(بَيْنِ المَنْظُومِ والمَنْثُورِ)

(عن حسن بنيخلف، إشكالات النّثر العربـيّ القديم وخصائصه، 09 يوليو 2012م، ديوان العرب (منبر حرّ للثّقافة والفكر والأدب)، تاريخ الزّيارة: 07/04/2020م، (www.diwanalarab.com

          إنَّ الحديث عن النّثر في الأدب العربيّ يَرِدُ عنْد كثيرٍ مِنَ الدّارسين في إطار مقارنته بالشّعر. وهي مقارنة تجعل منْه، غالباً، جِنْساً أدبيّاً أدْنى مَرْتَبَةً مِنَ الشّعر، أو أضْعف تأثيراً، أو أقلّ حضوراً. وهذا ما تُفْصِحُ عنْه أقوال بعْض القدامى: قال (أبو الحسن السلامي، شاعر عبّاسيّ ت. 393ه): "مِنْ فضائلِ النَّظْمِ أَنْ صارَ [لَنَا] صناعةٌ برأسِها، وتَكَلَّمَ النّاسُ في قوافِيها، و تَوَسَّعُوا في تصاريفِها وأعاريضِها، وتصرَّفُوا في بحورِها... وما هكذا النَّثْرُ، فإنَّه قَصُرَ عن هذه الذُّرْوَةِ الشَّامِخَةِ، وَالقِلَّةِ العَالِيَّةِ...". وقال (ابن نباتة، شاعر مصريّ ت. 768ه): "مِنْ فَضْلِ النَّظْمِ أَنَّ الشَّوَاهِدَ لا تُوجَدُ إلّا فِيهِ، والحُجَجَ لا تُؤْخَذُ إلَّا مِنْهُ، أَعْنِي [أَنَّ] العُلَمَاءَ والحُكَمَاءَ وَاللُّغَوِيِّينَ يَقُولُونَ: "قَالَ الشَّاعِرُ"؛ وَ"هَذَا كَثِيرٌ فِي الشِّعْرِ"، وَ"الشِّعْرُ قَدْ أَتَى بِهِ"، فَعَلَى هَذَا، الشَّاعِرُ هُوَ صَاحِبُ الحُجَّةِ، وَالشِّعْرُ هُوَ الحُجَّةُ».

          إِنَّ الشِّعْرَ يَفْضُلُ النَّثْرَ لكونه أصْبح صناعةً لها قواعدها المُتعارف عليها. كما أنّه مصدرٌ للاستشهاد والاحتجاج، فمنْه يستقي العُلماء والحُكماء واللُّغويون حُجَجَهم وشواهدَهم. وفي المقابل نجد مواقف أخرى تنتصر للنّثر لكونه الأصل الذّي يَشْرُفُ على فرْعه وهو الشّعر، على الرّغم مِنْ أنَّ أصحابها يعترفون بأنَّ لكلٍّ منْهما محاسن ومساوئ؛ يقول (أبو حيان التوحيدي، مِنْ كتاب الإمْتاع والمؤانسة ت. 414ه ): «...النَّثْرُ أَصْلُ الكَلَامِ، وَالنَّظْمُ فَرْعُهُ؛ وَالأَصْلُ أَشْرَفُ مِنَ الفَرْعِ، وَالفَرْعُ أَنْقَصُ مِنَ الأَصْلِ؛ لَكِنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا زَائِنَاتٌ وَشَائِنَاتٌ». بَيْدَ أنَّ مثْل هذه المواقف والتصوّرات استحالتْ، في مراحل معيّنةٍ مِنْ تاريخ الأدب العربيّ إلى قناعاتٍ أدبيّةٍ وفكريّةٍ، يتعذّر تغيّيرها أو تعديلها لما أصبح لها مِنْ مصداقيّةٍ يَشْهَدُ بها التّاريخُ والأدبُ نفسُه؛ عِلْماً بأنَّ التّاريخ إذا مَنَحَ السَّبْقَ لظاهرةٍ ما، فإنَّ ذلك لا يعني أنّه يسمو بها فنّيّاً أو يُؤْثِرُها جماليّاً.

