصلة على التلقائية، فلا تفعل بتحريك محرك مغاير كما هو الحال في المادة في رأي أرسطو والمدرسيين وديموقريطس وديكارت، فإن التأثير الخارجي اصطدام جزء بجزء وليس للموناد أجزاء، وهذه القوة وسط بين القوة والفعل كما عرفهما أرسطو، مثلها مثل حبل مشدود إلى جسم ثقيل، أو قوس مشدودة، هي فعل كامن، وجهد مستمر يتجه إلى الفعل التام، فحالاتها كلها باطنة، يتولَّد بعضها من بعض بحيث يكون حاضرها حافظًا لماضيها مثقلًا بمستقبلها، ويلزم من ذلك أنها حياة ونزوع — وبذا تقوم قوتها — وأنها حاصلة على ضرب من الإدراك — وبذا تقوم وحدتها — وأنه يجب من ثمة تصورها على مثال النفس، والنفس هي القوة الوحيدة التي ندركها في ذاتها، كما يجب القول بأن كل مونادا فهي حاصلة على خصائص ذاتية تتشخص بها تبعًا لمبدأ اللا متمايزات، وإلا لم تتمايز فيها بينها، وهكذا نتصور من باطن، أي بالانعكاس على نفسنا، ما قادنا إليه تحليل الظواهر الخارجية، ونعلم أن الآلية والميتافيزيقا على حق كل في دائرة: الآلية هي الظاهر والسطح، والمونادا هي الباطن والصميم. فكل ما يحدث آليًّا وميتافيزيقيًّا معًا، وليس في الطبيعة جماد أو قصور، بل كل موجود فهو حي، وليس بين الموجودات من تفاوت في الحياة إلا بالدرجة، تبعًا لمبدأ الاتصال الذي يستبعد الانتقال الفجائي، وهذا التفاوت بالدرجة هو بحسب درجة تميز الإدراك والدرجات أربع هي: مطلق الحي أي ما يسمي جمادًا والنبات، فالحيوان، فالإنسان، فأرواح بعضها فوق بعض إلى غير نهاية، والفرق بين ما يسمى جسمًا وبين الموجود المقول إنه ذو نفس، أن الجهد والفعل في هذا يحفظان في الشعور والذاكرة، في حين أن الشعور والذاكرة لا يواجدان في ذاك إلا حال الفعل: «فكل جسم روح مؤقت، أي عادم الذاكرة».

ولما كانت المونادات بسيطة فيمتنع أن تبدأ ابتداءً طبيعيًّا وأن تنتهي انتهاءً طبيعيًّا، فإن الكون والفساد الطبيعيين يقومان في تركيب أجزاء وانحلال أجزاء.

وعلى ذلك فبداية المونادات خلق بالضرورة، ونهايتها إعدام، غير أن الله لا يعدم مخلوقًا، فالمونادات خالدة، وما يبدو للحسِّ كونًا وفسادًا عبارة عن نمو يجعل الحي منظورًا، ونقصان إلى ما لا نهاية يجعله غير منظور، وليست تصل النفس الإنسانية في خلودها إلى سعادة مطلقة، ولكنها تتدرج في الكمال والسعادة إلى غير نهاية، كما يقضي مبدأ الاتصال، وتبعًا لهذا المبدأ أيضًا يجب التسليم بأن المونادات لا متناهية العدد، يدل على ذلك من الجهة الواحدة أن المادة منقسمة إلى غير نهاية وأن تركيبها يستلزم من ثمة عناصر لا متناهية، ومن الجهة الأخرى أن المونادات محاكيات للذات الإلهية، والذات الإلهية تحاكي على أوجه لا متناهية، فهناك عدد لا متناهٍ من درجات الوجود.

