مفْهوم النَّثْر في النّقد الأدبيّ العربيّ القديم

(عن حسن بنيخلف، إشكالات النّثر العربـيّ القديم وخصائصه، 09 يوليو 2012م، ديوان العرب (منبر حرّ للثّقافة والفكر والأدب)، تاريخ الزّيارة: 07/04/2020م، (www.diwanalarab.com

1 ــ مصطلحات النّثر ومفهومه وتطوّره:

          ممّا تنبغي الإشارة إليه أنَّ القدامى أطلقوا على النّثر مصطلحات كثيرة أبرزها: المنثور والكلام والكتابة. وهي مصطلحات قدْ تبْدو متبايّنة مِنْ حيْث دلالاتها. إنَّ المنثور يُبَايِن المنظوم ويُخالفه؛ لأن َّكلَّ واحدٍ منهما يشكِّل جِنْساً أو فنّاً مستقّلاً بذاته؛ يقول (ابن خلدون ت. 1406م _المقدّمة_): «وإنَّما المقصود منْه [أيْ مِنْ عِلْمِ الأَدَبِ] عنْد أهل اللِّسان ثَمَرَتَه وهي الإجادة في فنيّ المنظوم والمنثور على أساليب العرب ومناحيهم». إنَّ المنظوم والمنثور فنّان تسمو قيمتُهما، ويعلُو شأنهما حسْب ابن خلدون بشرط الإجادة. وهذه الإجادة هي ثمرة عِلْم سمّاه ابن خلدون بـ(علم الأدب)؛ وتبعا لذلك فالشّاعر والكاتب لا يُجيدان إلّا إذا كانا مُلِّمَيْن بذلك العلم.

          وفي كتاب (البرهان في وجوه البيان لابن وهب، _فقيه، وكاتب في الدّواوين العبّاسيّة_ ت. 335ه) نجد تفريعاً للمنثور الذّي يضمّ أربعة أنواع نثريّة، يقول: «فأمَّا المنثور فليْس يخلُو مِنْ أَنْ يكون خطابة، أو ترسُّلاً، أو احتجاجاً، أو حديثاً، ولكلِّ واحدٍ مِنْ هذه الوجوهِ موضعٌ يُسْتَعْمَلُ فيه»؛ إنَّ المنثور يتّخذ، إذنْ، أربعة أوجهٍ أو أشكالٍ يتحكّم في استعمالها عاملان هما: المواضع والمقامات؛ عِلْماً بأنَّ هناك تفاوتاً واضحاً بيْن هذه الأشكال الأربعة مِنْ حيْث الانتشار والتداول؛ إذْ لمْ يشتهر منْها إلا الخطابة والرّسالة. كما أنَّ ابن وهب يُقارن بيْن المنثور والمنظوم، فيقول: «اعلمْ أنَّ سائرَ العبارةِ في لسانِ العربِ إمَّا أَنْ يكون منظوماً أو منثوراً، والمنظومُ هو الشِّعْرُ، والمنثورُ هو الكلامُ»؛ ومعنى هذا أنَّ العبارة عنْد العرب إذا نُظِمَتْ كانت شعراً، وإذا نُثِرَتْ سُمِّيَتْ كلاماً. بَيْدَ أنَّ الكلام، في الحقيقة، تتَّسع دلالته لتشمل عنْد بعْض القدامى الشّعر والنّثر معاً.

          ومِنَ المعلوم أنَّ كثيراً مِنَ القدامى أَوْلوا الكلامَ عناية خاصّة، تعريفاً وتقيّيماً؛ يقول (أبو هلال العسكري ت. 395ه): «الكلامُ أيَّدكَ اللهُ، يَحْسُنُ بسلاستِه، وسهولتِه، ونصاعتِه، وتَخَيُّرِ لَفْظِهِ، وإصابةِ معناه، وجودةِ مطالعِه، ولِينِ مقاطعِه، واستواءِ تقاسيمِه، وتعادلِ أطرافِه...». إنَّ الكلام، بهذا المفهوم، يمكن أنْ ينطبق على الشّعر، كما يمكن أن ينْطبق على النّثر؛ غيْر أنَّ جودتَه لا تكتمل إلّا إذا جُمِعَ بيْن جمال اللّفظ والمعنى والأسلوب والإيقاع والبناء. وفي موضعٍ آخر، يَعتبر أبو هلال الكلامَ جِنْساً عامّاً تنْدرج تحته مجموعة مِنَ الأجناس الفرعيّة؛ يقول في هذا الإطار: «أجناسُ الكلامِ المنظومِ (ثلاثةٌ): الرّسائلُ، والخَطَبُ، والشِّعْرُ. وجميعُها تحتاجُ إلى حُسْنِ التّأليفِ وجودةِ التّركيبِ»؛ والملاحظ أنَّ كلمة (المنظوم)، الواردة في هذه المقولة، تُثِيرُ بعْض الارتباك والغموض إذا ما تمَّ قَصْرُ دلالتِها على الشّعر وحده؛ غيْر أنّ المقصود بخلاف ذلك؛ إذْ تدلّ على التّأليف والتّركيب الجيّدين بيْن أجزاء القول، سواء أ تعلّق الأمر بالنّثر أمْ بالشّعر.