          يُمْكِنُ القَوْلُ، إذن، أَنَّ التّنازع بيْن الشّعر والنّثر مرّ بمرحلتين هما: «المرحلةُ الأولى، اكتسبتْ طابعَ صراعٍ وُجُودِيٍّ بيْن الشّعرِ والنّثرِ، حيْث دارتْ أهمُّ المُناقشاتِ حَوْلَ الأسبقيّةِ في الوُجُودِ (الأَصْل،الفَرْع) أَوْ أَهَمِّيَّةِ المَصْدَرِ (العَقْل، القَلْب)». و«المرحلةُ الثانيّةُ، تميّزتْ ببروزِ الوَعْيِّ النَّقْدِيِّ للجَمْعِ بيْن الشِّعْرِ و النَّثْرِ، في ظلِّ مفْهومٍ جديدٍ هو ما اصْطُلِحَ عليْه لدى العسكريّ بالكتابةِ»؛ لهذا فإنَّ النّظر إلى الشّعر والنّثر باعتبارهما ثنائيّة يَحْكُمُها التّضاد أو التّنازع مسألةٌ ما تزال تُطْرَحُ بِشَكْلٍ مَغْلُوطٍ؛ إذْ مِنَ المعلوم أنَّ «قَضِيَّةَ الشِّعْرِ وَالنَّثْرِ طُرِحَتْ مِنْ زَوَايَا مُتَعَدَّدَةٍ؛ كَالنَّظَرِ لِلنَّثْرِ بِاعْتِبَارِهِ مُنَافِساً لِلشِّعْرِ».

          إنَّ الأجْناس والفنون الأدبيّة تنبثق في سياقٍ تاريخيٍّ محدّدٍ، مِنْ تراكم التّجارب الإنسانيّة والفنّيّة وتفاعل الأشخاص مع محيطهم لتستجيب لحاجاتٍ نفسيّةٍ واجتماعيّةٍ وفنّيّةٍ، ولهذا كانــــت «مصداقيّة النّوع تُسْتَمَدُّ مِنْ وظيفته، التّي تتجاوز في بعْض الأحيان حدود الأدبيّ إلى ما هو تاريخيّ أو اجتماعيّ». وبناءً على هذا، فإنَّ الحديث عن النّثر في الأدب العربيّ يستوجب الالتزام بمجموعةٍ مِنَ التحديدات؛ حتّى لا يظلّ حديثاً ملتبساً؛ عِلْماً بأنَّ هذه التحديدات تتعلّق بالأجْناس النّثريّة وما ارتبط بها مِنْ مفهومات، وما تمخّض عنها مِنْ أشكالٍ وخصائص فنّيّةٍ، ومضامين متنوّعةٍ، وما طرأ عليها مِنْ تغيّيرات فرضتها سياقات التّاريخ، أو ضرورات الفنّ، أو حاجات الإنسان، ولهذا فإنَّ النّظر إلى النّثر يتمثّل باعتباره إضافةً فنّيّةً نوعيّةً لمْ تتبلور لتنافس الشّعر، وإنّما لتغني الأدب العربيّ، ولتفتح آفاقاً أخرى للتّعبير، واتّخاذ المواقف، والنّظر إلى الأمور مِنْ زوايا أخرى.

          لكن رغم ما عرفه النّثر مِنْ تطوّر وتحوّل في مختلف أنواعه وموضوعاته، فإنّه ظلّ الجِنْس الأدبيّ الأقلّ حضوراً وتأثيراً في الإنسان والحياة العربيّين. ولقدْ عالج القدامى هذه الظّاهرة، وذهبوا في تفسيرها مذاهب، تحكّمت فيها الميول والأهواء والمصالح أو القناعات والحقائق؛ يقول أبو القاسم الإشبيلي (ت. 581ه): «وإنَّما خَصَّصْتُ المَنْثُورَ لِأَنَّهُ الأَصْلُ الذِّي أَمِنَ العُلَمَاءُ -لِامْتِزَاجِهِ بِطَبَائِعِهِم- ذَهَابَ اسْمِهِ فَأَغْفَلُوهُ؛ وَضَمِنَ الفُصَحَاءُ -لِغَلَبَتِهِ عَلَى أَذْهَانِهِم- بَقَاءَ رَسْمِهِ فَأَهْمَلُوهُ، وَلَمْ يَحْكُمُوا قَوَانِينَهُ، وَلَا حَصَرُوا أَفَانِينَهُ»؛ لهذا النصّ قيمتان: قيمة تاريخيّةٌ ـ فكريّةٌ، وأخرى علميّةٌ، فالأولى تعكس وعي القدامى المبكّر بإشكال النّثر في الأدب العربيّ، أما القيمة العلميّة أو النّقديّة فتتجلّى في سعيها إلى تـفسير ما لَحِقَهُ مِنْ إهمالٍ لأسبابٍ متعدّدةٍ.