ماذا تدرك المونادات؟ إنها تدرك العالم أجمع لأنها محاكيات للذات الإلهية كما تقدم، وكل منها مرآة للوجود لأنه لما كانت الأشياء متصلة فليس يمكن إدراك جزء دون إدراك الكل، غير أن كل مونادا تدرك العالم من وجهة خاصة بها، فإن لها مجال إدراك متميز ولا تدرك ما يجاوزه إلا إدراكًا مختلطًا، بحيث يقابل الإدراكات المتميزة في مونادا معينة إدراكات مختلطة في المونادات الأخرى، والعكس بالعكس، والإدراك المتميز في مونادا معينة هو «نشر» الإدراك المختلط المقابل له وجلاؤه، والإدارك المختلط «طي» الإدراك المتميز أو إجماله، فالإدراك يحتمل درجات بحسب مبلغ تميزه، تحت الإدراك المتميز والمعلوم بالشعور aperception يوجد إدراك ضعيف غير واقع في الشعور perception لم يعده الديكارتيون شيئًا مذكورًا ولكنه موجود حقًّا، يدل على وجوده أولًا أن النفس لا يمكن أن تكون غير فاعلة وقتًا ما، ولما كان الإدراك فعلها كانت تدرك دائمًا بالضرورة، ولكننا لا نشعر دائمًا أننا ندرك، فيلزم أن يكون فينا إدراكات غير مشعور بها، ثانيًا أن هناك ظواهر لا تعلل بغير التسليم بمثل هذه الإدراكات: كصوت الأمواج، فإنه صوت مجموعي يتضمن الأصوات الصغيرة المؤلف منها، وكالأفعال التي تبدو غير معقولة، فإنها تعلل بإحساسات ضعيفة غير مشعور بها آتية من داخل الجسم أو من الخارج، وهذا يدل على أن شيئًا واحدًا بعينه يمكن أن يتصور على أنحاء لا متناهية من حيث إن هناك درجات لا متناهية في التصور المتميز، ويدل على أن عدد المونادات لا متناهٍ.

لما كانت المونادات مستقلة بعضها عن بعضها تتغير من الداخل فتتولد حالاتها بعضها من بعض، كما سبق القول، وجب تفسير توافق حالاتها، ولا يفسر هذا التوافق إلا بافتراض خالق منسق (وهذا دليل أني على وجود الله) والقول بأن الله لما خلق النفس والجسم (أي ما يبدو جسمًا) وضع فيهما قوانيهما بحيث يتوافقان، أي إن الجسم يوجد معدًّا بذاته للفعل في الوقت الذي تريد النفس وعلى النحو الذي تريد، وأن النفس تحصل بذاتها على الإدراكات المقابلة لاستعداد جسمها، فيتلاقى الفعلان بموجب «تناسق سابق» مثلهما مثل ساعتين وفق الصانع وبينهما فظلَّتا متوافقتين دون تفاعل، وقد يقال: إذا كان كل شيء يجري في النفس كأن ليس هناك سوى النفس والله، فلِمَ قرن الله الجسم بالنفس؟ أليس الجسم عديم الفائدة؟ فيجيب ليبنتز أن هذا الاعتراض صادر من مبدأ الاقتصاد في العمل moindre action وهو مبدأ سليم، ولكن هناك مبدأ آخر هو مبدأ الأحسن أو مبدأ العلل الغائية، وبمقتضاه وجب أن يخلق الله أكبر عدد من الجواهر الممكنة، وأن يجعل تغيرات النفس مقابلة لشيء في الخارج، على أنه يمكن القول إن الجواهر تتفاعل، بشرط أن يقصد بذلك تأثير معنوي باطن شبيه بالتأثير الحقيقي من حيث المعلولات، فيكون معنى الفعل والانفعال أن المونادا تفعل من حيث هي حاصلة على كمال، وأنها تنفعل من حيث هي ناقصة، أو أن مونادا معينة هي أكمل من أخرى متى كان فيها علة ما يجري في الأخرى، أي متي كانت حاصلة على أفكار متميزة هي في الأخرى مختلطة.

