قضيّة التّأويل في النّقد الأدبيّ القديم

مفهوم التّأويل: هو تحديد المعاني اللّغويّة في العمل الأدبيّ مِنْ خلال التّحليل، وإعادة صياغة المفردات والتّراكيب؛ ومِنْ خلال التّعليق على النصّ، وهذا يركّز على مقطوعات غامضة أو مجازيّة يتعذّر فَهْمُهَا؛ أيْ: توضيح مرامي العمل الفنّي ككلّ.[1]

          أدرك النّقد العربيّ منْذ وقتٍ مبكِّرٍ _ومِنْ قبْل أنْ يصبح ذلك قضيّة يتناقلها اليوم نقّاد الحداثة وما بعد الحداثة– أنَّ النصّ الأدبيّ غنيّ بالدّلالات، وأنّه مِنْ أجل ذلك قدْ يحتمل وجوهاً متعدّدة مِنَ التّأويل، وقدْ يتّسع فيه مجال التّفسير والقراءة، وإبداء الرّأي.

       جاء في كتاب الوساطة بيْن المتنبّي وخصومه في (نقد علي بن عبد العزيز القاضي الجرجاني، ت. 392ه) لبيْت أبي الطيّب المتنبي (ت. 354ه):

مَا بِقَوْمِي شَرُفْتُ بَلْ شَرُفُوا بِي ******* وَبِنَفْسِي  فَخَرْتُ لَا بِجُدُودِي

       فختم القول بأنّه لا شرف له بآبائه، وهذا هجاء صريح. وهناك مَنْ أعذاراً له فيَزْعَمُ أنّه أراد: مَا شَرُفْتُ فقط بآبائي؛ أيْ لي مفاخر غيْر الأبوّة، وفِيّا مناقب سوى الحَسَب. وباب التّأويل واسع، والمقاصد مُغَيَّبَةٌ. وإنّما يُسْتَشهد بالظّاهر، ويُتَّبع موقع اللّفظ.

          وأورد ابنُ رشيق القيرواني (ت. 456ه) بيتَ امرئ القيس في وصفِ فرسِه:

مكرٍّ مفرٍّ مقبلٍ، مدبر معاً ******* كجُلمود صخرٍ حطَّه السّيلُ من عَلِ

***اكتشف العلماء أنَّ الحصان فعلاً يكّر ويفّر في الوقت نفسه، وكان ذلك مِنْ خلال مراقبتهم لجريّ الحصان؛ إذْ لاحظوا أنّه أثناء جريّ الحصان تكون رجلاه الخلفيّتان تتقدّم في اللّحظة نفسها التّي تتأخّر فيها رجلاه الأماميّتان، وعندما تبدأ رجلاه الأماميّتان في التقدّم تتحوّل حركة رجليه الخلفيّتين إلى التأخّر؛ وهكذا يُقْبِلُ الحصان ويُدْبِرُ، ويَكِّرُ ويَفِّرُ في الوقت نفسه. أمَّا عن قوله (كـجلمود صخر)؛ فالجلمود هو أحد أنواع الصّخور ويُسَمُّونَه الصّخر الأصّم؛ والمقصد هنا أنَّ الفرس عندما يكّر ويفّر ويُقْبِلُ ويُدْبِرُ يكون كـالكتلة الواحدة وتكون حركتُه في اتّجاهٍ واحدٍ***

   تحت ما سمّاه (باب الاتّساع) فذكر أكثر مِنْ تفسير له، ثمّ عقّب على ذلك هذا التّعقيب الذكيّ، فقال: (يقول الشّاعر بيْتاً يتّسع فيه التّأويل، فيأتي كلُّ واحدٍ بمعنى، وإنَّما يقع ذلك لاحتمال اللّفظ، وقوّته، واتّساع المعنى).

          وزاد عبد القادر البغدادي (ت. 1093ه؛  أديب ولغويّ ونحويّ محقّق _وُلِدَ ببغداد وتوفيّ في مصر، ويمثّل البغدادي تيّاراً مِنَ التيّارات النّثريّة في العصر العثمانيّ) في خزانة الأدب على ما أَثْبَتَهُ ابن رشيق مِنْ توجيهات لبيْت امرئ القيس، ثمَّ علَّق على ذلك قائلاً: (هذا ولمْ تخطر هذه المعاني بخاطر الشّاعر في وقت العمل. وإنّما الكلام إذا كان قوّيّاً مِنْ مثْل هذا الفَحْل احْتَمَلَ لقوّته وجوهاً مِنَ التّأويل بحسْب ما تَحْتَمِلُ ألفاظُه، وعلى مقدار قوى المتكلّمين فيه).

التّأويل وقصْد المتكلِّم:

          يحترم النّقدُ العربيّ النصّ ودلالاته اللّغويّة، وذلك مُقَدَّمٌ عنْده على ما يُسمّى بـ(مقصديّة المؤلِّف)، وفي هذا الصّدد ردّ الآمدي ت. 631ه –صاحب كتاب الموازنة بيْن الطّائيّين: أبي تمام والبحتريّ– على تهمة وجّهها إليه أنصار أبي تمام، بأنّه لمْ يفهم ما قصدَه شاعرُهم مِنْ كلامِه _بهذه العبارة النّقديّة المهمّة، التّي تضع قاعدة موضوعيّة دقيقة للتّأويل_:

   قال الآمدي): ليْس العملُ على نيّةِ المتكلِّمِ، وإنّما العملُ على ما تُوجِبُه معاني ألفاظِه.