       وعُمُوماً، يمكن أنْ نستنتج مِنَ النصّ السّابق ما يلي:

أ‌-                  أنَّ أبا القاسم الإشبيلي يجعل النّثر هو الأصل، لهذا كان الأحقّ بالاهتمام والدّراسة.

ب‌-             أنَّ العلماء أغفلوا النّثر لأنّهم اطمأنّوا إلى عدم انْدثاره لِكَوْنِه يُشَكِّلُ جزءً مِنْ طبائعهم؛ إذْ هو لسانهم وتُرْجُمَانُ أحوالِهم.

ت‌-            أمَّا الفصحاء فأهملوه لِكَوْنِهم ضَمِنُوا بقاءَه و دوامَه لارْتباطه وغَلَبَتِه على مَلَكَاتِهِم الذهنيّة.

ث‌-            مِنْ هنا كانت أسباب الإغفال والإهمال تَنْحَصِرُ في اقْتناع العلماء والفصحاء، واطْمئنانهم إلى قُدْرَةِ النّثر على البقاء والاسْتمرار.

ج‌-              بَيْدَ أنَّ موقف أولئك العلماء والفصحاء قدْ ترَّتبتْ عليه انْعكاسات ونتائج سلبيّة؛ إذْ ظلّ النّثر دون تَقْعِيدٍ، فلمْ تُضْبَطْ قوانينه، كما لمْ تُحْصَرْ فُنُونُه. يقول أبو القاسم الإشبيلي: "وَلَمْ يَحْكُمُوا قَوَانِينَهُ، وَلَا حَصَرُوا أَفَانِينَهُ".

          ولا يخفى ما يتضمّنه كلام أبي القاسم الإشبيلي مِنْ إشاراتٍ في غاية الأهمّية لِكَوْنِها تنْدرج ضمن الوظائف التصنيفيّة و التجنيسيّة، التّي يجب أنْ يَضْطَلِعَ بها مُبْدِعُو الأدب ومؤرّخوه ودارسوه، ولعلّ هذا ما حاول أنْ يقوم به أبو القاسم الإشبيلي مِنْ خلال تأليفه لكتاب (إحكام صنعة الكلام)؛ إذْ يشي عنوان الكتاب بذلك، ويَصْدُقُه مضمونه إلى حدٍّ كبيرٍ.

4 ــ موضوعات النّثر وخصائصه:

          يتردّد كثيراً أنَّ كُلَّ فنٍّ أدبيٍّ يختص بموضوعٍ أو غرضٍ معيّنٍ دون الموضوعات أو الأغراض الأخرى، وذلك اعتماداً على مجموعةٍ مِنَ المعطيات الشّكليّة والأسلوبيّة والدّلاليّة؛ عِلْماً بأنَّ مِثْلَ هذه المعطيات أصبحت مِنَ المعايِّير التّي يمكن توظيفها في تصنيف النّصوص الأدبيّة وتجنيسها. وهكذا، نجد في (مقدّمة ابن خلدون) التّنبيه التّالي: «وَاعْلَمْ أَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الفُنُونِ أَسَالِيبَ تَخْتَصُّ بِهِ عِـنْدَ أَهْلِهِ وَلَا تَصِحُّ لِلْفَنِّ الآَخَرِ، وَلَا تُسْتَعْمَلُ فِيهِ، مِثْلَ النَّسِيبِ المُخْتَصِّ باِلشِّعْرِ، وَالْحَمْدِ وَالدُّعَاءِ المُخْتَصِّ بِالْخُطَبِ، وَالدُّعَاءِ الْمُخْتَصِّ بِالْمُخَاطَبَاتِ وَأَمْثَالِ ذَلِكَ».

