محاضرة 01      مقياس المغارب والعالم العثماني

تقديم

لقد شكلت العلاقات بين إسبانيا والدولة العثمانية في حوض البحر الأبيض المتوسط مرحلة هامة من مراحل الصراع الاسلامي المسيحي الذي قادته كل من الدولة العثمانية في الشرق والامبراطورية الاسبانية في الغرب للهيمنة على البحر الأبيض المتوسط ، وقد برز هذا الصراع بشكل كبير خلال القرن 16م الذي تصفه بعض المصادر بقرن الصراع الاسلامي مع اسبانيا خاصة في الجزء الغربي منه، وبالاضافة الى ذلك فهو قرن يستحيل معه فصل السياسة عن الدين وبالأخص ماكان متعلقا  منه بملف الصراع الاسباني العثماني ، وهي الحقيقة التي تشرح لنا طبيعة الأحداث والصراعات السياسية والعسكرية بالبحر الابيض المتوسط.

إن تلك المرحلة كانت حتمية تاريخية ، لأن الظروف التي توفرت خلال القرن 16 فرضت ذلك النوع من الاحتكاك بين منهجين حضاريين مختلفين، وإيديولوجيتين متناقضتين.

1-   الصراع الإسباني العثماني :

-        القضية الموريسكية: لقد اعتبرت إسبانيا نفسها المدافع الأول عن جميع المسيحيين في المتوسط ، خاصة بعد إتمام وحدتها ، نتيجة زواج فرديناند وإيزابيلا سننة 1469 والقضاء على آخر معاقل المسلمين بالأندلس بسقوط غرناطة عام 1492 م . هذه الوحدة أوالزواج السياسي أفرز دولة قوية ناشئة مسيحية في الشمال ، وهو ماجعل أحد الباحثين يعلق على هذه القضية بقوله :"إسبانيا من دولة ناشئة إلى امبراطورية موحدة للمسيحيين ، وبانضمام عدة أقاليم تحقق حلم الوحدة الاسبانية بسرعة كبيرة ، ومن ذلك تولدت أسطورة إسبانيا الامبريالية ، كما يقول بروديل، وأطلق هذان الملكان على نفسيهما لقب " الملكان الكاثوليكيان" مما يعكس صورة التعصب الديني ضد الاسلام.

تحدث بروديل عن هذه الوحدة فقال :" كانت اللحمة القوية التي عاشتها اسبانيا في القرن الخامس عشر لحمة شعب كان الأضعف والأقل لمعانا وذكاءا وغنا في مواجهة الحضارة الاسلامية ، ثم مالبث أن تحرر وأصبح الأقوى في مواجهتها من دون أن يملك يقينا عميقا بقوته، فاستمر في الصراع وأقام محاكم التفتيش تحت سطوة خوف ظلامي يتملكه، ويضيف بقوله :" لقد لقد شكل كل من نهوض الحس الديني وعودة فكرة الصليبية في إسبانيا في القرن الخامس عشر قاعدة الصوفية الامبراطورية لقيام الوحدة الاسبانية ، وفي سيرها نحو هذه الوحدة السياسية لم يكن في وسعها أن تصورها إلا على صورة وحدة دينية ، هذه الأخيرة التي كانت من وجه آخر ضرورية لاحتلال غرناطة  عام1492م، وللتوجه نحو شمال افريقيا ، وهكذا أصبح الملك الكاثوليكي الاسباني (فرديناند) بطل الصليبية الجديدة.

ولعل أهم عمل قام به الملكان الكاثوليكيان هو تصفية الوجود الاسلامي في بلاد الأندلس ، وقد رأى بروديل أن سقوط غرناطة في يد الاسبان الكاثوليك يعد تتويجا لانتصارات كانت قد بدأت تتلاحق منذ القرن الحادي عشر في كل من أراغون وفالنسيا والأندلس ، كوجه من وجوه الصراع الديني الحضاري بين المسيحية والاسلام، هذا الصراع الذي اتخذ شكلا استيطانيا ضد الشعب الموريسكي (المسلمين) وهو هنا ينوه لمدى أهمية القضية الموريسكية بالنسبة للطرفين، كونها مثلت وجها جديدا من أوجه الصراع الحضاري بين العالمين الاسلامي والمسيحي.