 

  وهي عبارة تُسْتَنْبَطُ منْها –على إيجازها– مجموعةٌ مِنَ الأحكام التّي تتعلّق بتأويل الكلام أو تفسيره، منْها:


1- أنّ النصَّ وحدَه هو المُخَوَّلُ بإعطاء الدّلالة، وفرز المعنى المُرَاد، ومنْه وحدَه تُسْتَنْبَطُ الأحكامُ، وتُسْتَخْرَجُ المفاهيمُ، وبذلك يحتفظُ النصُّ –بما تَمُدُّهُ معاني ألفاظِه– بِهَيْبَتِه ومكانتِه وسلطانِه، ولا يَعْتَدِي عليه مُعْتَدٍ.

2- أنّ فكرة (المعنى في بطن القائل) –كما يقول بعضهم– غيْر صحيحة؛ لأنَّ النّاقد لا يُعَوِّلُ على نيَّات المتكلِّم، وهو غيْر قادر على ذلك أصلاً: لا شرْعاً ولا عقْلاً؛ فالنّيّات لا يعلمها إلا علاَّم السَّرائر، والنّاقد ليْس عرَّافاً ولا قارئ فنجان، وإنّما هو مُتَلَقٍّ يقوم بنشاط عقليّ منطقيّ تُمْلِيه لغة النصّ الذّي أمامه، وطبيعة ألفاظه وعباراته. وهذا عندئذٍ يُلْغِي فكرة (مقصديّة المتكلِّم) ويُحِيلُ على مقصديّة النصّ، ويُعْطِيه السّلطان على نحو ما فعلت البنيويّة بعْد ذلك بقرون.

3- أنّ سلطان القارئ، أو سلطان المتلقّي –خلافاً لما يقوله التفكيكيّون وأصحاب نظريّة التلقّي– مُنْضَبِطٌ بالنصّ المقروء، مَحْكُومٌ بدلالة ألفاظه، ومعاني عباراته، وليْس سلطاناً مطْلقاً، يجعل هذا القارئَ يُؤَوِّلُ النصّ كما يشاء، أو يقرؤه على هواه، حتّى لِيُقَوِّلَه ما لمْ يَقُلْ، أو يُنْطِقَه بما لمْ ينطقْ.

4-  عبارة الآمدي النّقديّة البليغة لا تُنْكِرُ ما يمكن أنْ يحمله النصّ مِنْ دلالات متعدِّدة، أو توجيهات مختلفة، ولكنّها _مرّة أخرى_ تجعل ذلك نابعاً مِنَ النصّ ذاته بما فيه مِنْ إمكانات، وبما يُفْرِزُه مِنَ المعاني والأفكار، وليْس بما يُحْمَلُ عليه حَمْلاً، أو يُكْرَهُ عليه إِكْرَاهاً، استجابةً لسلطانٍ زُعِمَ أنَّ القارئَ وحدَه هو الذّي يَمْتَلِكُه. إنَّ الصّيْد في جوْف النصّ، والقارئ هو مَنْ يَسْتَخْرِجُه، ولنْ يستطيع أنْ يَسْتَخْرِجَه –دائماً– أيُّ قارئٍ، بلْ القارئُ الدَّرِبُ المُتَمَرِّسُ، وبذلك نحترم طرفيْن مِنْ أطراف معادلة العمليّة الأدبيّة، هما النصّ والقارئ، ولا نستهين بأحدهما أو نُسْقِطَه انحيازاً للطّرف الآخر.

5- إنّ الاحتكام إلى النصّ لا يعني تجريده – كما يفعل البنيويّون– مِنْ كلِّ خارجٍ: كالمجتمع، أو التّاريخ، أو السّيرة، أو ما شاكل ذلك؛ لأنَّ هذا الخارج قدْ يكون في أحيان غيْر قليلة جزءاً مِنَ الدّاخل، وقدْ تكون (معاني ألفاظِه) التيّ يُحِيلُ عليها الآمدي محكومةً بهذا الخارج، بلْ آخذةً أبعادَها الحقيقيّة مِنْ خلاله، فقدْ يكون –وما أكثر الأمثلة على ذلك– هذا الخارجُ هو الذّي شكَّلها على هذا النّحو أو ذاك، فأصبح جزءاً مِنْ دلالتها.

          وهاهو الآمدي نفسُه الذّي يُحِيلُ على سلطان النصّ، وما تُوجِبُه معاني ألفاظِه يُحِيلُ في شعر أبي تمام نفسِه إلى هذا الخارج، ويُوضِحُ أنّ التقاط معاني الألفاظ قدْ لا يتّضح إلّا بمعرفة هذا الخارج.[2]

      



[1]. محمّد يوب، نظريّة التلقي والتّأويل في النّقد الأدبيّ عنْد العرب، القدس العربيّ، 20 ديسمبر 2015، تاريخ الزّيارة: 06 أبريل 2020، www.alquds.co.uk

[2]. المقال عن وليد قصاب، مِنْ قواعد التّأويل في النّقد العربيّ، شبكة الألوكة، 27/01/2007م_08/01/1428هـ، تاريخ الزّيارة: 06 أبريل 2020م، www.alukah.net