هكذا رأى ليبنتز أن يحل مسألة اتحاد النفس والجسم وتفاعلهما، وكانت قد شغلت ديكارت فذهب إلى أن النفس تتلقى حركات الجسم فتعدل اتجاه هذه الحركات (إذ كان مفهومًا عنده أن كمية الحركة في العالم باقية كما هي وأن النفس من ثمة لا تخلق حركة)، ولكن ليبنتز يعترض عليه بأنه إذا كان من غير المعقول أن تعطي النفس الجسم حركة، فمن غير المعقول أن تستطيع التغير في اتجاه الحركة أو إنقاصها، وذهب مالبرانش إلى أن الله هو الذي يُحدث ما يقع للنفس والجسم من حركات بعضها بمناسبة بعض، وليبنتز يتفق معه في إنكار تفاعل الجواهر، ويوجه إلى رأيه انتقادين فيقول: إنه يُرجع الظواهر إلى علة عامة بدل أن يعين عللها القريبة، وإنه يلجأ إلى الله لجوء اليائس أي إلى معجزة متصلة، على حين أن نظرية سبق التناسق إن لجأت إلى الله، فالله فيها علة مباشرة للجواهر فحسب لا للظواهر، إذ أنه يخلق جواهر فاعلة بالطبع بموجب قوانين ذاتية ولا يحل هو محلها بمعجزة متصلة، وهنا نلمس أهمية مسألة اتحاد النفس والجسم، وتطورها من ديكارت إلى ليبنتز بعد مالبرانش وسبينوزا، وأثرها في تفاعل الموجودات إجمالًا، بل في مبدأ العلية نفسه، إذ أننا لو أنكرنا تفاعل الموجودات وهو ماثل للعيان لم يبق لدينا ما يختم الاعتقاد بالعلية.

كيف يفسر تصورنا لعالم خارجي في هذه الفلسفة؟ من البين أن العالم لا يمكن أن يكون فيها إلا ظاهريًّا أي مجموعة ظواهر من حيث إن المونادات جميعًا أن يكون فيها إلا ظاهريًّا أي مجموعة ظواهر من حيث إن المونادات جميعًا لا مادية، فالمادية هي الموجود منظورًا إليه من خارج، هي إحالة النسبة الميتافيزيقية بين وسيلة وغاية نسبة كمية بين أجزاء؛ ذلك بأنه يوجد في كل مونادا إدراك مختلط إلى جانب الإدراك المتميز، وهذا الإدراك المختلط لما بين الأشياء من نسب منطقية هو الذي يعطيها في نظرنا ظاهرة أشياء قاتمة في المكان والزمان، والجسم مجموعة مونادات ترأسها مونادا مركزية هي بالإضافة إليه كنفسنا بالإضافة إلى جسمنا، أو هو مجموعة إدراكات مختلطة، ومن من إدراك متميز إلا وينطوي على إدراكات دنيا لا نهاية لها، وما الجسم الآلي آخر الأمر إلا صنع الفكر يؤلف بين إدراكاته، فليس للجسم وحدة حقة، وإنما وحدته آتية من إدراكنا، فهو موجود خيالي أو ظاهري، فالنفس وحدة الجسم، والجسم وجهة نظر النفس، وما المكان إلا «نظام الأوضاع» ينشأ حين ندرك عدة ظواهر في وقت واحد، وما الزمان إلا «نظام المواقف المتعاقبة»، فليس المكان والزمان شيئين متمايزين من المونادات وسابقين عليها، كما يتوهم نيوتن وأتباعه، ولكن إذا كان العالم الخارجي ظاهريًّا، فما الفرق بينه وبين رؤى الأحلام؟ الفرق أن الإحساس أقوى وأدق من الرؤيا، وأن الأجسام التي تبدو فيها المونادات هي ظواهر لها أصل ومرتبطة بعضها ببعض بعلاقات ثابتة أو قوانين كلية تسمح لنا بتوقع ظاهرة بعد أخرى فيتحقق توقعنا، بينما صور الأحلام مجرد ظواهر لا أصل لها، على أن اليقين بهذه العلامات أدبي لا ميتافزيقي.