          وممَّن يؤكّد أنَّ الكلامَ يشمل فنيّ الشّعر والنّثر ابن خلدون الذّي يقول: «اعلمْ أنَّ لسانَ العربِ وكلامَهم على فنّيين: في الشّعرِ المنظومِ وهو الكلامُ الموزونُ المقّفى... وفي النّثرِ وهو الكلامُ غيْر الموزونِ وكلُّ واحدٍ مِنَ الفنّين يشتملُ على فنونٍ ومذاهبَ في الكلامِ». إنَّ ابن خلدون، في هذا النصّ، يقوم بعمليّة تصنيفيّة لكلام العرب مستنداً إلى معيارٍ واحدٍ هو الوزن، مع وعيِّهِ بأنَّ كلّ جِنْسٍ أدبيٍّ، شِعْراً كان أو نَثْراً، يضمّ أجْناساً فرعيّةً أو أنواعاً واتجاهاتٍ؛ غيْر أنّه في تصنيفه لمْ يسلمْ مِنْ تأثير المعايّير الشّعريّة.

          أمَّا الكتابة، فتتميّز عن الكلام؛ إذ ْغالباً ما تُشير إلى النّثر، وخاصّة ما تعلّق منْه بكتابة الرّسائل، وهذا ما يدلّ عليه السّياق في أقوال بعْض القدامى، يقول أبو هلال العسكري: «فأوَّلُ ما ينبغي أَنْ تَسْتَعْمِلَهُ في كِتَابَتِكَ... مُكَاتَبَةَ كُلَّ فَرِيقٍ منْهم على مِقْدَارِ طَبَقَتِهم وَقُوَّتِهم في المَنْطِقِ»؛ فالكاتب مطالب، في رسائله، بمراعاة الأحوال الاجتماعيّة والقُدُرات العقليّة. و المقصود بـ(الطّبقة) أصناف النّاس وفئاتهم الاجتماعيّة؛ كالملوك والوزراء، والعلماء، والكُتَّاب والخُطَباء، والأدباء والشّعراء، وأوساط النّاس وسُوقَتِهم.

2 ــ النّثر وإشْكال الأجْناس الأدبيّة:

          سبقتْ الإشارة إلى أنَّ أجناس الكلام، حسْب أبي هلال العسكري، ثلاثة هي: الرّسائل والخُطَب والشّعر،  والحقيقة أنَّ الرّسائل والخُطَب جِنْسَان أدبيّان ينْدرجان ضمْن فنٍّ أو جِنْسٍ عامٍّ هو النّثر؛ والظّاهر أنَّ تصنيف النّثر إلى خُطَبٍ ورسائل ناتجٌ عن اعتمادِ معيارٍ واحدٍ هو الشّكْل. والحقيقة غيْر ذلك؛ لأنَّ أنْواعاً نثريّةً أخرى يتمّ إغفالها فلا تُذْكَرُ، ومنْها المقامة التّي تختلف شكْلاً ومضْموناً عن الخُطَبِ والرّسائلِ. ومعنى ذلك أنَّ عمليات التّصنيف والتّجنيس التّي يخضع لها النّثر تتحكّم فيها معايّير أخرى غيْر الشّكل والوزن بصفةٍ عامّةٍ.

       إنَّ تحديد النّثر في الخُطَب والرّسائل، راجعٌ إلى ثلاثة عوامل هي:

1-               عاملٌّ إداريٌّ وسياسيٌّ؛ إذْ اتّخذت السّلطة السّياسيّة مِنَ الخُطَب و الرّسائل وسيلةً لتمرير خطاباتها، ولتدبير شؤون العباد والبلاد.