        مِنْ هذا النصّ يمكن أنْ نستخلص ما يلي:

أ‌-                 إنَّ الفنون التّي كانت سائدةً ومعترفاً بها لشُيُوعها وتداولها هي: الشّعر، والخُطَب، والمُخَاطبات (أيْ الرّسائل). وهذه الفنون في اصطلاح القدامى، هي التّي نُسَمِّيها حديثاً أجْناساً أدبيّةً.

ب‌-             يعترف ابن خلدون أنَّ لكلِّ فنٍّ أساليبُه الخاصّة به، والتّي لا تلاءم الفنون الأخرى. ومِنْ هذه الأساليب: النّسيب والحَمْد والدّعاء؛ التّي يمكن اعتبارها أغراضاً وعناصر بنائيّةً تتقوّم بها الفنون أو الأجْناس المذكورة في قولِه.

ت‌-            يؤكّد ابن خلدون أنَّ لكلِّ فنٍّ أهلٌّ هم أدرى به وأحفظُ له، شعراءٌ كانوا أو خُطَبَاءٌ أو متراسلون، يَعُونَ الفوارقَ الكائنة بيْن الفنون، ويحترمون قواعدَها وتقاليدَها.

ث‌-            إنَّ ما خَلُصَ إليه ابن خلدون -وغيْره مِنَ القدامى- اسْتنتاجات أفْضى إليها استقراؤهم لفنون الأدب السّائدة في عصورهم؛ إنّها بمثابة العناصر المهيمنة على تلك الفنون في مراحل معيّنة، والتّي كانت وستبقى قابلةً للتّغيّير، بالإضافة أو الحذف أو التّوسيع أو التّضيّيق، بِفِعْلِ المؤثّرات الكثيرة كالتّفاعل والتّلاقح والتّداخل التّي تكون فنون الأدب، عادةً، مسرحاً لها عبْر العصور، يقول ابن خلدون: «وَلَا غَرَابَةَ فِي ذَلِكَ بَعْدَ أَنْ أَشَرْنَا إِلَى أَنَّ الفَوَارِقَ وَالحَوَاجِزَ بَيْنَ الفُنُونِ الأَدَبِيَّةِ لَيْسَتْ حَاسِمَةً قَاطِعَةً، فَهُنَاكَ تَدَاخُلٌ بِنِسَبٍ مُخْتَلِفَةٍ بَيْنَ الفُنُونِ الأَدَبِيَّةِ، أَوْ بَيْنَ بَعْضِهَا وَالبَعْضِ الآَخَرِ».

          أمَّا فيما يتعلّق بالخصائص، فتنبغي الإشارة إلى أنَّ النّثر العربيّ القديم يُشَكِّلُ فَنّاً أو جِنْساً أدبيّاً عامّاً تنْدرج تحته مجموعةٌ مِنَ الأنْواع والأصْناف الأدبيّة، أو ما يُسَمَّى بالأجْناس الفرعيّة كالمقامة والخُطْبَة والرّسالة والوصيّة والحِكْمَة والمَثَلْ والخَبَرْ. ورغم مابيْن هذه الأجْناس مِنْ اختلافات وتمايزات، فإنَّها تتقاسم مجموعةً مِنَ الخصائص التّي تتعلّق ببنائها وبمكوِّناتها اللّغويّة والشّكليّة والموضوعاتيّة، ولعلّ أبرز خاصّيّةٍ هَيْمَنَتْ على النّثر العربيّ القديم تتمثّل في ظاهرةٍ أسلوبيّةٍ هي المحسّنات البديعيّة. لكن يحقّ لنا أنْ نتساءل: هلْ مِنَ الإنْصاف أنْ نختزل تُرَاثاً نَثْرِيّاً ضَخْماً في ظاهرةِ المحسّناتِ؟ أَلَمْ تُسِئْ مِثْل هذه الاسْتنتاجات إلى عظمةِ هذا التّراثِ وغناه؟