التمييز بين الظواهر الحادثة والقوانين الكلية يثير مسألة أصل المعرفة وقيمتها، يريد لوك أن تكون جميع معارفنا وليدة التجربة، ولكن في النفس معارف ليست آتية عن طريق الحواس، هي المبادئ الضرورية والحقائق الكلية، إننا نطبق عفوًا مبادئ لا ندركها إدراكًا صريحًا إلا فيما بعد، وننكر التناقض ولو لم نسمع قط بمبدأ عدم التناقض، وعلى هذا لا تكون النفس لوحًا مصقولًا، بل تكون حاصلة على معارف غريزية أو فطرية، يعترض لوك قائلًا: لا إدراك بدون شعور، فتكون المبادئ الغريزية معارف غير معروفة، وهذا خلف، ولكن ليس من البين بذاته أن لا إدراك بدون شعور، إن بين القوة الصرف والفعل التام حالة وسطى هي حالة الكمون تسمح لنا بالقول بأن المبادئ موجودة في النفس ولو لم يصاحبها شعور، كعروق الرخام ترسم ملامح التمثال قبل تحققه، فإذا قلنا مع لوك «ليس» في العقل شيء إلا وقد سبق في الحس وجب أن نستدرك فنقول «إلا العقل نفسه»، على أن طبيعة المونادا تقضي بأن تكون جميع معارفنا باطنة، إذ ليس للمونادا نوافذ تنفذ منها صور الأشياء، وليست المونادا كالشمع تنطبع عليها صور الأشياء، إنها موجود متميز متشخص، فلا يمكن اعتبارها خالية بادئ ذي بدء، والإ لم تتميز من غيرها، تبعًا لمبدأ اللا متمايزات، إن وجودها المتميز يجب أن يقوم في شيء باطن هو مجموع استعداداتها للفعل، فالمونادا تتدرج باطِّرَادٍ من إدراكات غامضة إلى إدراكات واضحة فإلى إدراكات متميزة، بهذا المعنى يصح القول بأن التجربة شرط ظهور الكامنات في النفس وتطبيقها، كما هو الحال عند أفلاطون، أي بمعنى أن التجربة مجموع المعارف الحادثة العارضة للنفس من ذاتها، بينما نعني بالعقل مجموع المبادئ الضرورية والحقائق الكلية اللازمة منها.

ومتى كانت المونادا مشتملة منذ الأصل على استعدادات للفعل، كما يقضي مبدأ اللا متمايزات ويقضي سبق التناسق، لزم أن جميع أفعالها صادرة عنها، وأن هذا معنى الحرية، إن وجود الإرادة في حال توازن تام تفعل بعده بحرية، وجود غير معقول وغير ممكن، أما أنه غير معقول فلأن مبدأ اللا متمايزات يحول دون المساواة التامة في الطبيعة، فالفوارق موجودة ولو لم نشعر بها، وفي النفس إدراكات كثيرة غير مشعور بها، وأما أن التوازن التام غير ممكن، فلأن نتيجة عدم الفعل، لا الفعل من حيث إن الفاعل لا يجد سببًا يميل به إلى جهة دون أخرى، كما يروى عن حمار بوريدان.٣ فالحرية «جبرية نفسية» خاضعة لمبدأ السبب الكافي الذي يعني أن الفعل المختار هو الأحسن، وهو سبب أدنى يحتل مكانًا وسطًا بين الحرية العمياء التي نجدها عند ديكارت والجبر الذي نجده عند سبينوزا، لا مجال عند ديكارت لغير الحادث، ولا مجال عند سبينوزا لغير الضروري، ولكن القضية الضرورية هي التي محمولها متضمن في مفهوم موضوعها، أو التي ترد إلى مثل هذه القضية، فنقيضها يتضمن تناقضًا، والقضية الممكنة أو التجريبية هي التي لا يتضمن نقيضها تناقضًا ولا ضرورة لها، فالفعل الحر فعل ممكن من بين أفعال أخرى ممكنة، وما الشعور بالحرية الذي يعتمد عليه ديكارت إلا عدم الشعور بأسباب الفعل، وكثيرًا ما تكون هذه الأسباب دقيقة غير مشعور بها، مثلنا في ذلك مثل الإبرة الممغنطة، لو كان لها شعور لتوهمت أنها حرة في اتجاهها صوب الشمال، لعدم إدراكها الحركات غير المحسوسة في المادة المغناطيسية.