كما يمكن القول أنه وبعد سقوط غرناطة اتبعت اسبانيا المسيحية تجاه مسلمي إفريقيا والأندلس سياسة تهدف للقضاء تدريجيا وبصورة جذرية على كل مظاهر الاسلام، ذلك أن نخوة النصر التي اجتاحت اسبانيا قد ألهبت العواطف وطغت على منطق العقل وكرست منطقا جديدا أحاطه رجال الكنيسة بقدسية سماوية لتسهيل عملية القضاء على النفوذ الاسلامي بالأندلس، واستئصال جذور المسلمين الثقافية والدينية ، بل وملاحقتهم إلى شمال افريقيا في إطار الصراع القائم بين الهلال والصليب.

وهكذا أصبحت اسبانيا تؤمن بأن عليها واجب تطهير أرضها من الاسلام والمسلمين، فاندفعت في محاولة لتنصير المسلمين ، وصادرت أملاكهم وحرمت عليهم التكلم باللغة العربية وارتداء الزي العربي والتردد على الحمامات ، كما منعتهم من فتح منازلهم أيام الحفلات يومي الجمعة والسبت ، بالاضافة إلى منعهم إقامة الشعائر الدينية ، وعدم التسمية بأسماء عربية، كما حولت جميع المساجد إلى كنائس وأرغمتهم أن يحملوا إشارة زرقاء على القبعة إذا مابقوا على دينهم، وهذا مايظهر في حملاتها ضد الموريسكيين والتي بلغت درجة اللاإنسانية.

لقد أقرت محاكم التفتيش قطع الموريسكيين عن جذورهم وعن هويتهم الثقافية ، وهذا الامر جعل بروديل يصر على القول : " أن المشكل الموريسكي هو صراع ديني وبمعنى آخر صراع حضاري بين المسيحية والاسلام يصعب حله فهو مدعو لأن يستمر"

وهكذا كانت السياسة الاسبانية ترمي بتصرفاتها تلك إلى تقديم انذار إلى المسلمين لكي يخلصوا في تبعيتهم لاسبانيا ، وليعلموا أن المستقبل لاسبانيا الكاثوليكية ، ولا مكان لدين آخر فيها ، فمن أراد أن يعيش كمواطن اسباني لابد أن يكون مسيحيا كاثوليكيا وإن لم يعتنق هذا طوعا فسيجد نفسه مجبرا على اعتناقه بكل الطرق والوسائل ، ويؤكد بروديل على هذه الفكرة بالقول : أن الملوك الاسبان وبعد الانتصارات التي حققوها على المسلمين في الاندلس ، قاموا بإرغامهم على اعتناق الدين المسيحي ،وهذا ماحدث في كل من كاستيل وغرناطة ، أما في كاتالونيا فقد تم طرد المسلمين (الموريسكيين) على نحو كامل ، وبعد سقوط غرناطة لم يبق رسميا مسلمون في اسبانيا ، لأنهم أرغموا كلهم على اعتناق المسيحية.

ولعل ماحدث في كل من غرناطة والحمراء وغيرها من المناطق التي كان يتواجد بها الموريسكيون الأندلسيون في إسبانيا من انتفاضات وثورات، ماهو إلا نتيجة من نتائج هذا الاضطهاد الشامل، ولاسيما السياسي(الملوك) والكنسي ( الكنيسة ورجال الدين) منه ، والذي انتهى بالمجازر والسبي والاشغال الشاقة بعد مصادرة أملاك الموريسكيين وطردهم منها وإسكان مايقارب اثنتي  عشر ألف (12 الف) عائلة فلاحية مسيحية فيها، وأمام إصرار الموريسكيين على البقاء في اسبانيا ومواصلة كفاحهم، لجأ الملك فيليب الثاني لإصدار أمر يقضي بإجبار الرجال من الموريسكيين على العمل في البواخر تفاديا لتناسلهم وبالتالي محاولة منع تكاثرهم.

وعليه يمكن القول أن هذا الحقد على الموريسكيين لم يتوقف إلا بعد طردهم نهائيا من اسبانيا كلها مابين 1609 و 1614م ، ويقدر المؤرخون عدد الذين طردوا بثلاثمائة ألف نسمة(300 ألف) ، ويرى بروديل أن حقيقة ذلك الحقد هو ديني وحضاري.