       لهذا يصبح مِنَ اللّازم أنْ نوسّع مِنْ آفاق البحث في التّراث النّثريّ العربيّ للكشف عن خصائص وظواهر أخرى؛ ولنْ يتسنّى ذلك إلّا مِنْ خلال وضع ظاهرة المحسّنات في إطارها الصّحيح، ومَنْحِهَا حَجْمَهَا الحقيقيّ. وتنبغي الإشارة إلى أنَّ تضْخيم ظاهرة المحسّنات يرجع إلى أسبابٍ كثيرةٍ، منْها:

-       أنّها ظاهرةٌ لافتةٌ للنّظر، ومُهَيْمِنَةٌ على باقي الظّواهر.

-       أنَّ ضَبْطَها، بالتّالي، لا يحتاج إلى كبيرِ عَنَاءٍ.

-       أنَّ لها ما يبرّرها، سواء أ تعلّق الأمر بقواعد الكتابة، التّي تَمَّ التّوافق عليها قديماً، أمْ بالاسْتجابة لمتطلّبات العَصْر، أمْ بالنّزول عنْد رغبة بعْض الحُكَّامِ والزُّعَمَاءِ؛ هذا فَضْلاً عن الدّور المهمّ الذّي اضْطَلَعَ به السّجع فيما يخصّ الحفاظ على النّصوص النّثريّة؛ إذْ «يُشِيرُ الجاحظُ إلى أنَّ السّجع يُثَّبِتُ ويَحْفَظُ الخطابَ، الذّي، بتحرّرِه مِنَ الوزنِ والقافيّةِ، يكون النّسْيانُ إليْه أسرع». ولقدْ ترّتبتْ على هذه الظّاهرة نتائج سلبيّة؛ ذلك أنّه «مَا مِنْ شَكٍّ في أنَّ طُغْيَانَ المحسّناتِ اللّفظيّةِ على الأدبِ العربيِّ شِعْراً ونَثْراً قدْ كان مِنَ الأساليبِ الأساسيّةِ في تضيّيقِ نطاقِهِ».

       وفي هذا الإطار ينْبغي أنْ نوّضح ما يليّ:

أ‌-                  إنَّ الإشْكال المطروح لا ينْحصر في الاعْتراف بطُغْيَان المحسّنات على الأدب العربيّ، أو إنْكار ذلك، وإنَّما هو في مُعالجة الدّارسين لهذه الظّاهرة؛ ذلك أنَّ نَوْعَ هذه المُعالجةِ وحجمِها وأهدافِها هي العواملُ التّي تُسْهِمُ في إبْراز ظاهرة المحسّنات، وتضْخيمها على حساب ظواهر فنّيّةٍ وجماليّةٍ أخرى.

ب‌-             إنَّ المحسّنات ظاهرةٌ لغويّةٌ وأسلوبيّةٌ تُضْمِرُ ظواهر ودلالاتٍ نفسيّةٍ وسُلُوكيّةٍ واجتماعيّةٍ وحضاريّةٍ، تظلّ    -هي الأخرى- في حاجةٍ إلى دراسةٍ وتمْحيصٍ؛ وتنْدرج تلك المحسّنات، كما أشار إلى ذلك شوقي ضيف سابقاً، ضمْن ظاهرة التأنّق والتنميق.

ت‌-            إنَّ للمحسّنات وظائف عديدة، ومنْها الوظيفة التنميقيّة؛ غيْر أنَّ النّصوص المضمرة بهذه المحسّنات قادرةٌ على الاضْطلاع بوظائف أخرى. ومِنْ ذلك أنَّ النّصوص الموّشاة بالأسْجاع، على سبيل المثال، لمْ يكنْ الغرض منْها التزيّين فحسْب، وإنّما إْمتاع المتلقّي بتلك الموسيقى أو الإيقاعات المُتَوَلِّدَة عن الأسْجاع، ممّا يُعَدُّ حنيناً إلى أجْواء الشّعر وطُقُوسِه، وتعْبيراً عن مدى التعلّق به؛ لهذا «فإنَّ السّجع في الكلام كمِثْل القافيّة في الشّعر، وإنْ كانت القافيّة غيْر مُسْتَغْنَى عنْها والسّجع مُسْتَغْنَى عنْه؛ فأمَّا أنْ يَلْزَمَهُ الإنسانُ في جميع قولِه و[رسائلِه] وخُطَبِه ومُنَاقَلَاتِه، فذلك جَهْلٌ مِنْ فاعلِه، وعِيٌّ مِنْ قائلِه».