الحقيقة أن لا فرق بين الإمكان الذي يقول به ليبنتز وبين الضرورة التي يقول بها سبينوزا، فإن ممكنًا واحدًا بعينه من بين الممكنات كان محتومًا بمقتضى مبدأ اللا متمايزات ومبدأ سبق التناسق، فيكون حكمه حكم الضروري، وليبنتز يقول: «من الثابت أن لكل حمل بمعنى الكلمة أساسًا في طبيعة الأشياء، وحين لا يكون محمول القضية متضمنًا صراحة في الموضوع، يجب أن يكون كامنًا فيه، إذ أن طبيعة الجوهر الشخصي أو الموجود التام هي أن تكون فكرته تامة بحيث تكفي لأن نفهم منها ونستنبط جميع محمولات الموضوع المضافة إليه هذه الفكرة»،٤ فهو يضع المحمولات العرضية والمحمولات الذاتية على قدم المساواة، ولا يحسب حسابًا للقوة التي هي إلى الضدين، لأنه رمى إلى المعقولية الكلية وأراد أن تكون كل قضية صادقة قابلة لبرهنة قياسية، وبهذا الاعتبار تتحول القضية الممكنة إلى ضرورية ما دام صدقها يلزم من إدراك حديها، وما جدوى قول ليبنتز إن الحدين الأولين لا يجتمعان إلا بتحليل لا نهاية له غير ميسور إلا للعقل الإلهي، ما داما يجتمعان على كل حال؟ إن ليبنتز يقف نفس موقف سبينوزا؛ ففكرة الجوهر عندهما واحدة، وهي أن الجوهر ينطوي على كل ما يحتم أن يقع له، مع هذا الفارق وهو أن الجوهر الأوحد عند سبينوزا يتجزأ عند لبينتز إلى عدد لا متناهٍ من الجواهر الجزئية كل منها يمثل الوجود أجمع، دون أن يبرر ليبنتز خروجه من الأنا إلى جواهر أخرى، وما حاجته إليها والأنا حاوٍ لجميع التصورات؟ أجل إنه يقول إن المونادا تصادف عقبات تعوق تصورها، فتضيفها إلى مونادات أخرى، ولكن المونادات لا تتفاعل، فلم لا يقول بمونادا واحدة تحاول أن تستوضح جميع وجهات الوجود؟ ولو أنه التزم التصورية لكان اقتصر على جوهر واحد هو الأنا المتصور، وهكذا سيفعل مواطنه فختي.

المحاضرة السادسة: الأخلاق والسياسة

إذا كان الإنسان على ما قلنا، كانت سيرته كلها قائمة على غريزة حب البقاء، وكانت هذه الغريزة بالإضافة إلى الحياة الإنسانية كالحركة بالإضافة إلى الطبيعة، من الخطأ الاعتقاد بغريزة اجتماعية تحمل الإنسان على الاجتماع والتعاون، وإنما الأصل أو «حال الطبيعة» أن الإنسان ذئب للإنسان، وأن الكل في حرب ضد الكل، وأن الحاجة واستشعار القوة يحملان الفرد على الاستئثار بأكثر ما يستطيع الظفر به من خيرات الأرض، وإن أعوزته القوة لجأ إلى الحيلة، يشهد بذلك ما نعلمه عن أجدادنا البرابرة وعن المتوحشين، وما نتخذه جميعًا من تدابير الحيطة وأساليب العدوان، وما نراه في علاقات الدول بعضها ببعض، وغاية ما تصنعه الحضارة أن تحجب العدوان بستار «الأدب» وأن تستبدل بالعنف المادي النميمة والافتراء والانتقام في حدود القانون.

