محاضرة 02      مقياس المغارب والعالم العثماني

 

1-   الصراع الإسباني العثماني : (تابع)

-        القرصنة البحرية : أطلق على الحروب البحرية في القرنين الخامس عشر والسادس عشر لفظ القرصنة ويعتبر البحر المتوسط مهد القرصنة البحرية ، فالقرصنة البحرية قديمة قدم التاريخ ، ولم تكن وليدة القرن السادس عشر، بل تعود جذورها إلى أبعد من ذلك بكثير ، إلا أن ازدهار نشاطها بدأ منذ القرن السادس عشر، إلا أن للقرصنة قوانين تحكمها ونظامها الدولي الذي يؤطرها، وفي هذا يقول بروديل:" ...القرصنة ظاهرة قديمة في المتوسط لكنها تختلف عنها في الأطلسي، في أن الأولى لها قواعدها وأعرافها وتقاليدها، إذ كانت تعقبها مفاوضات بين الدول والمدن التي كانت تقوم بينها إلى تبادل القرصنة صلات "، ويضيف قائلا " ...كانت القرصنة شكلا من أشكال الحرب، وهي أي القرصنة لم تكن نشاطا فرديا، بل نشاط جماعات وشبكات تشترك المدن والدول في تنظيمها، الأمر الذي يؤكد أنها كانت من طباع ذلك الوقت ومزاياه...".

لقد كانت الجزائر من أهم الدول التي قامت ونشأت لاعلى القرصنة، كما صنفت واعتبرت من أقوى الدول التي تعاطت هذا النشاط ، إلا أن الواقع في حوض البحر المتوسط هو ماذكره بروديل  حين قال: " كان هناك أكثر من جزائر مسيحية (يقصد بذلك القرصنة) كمالطة وبيزا وليفورن، ويضيف معقبا على ذلك بقوله: " ...وفي الجهة الأخرى من البحر المتوسط كانت مالطة مركزا للقرصنة وشبكاتها على نحو ماكانت الجزائر ، هكذا كانت القرصنة بتقلباتها وبمناطق ازدهارها تعكس بوضوح الحركات الكبرى للحياة المتوسطية".

وعليه يمكن القول ان القرصنة لم تكن حكرا على الجزائر والدولة العثمانية فحسب، بل كانت كل الأمم تتعاطى القرصنة ، ويمكن أن نستدل على هذا بقول بروديل: " ...وفي القرن السادس عشر وأوائل القرن السابع عشر حين كان الهلال يقف في وجه الصليب في البحر المتوسط، كان البحارة يحاربون إما باسم الصليب وإما باسم الجهاد ، فهؤلاء فرسان القديس يوحنا نصبوا أنفسهم في جزيرة مالطة وانطلقوا إلى شرقي البحر المتوسط للاستيلاء على السفن التجارية وركابها وربانيها، وقد جعلوا البحر والطريق غير آمن على الحجاج المسلمين، وهي الطريق التي تمتد بين رودس والإسكندرية، فبالإضافة إلى كونها طريق للحج ، كانت طريق لتجارة التوابل والحرير والخشب والأرز والقمح والسكر..."، وبهذا فقد اشتد الصراع بين الخلافة العثمانية والدول الأوربية ، وفي هذا تقول المؤرخة كورين شوفالييه: " كانت القرصنة بالنسبة للمسلمين قبل كل شيء شكلا من أشكال الجهاد البحري، ولو أنها تتخذ أحيانا طابع الحروب الصليبية من جانب المسيحيين" .

لقد كان النصف الأول من القرن السادس عشر فترة لتفوق القرصنة الإسلامية انطلاقا من شمال إفريقيا، ويظهر هذا التفوق والازدهار خاصة عقب سيطرة الأتراك العثمانيين على جزيرة رودس في عام 1522م، لتنمو بشكل واسع بعد سيطرة الإسلام على المتوسط في عام 1538. ليكون النصف الثاني من القرن نفسه لصالح توسع القرصنة المسيحية خاصة بعد التفوق الذي تم إحرازه في معركة ليبانت لصالح المسيحية 1580م، وهكذا سيتوسع نشاط القرصنة البحرية بالنسبة للطرفين بالوتيرة نفسها حتى بداية القرن السابع عشر أين ستتجه القرصنة الإسلامية الممثلة في القرصنة الجزائرية اتجاه المحيط الأطلسي ، ليتم في المقابل توغل القرصنة المسيحية الممثلة في المالطيون والصقليون والنابوليون في الشرق في منتصف السبعينات من القرن السادس عشر ، ليقف هؤلاء جنبا إلى جنب ويشتركوا في نهب السفن الإسلامية وإغراقها وأسر ركابها، وعلى هذا يمكن توضيح الرؤى أن العامل الديني كان له بالغ الأثر في تحريك الدول في حوض المتوسط نحو الصراع وتضارب المصالح بينهما، ويعبر جون وولف عن ذلك بقوله: " لقد كان الأمر بالنسبة للطرفين المسيحي والإسلامي أمر جهاد وحرب مقدسة...".

لقد كان لبروديل رأي مخالف فيما يخص القول أن القرصنة مرتبطة أساسا بالعامل الديني ( المسيحية والإسلام)، ويظهر هذا في قوله : " إن القرصنة كانت منتشرة في أنحاء المتوسط كلها دون أن تعرف دينا أو وطنا، فهي مهنة للعيش تتوسل الدين كذريعة حملها المؤرخون على محمل الجد فأتت استنتاجاتهم متسرعة ".

حملت عملية القرصنة طابع الحرب المقدسة لدى المسلمين والمسيحيين، ولكن سرعان ما بدأ الطابع الديني يخفت ويفسح المجال للطابع الاقتصادي بعد  توقف الصراع الكبير بين الدول الكبرى(حرب الأرمادات)، ليتم فسح المجال أمام الغزو البحري أو الحروب الصغرى (حرب المغامرات).

هيأت القرصنة من وجهة نظر بروديل بروز حقبتين من الازدهار لمدينة الجزائر، فبين 1560م و1570م اجتاح قراصنة الجزائر حوض المتوسط الغربي كله، من البحر الادرياتيكي إلى مضيق جبل طارق والشواطئ الأطلسية للأندلس، حيث أسروا خمسين سفينة في مضيق جبل طارق في جوان 1566م، وقد أدت جرأة أولئك القراصنة إلى أن تعيش كل من صقلية وجزر البليار في ما يشبه حالة الحصار ، لدرجة الحديث عن توقف الملاحة في حوض المتوسط الغربي في العامين (1563-1564) ، أما الحقبة الثانية لازدهار الجزائر فكانت في الفترة الممتدة مابين (1580- 1620)، وفي هذه الحقبة ساعدت زيادة الثروة التي جنتها الجزائر في الحقبة الأولى على تطوير سفنها لتصبح قادرة على الوصول إلى مارسيليا والبندقية، وأصبح الجزائريون عندئذ يجوبون البحر الأبيض المتوسط من البحر الادرياتيكي إلى مضيق جبل طارق، بل أنهم اجتازوا إلى المحيط الأطلسي ، وقد بلغوا أراضي ايرلندا وانجلترا والدنماترك  والبرتغال واسبانيا وأخذوا منها الاسرى والغنائم.

خلاصة القول أن القرن السابع عشر ميلادي عصر البحرية الجزائرية الذهبي راجع إلى كون نشاطها البحري شمل البحر المتوسط كله، وامتد إلى سواحل أوربا الشمالية والبرازيل وأيسلندا والأراضي الجديدة.