          يُمكن القَوْل، إذن، أنَّ النّاثر العربيّ القديم حاول أنْ يُوَّفِقَ بيْن الجانبيْن العقليّ والفنّيّ «وقدْ بيَّن [التوحيدي]     -خاصّةً- أهمّية كُلٍّ مِنْ عُنْصريّ العَقْل والموسيقى في النّثر الفنّيّ». ومِنْ ثمَّ أَوْلَى بعْض القدامى للنّزعة العقليّة في النّثر أهمّيّةً كبرى لِكَوْنِها مِنَ الخصائص التّي تميّزه عن الشّعر؛ ولهذا قيل: «النَّثْرُ مِنْ قِبَلِ العَقْلِ، وَالنَّظْمُ مِنْ قِبَلِ الحِسِّ»، وأضاف آخرون خصائص تُسْهِمُ، في نظرهم، في تشريف النّثر وتفضيله على الشّعر؛ حيْث قيل: «وَمِنْ شَرَفِ النَّثْرِ أَيْضاً أَنَّهُ مُبَرَّأٌ مِنَ التَكَلُّفِ، مُنَزَّهٌ عن الضَّرُورَةِ، غَنِيٌّ عن الاعْتِذَارِ وَالافْتِقَارِ، وَالتَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ وَالحَذْفِ وَالتَّكْرِيرِ...».

       مِنْ هنا كان النّثر في الأدب العربيّ القديم موسوماً بخصائص وعلاماتٍ، تتمثّل في:

أ‌-                 توشيّة النّصوص بالمحسّنات، ومنْها السّجع، لاسيما إذا كان النصّ مقامةً أو خُطْبَةً أو رسالةً.

ب‌-            تدعيمها بآياتٍ قرآنيّةٍ وأحاديث نبويّةٍ.

ت‌-            تضمينها مختاراتٍ مِنَ الأشْعارِ والأمْثالِ والحِكَمِ

ث‌-            انفتاحها على موضوعاتٍ وأغْراضٍ كانتْ حِكْراً على الشّعر: كالغزل والمديح والهجاء والفخر، وغيْر ذلك. كما أنَّ النّثر تميّز، مِنْ حيْث وظائفه، بسِمَتَيْنِ قدْ تبدوان غيْر منْسجمتين هما: الإقْناع والتّرميز.

          ولقدْ ذهب بعْض القدامى إلى أنَّ بلاغة النّثر تستوجب مجموعةً مِنَ الشّروط والمواصفات؛ يقول أبو حيان التوحيدي: «وَأَمَّا بَلَاغَةُ النَّثْرِ فَأَنْ يَكُونَ اللَّفْظُ مُتَنَاوَلاً، وَالمَعْنَى مَشْهُوراً، وَالتَّهْذِيبُ مُسْتَعْمَلاً، وَالمُرَادُ سَلِيماً، وَالرَّوْنَقُ عَالِيًّا، وَالحَوَاشِي رَقِيقَةً، وَالصَّفَائِحُ مَصْقُولَةً، وَالْأَمْثِلَةُ خَفِيفَةَ الْمَأْخَذِ، وَالهَوَادِي مُتَّصِلَةً، وَالْأَعْجَازُ مُفَصَّلَةً».

          إنَّ النّثر العربيّ القديم، بهذه المعايّير والخصائص، يُشَيِّدُ كيانه الخاصّ، ويَبْنِي مِعْمَارَه المتميّز عن الفنون والأجْناس الأخرى، سواء تعلّق الأمْر بالشّكل أو المضمون. كما أنَّ تلك المعايّير والخصائص مِنْ شأنها أنْ تُصْبِحَ أدوات صالحةً لتصنيفِه وتجنيسِه.