بيد أن الطبيعة الإنسانية تشتمل على العقل إلى جانب الهوى، والعقل المستقيم يحمل الناس على التماس وسائل لحفظ بقائهم أفعل من التي يتوسل بها الفرد يجاهد وحده، هم يستكشفون أن البلية عامة، وأنه يمكن ملافاتها بوسائل عامة، فتنبت أول وأهم قاعدة خلقية، وهي يجب طلب السلم، فإن لم نفلح في تحقيقه وجب التوسل للحرب، وشرط السلم أن ينزل كل فرد عن حقه المطلق في حال الطبيعة، فينزل الأفراد عنه صراحة أو ضمنًا إلى سلطة مركزية، قد تكون فردًا وقد تكون هيئة تجمع بين يديها جميع الحقوق، وتعمل لخير الشعب، فتحل الحياة السياسية محل حال الطبيعة.

من هذا التعاقد يلزم وجوب الصدق والأمانة وعرفان الجميل والتسامح والإنصاف، والشركة فيما يتعذر اقتسامه، وفض الخلافات بالتحكيم، وبالجملة تلزم قواعد تلخص في العبارة المأثورة «لا تصنع بالغير ما لا تريد ان يصنع الغير بك» لذا كان القانون الخلقي الطبيعي إرادة الله الذي وهبنا العقل المستقيم، وليس يكفي طاعة القواعد ظاهرًا، بل يجب أيضًا طاعتها لذاتها والتشبع بها، فإن القانون الخلقي يقيد الإنسان إمام ضميره، وكل هذا معقول، ولكن هوبس لا يصل إليه إلا بالعدول عن الطبيعة الحسية إلى العقل المستقيم، وليس العقل مما يعترف به المذهب المادي كقوة خاصة لها قيمة خاصة.

ويجب أن تكون السلطة العامة مطلقة قوية إلى أبعد حد، بحيث لا يعود الفرد بإزائها شيئًا مذكورًا، ويكون واجبة الخضوع المطلق، وإلا عدنا إلى التخاصم والتنابذ، وفي الواقع يمتنع حد السلطة السياسية فإن مثل هذا الحد يعني الاعتراف بالسلطة المطلقة للفرد أو الأفراد المخول إليهم حق مؤاخذة الحكومة أو خلعها، والملكية خير أشكال الحكومة، من مزاياها أن واحدًا فقط قد يجاوز العدل ويسيء الحكم، وأنها تغني عن المنازعات الحزبية، وتصون أسرار الدولة، أما الديمقراطية فما هي إلا أرستقراطية خطباء، ويذهب حق السلطة إلى حد تقرير المعتقدات الدينية والقواعد الأخلاقية، وحسم الخلافات فيها لإقرار النظام، فالدين مخافة القوات غير المنظورة التي تعترف بها الدولة، والخرافة مخافة القوات غير المنظورة التي لا تعترف بها الدولة، ودين الدولة واجب محتوم على كل مواطن، والدين بالإجمال ظاهرة طبيعية أصلها الشعور بالضعف، وليس الدين فلسفة، ولكنه شريعة، لا تتحمل المناقشة بل تقتضي الطاعة، إلى هذا الحد من الاستبداد يذهب هوبس، وكأنه أراد أن يدعم الحكم المطلق بأن يجعل منه حكم القانون الطبيعي، وهو لم يفعل إلا أنه أحال ما كان واقعًا في بلاده نظرية فلسفية، ولكن الإنجليز لن يتابعوه، ومن إنجلترا ستعبر الديمقراطية البحر إلى القارة الأوربية، أما فلسفته فما هي إلا المادية بكل سذاجتها كما عرفناها من عهد ديمقريطس وأبيقور.