2-               عاملٌ ذو طابعٍ تداوليٍّ، ويتمثّل في شُيُوع وانتشار هذين الجِنْسَيْنِ مِنْ أجناس النّثر وهيمنتِهما على باقي الأجناس.

3-              عاملٌ يرجع إلى الجوانب الوظيفيّة في الخُطَب والرّسائل؛ إذْ تتميّزان بفعاليّتهما في تبليغ الخطابات، وكفاءتهما وقُدْرتهما على تحقيق الأهداف المتوّخاة منهما.

          لكن، وكيفما كان الحال، فإن جميع العوامل المذكورة سابقاً، وإنْ فَسَّرَتْ جانباً مِنْ هذه الظّاهرة، فإنّها لا تبّرر إغفال الدّارسين ــقديماً وحديثاًــ للأجناس النّثريّة الأخرى، كالمقامة والوصّيّة والحكمة والمَثَل والخَبَر. والظّاهر أنَّ الإغفال لمْ يقتصرْ على مرحلة ما قبْل التّدوين، بلْ استمرّ ــبأشكالٍ مختلفةٍــ في مرحلة التّدوين وما بعْدها. وكيفما كان الحال، فمِنَ اللّازم الإشارة إلى أنَّ الشّعـر بسُلْطَتِه وبأشكالِ تلقّيه، كان مِنَ الأسباب التّي نَفَّرَتْ مِنَ الأنواع النّثريّة الأخرى، أو ساهمتْ في تهميشها لـ«أسباب أدبيّة تتلّخص في "سُلْطَةِ الشِّعْرِ"...»، ويُمْكِنُ أنْ نُضِيف إلى ذلك كلِّه سبباً آخر ذا بُعْدٍ منهجيٍّ يتمثّل في «عدم النّظر إلى النّثر العربيّ القديمّ نظرةً شموليّةً باعتباره نظاماً مِنَ الأجْنَاسِ المتداخلةِ».

          وعُمُوماً يُمْكِنُ القَوْل أنَّ النّثر فنٌّ أدبيٌّ، يتفاعل بطريقة أو بأخرى، مع عوامل الزّمان ومعطيات الواقع، لهذا يظلّ دائماً قابِلاً للتطوّر والتغيّر؛ فعلى سبيل المثال «كانَ العصرُ العباسيُّ الأوّلُ عَصْراً خطيراً حقّاً في تطوّرِ النَّثْرِ؛ إذْ تحوّلتْ إليه الثّقافات اليونانيّة والفارسيّة والهنديّة، وكلُّ معارفِ الشّعوبِ التّي أَظَلَّتْهَا الدّولةُ العباسيّةُ». ولقد سمح هذا العامل بظهور أنماطٍ أخرى مِنَ النّثر؛ يقول شوقي ضيف (مِنْ كتاب العَصْر العبّاسيّ الأوّل): «وكان ذلك إِيذَاناً بتعدُّدِ شُعَبِ النَّثْرِ العربيِّ وفُرُوعِه، فقدْ أصْبح فيه النَّثْرُ العِلْمِيُّ والنَّثْرُ الفلسفيُّ، وأصبْح فيه أيْضاً النَّثْرُ التَّاريخيُّ، على شاكلةِ ما كان عنْد الأُمَمِ القديمةِ، وحتَّى النَّثْرُ الأدبيُّ الخالصُ أخذَ يَتَأَثَّرُ بِمَلَكَاتِ اللُّغَاتِ الأجنبيّةِ وخاصّةً اللُّغَةُ الفارسيّةُ »؛ وبهذا تحرّر النّثر العربيّ، مِنْ خلال تَفَاعُلَاتِه الحضاريّة، مِنْ بعْض القُيُود الأدبيّة، وانْعطف نحْو ألوانٍ مِنَ الفِكْرِ والعِلْمِ والثّقافةِ بصفتِه الِجنْس الأدبي الأَقْدَر على استيعاب تلك المعارف والتّعبير عنْها.

          إِنَّ هذا النُمُوّ والازدهار يُمَثِّلُ نقطة تحوّلٍ رئيسةٍ في تاريخ النّثر العربيّ لمْ تتيّسرْ له مِنْ قبْل، وذلك لكونه انْفتح على مجالاتٍ أخرى أسْهمتْ في إثرائه وطبْعه بسماتٍ جديدةٍ. ومَرَّدُ ذلك أنَّ المضامين والقضايا الجديدة فرضتْ اعتماد أساليب وأشكالٍ تعبيريّةٍ مبتكرةٍ تنزاح عمّا كان سائداً في مجال النّثر الأدبيّ.