النقد الأدبي في العصر العباسي

تمهيد:

كان العصر العباسي،عصر قوة و ازدهارو تحضر،و كان أيضا عصر ترف و بذخ،و تحول فيه الشعر و الأدب إلى صناعة،بعد أن كان ينجم عن طبع و سليقة.و تعاظمت الثقافة و اتسعت،فشملت فروع المعرفة كلها،بالإضافة إلى ما ورد إليها من ثقافات أجنبية:فارسية،هندية و يونانية.و تحولت هذه المعارف إلى علوم:علوم اللغة و الأدب و النحو و الصرف...

و تحول الذوق الأدبي إلى ذوق مثقف ثقافة علمية واسعة،و تأثر النقد الأدبي بهذا التطور.

جمع العلماء العرب أشعار الجاهليين و الإسلاميين،فكوّنوا مادة أدبية غزيرة،كما جمعوا مادة اللغة،و اطلعوا على أقوال النقاد السابقين،كما نُقِلت إليهم أقوال الفرس و الهندوس و اليونان في معنى البلاغة  و شروطها،مما أفسح لهم مجال النقد،فارتقى الذوق و تبلور النقد و أصبح أكثر نضجا مما كان عليه قبلا.حيث سار النقد الأدبي في هذا العصر على نمطين:

1ـ الأول:هو مجرد امتداد للنقد الجاهلي و الإسلامي،متماشيا مع ما فرضته البيئة عليه من تحول،فكان علماء اللغة و الأدب من النقاد، أمثال:"الخليل بن أحمد الفراهيدي"،"الكسائي" و "الأصمعي"،...كانوا يستعرضون أشعار الجاهليين و الإسلاميين،و ينتقدون شعرهم و يُبدون رأيهم فيه،فيقولون:{إن شعر النابغة قوي الصناعة شديد الأسر،و شعر امرئ القيس غزير بالمعاني التي لم يسبق إليها،و شعر جرير أسهل و أرق،و شعر الفرزدق أقسى و أصلب،إلى غير ذلك.}

كان هؤلاء العلماء يتنازعون في أفضلية الشعراء،فكان "المفضل الضبي" يقدم الفرزدق على جرير،"و أبو عمرو بن العلاء" يقدم الأخطل،ثم جرير ثم الفرزدق.كان علماء الكوفة مثلا:يقدمون الأعشى على من في طبقته،و علماء البصرة يقدمون امرأ القيس،و أهل الحجاز يقدمون النابغة و زهيرا.و هذا راجع لأسباب منها:أنَّ بعض العلماء كان يحب الغريب من الألفاظ،فيقدم من الشعراء من يستعمل الغريب،و منهم من يحب الغزل،فيقدم أكثرهم غزلا،و منهم من يحب النحو فيقدم الفرزدق؛لإكثاره من التقديم و التأخير و نحو ذلك.

كما وازنوا بين الشعراء،فقال "أبو عمرو بن العلاء" في "أوس بن حجر":{أنه كان فحل مضر حتى نشأ النابغة و زهير فأخملاه.}و قال بأن {"عدي بن زيد" في الشعراء بمنزلة سهيل في النجوم،يعارضا و لا يجري معها.}.و استعرضوا شعر الشعراء و أبانوا عن موضع نبوغهم و ضعفهم،فقالوا:"طفيل الغنوي:أعلم العرب بالخيل و أوصفهم لها،و امرؤ القيس لَيُحسِن وصف المطر،و عنترة يحسن ذكر الحروب،و أُمية بن أبي الصِّلت يحسن ذكر الآخرة،و عمر بن أبي ربيعة يحسن ذكر الشباب.و شبهوا جريرا بالأعشى،الفرزدق بزهير و الأخطل بالنابغة.

استعرضوا الشعراء الذين تواردوا في شعرهم على معنى واحد،ففضلوا قولاً على قول،إذ فضلوا في الصبر على النوائب قول "دريد بن الصمة":

يغار علينا واترين فيُشْتَفَى                          بنا إن أصبنا أو نغير على وتر

بذاك قسمنا الدهر شطرين قسمة                 فما ينقضي إلاَّ و نحن  على شطر

 

و قالوا:أجود بيت،قول جرير:

ألستم  خير من ركب المطايا                      و أندى العالمين بُطون راح

يشبه هذا النوع من النقد إلى حد بعيد،ماكان موجودا في العصر الأموي،إلاّ أنه أعمق منه و أوسع،لأن المادة الأدبية عندهم أغزر و أوفر،كما أنهم تفرغوا له فأصبح صناعة عندهم،إذ كان نقدهم معللا و ليس مجرد أحكام.فضل "الخلف الأحمر" قصيدة "مروان بن حفصة" التي مطلعها:

طرقتك زائرة فحييِّ جمالها                    بيضاء تُخلط بالجمال دلالها.              

على قصيدة "الأعشى" التي مطلعا:

رحلت سمية غدوة أجمالها                   فأصاب حبة قلبه و طحالها

فقال الخلف الأحمر معلقا على هذه القصيدة:{و الطحال ما دخل في شيء قط إلاّ أفسده،و أما قصيدة مروان سليمة كلها،و هكذا من الأحكام المبنية على التعليل.

2 ـ ثانيا: و هو النقد الجديد المحدث،الذي لم ُسبق إليه؛يتميز بالعلمية في النقد،هو نمط التأليف و وضع الكتب،التي تتعرض للنقد و ما يتصل به،فكانت البصرة سباقة لذلك،بفضل الحركة العلمية التي زخرت بها هذه الأخيرة،إذْ ظهر فيها أول حركة للإعتزال؛و كان المعتزلة أول من وضع قواعد البلاغة،لحاجتهم إليها في الدعوة و إقامة الحجج،حيث وضع "بِشرُ بن المعتمر" "الصحيفة الخالدة" في البلاغة،ثم تبعه "الجاحظ".بهذا انقسم النقد في العصر العباسي إلى قسمين: "قسم الأحرار و قسم المحافظين"،فكان "بشار بن برد"،"مسلم بن الوليد" و .... من المجددين الذين حملوا على عاتقهم مهمة تجديد المعاني و الأسلوب.

هذا الإنقسام في النقد بين المحافظة و التجديد،أدّى إلى انقسام النقاد بين : مؤيد للجديد و معارض له،و ظهرت طبقة أخرى حكمت على الأعمال الأدبية من مقياس الفن و الصناعة،فكانت تقيس الشعر بهذا المقياس،فما أظهر المقياس ضعفه ضَعُفَ و لو كان قديا،و ما أظهر المقياس جودته حُكِمَ بجودته و لو كان حديثا.

كان للحزبين أثر على الأدب "الشعر"،إذ نجم عنهما شعراء تحرروا من قيود القصيدة القديمة و خرجوا عن تقاليدها،مثل ما نجده في قصائد "أبي نواس"،أما المحافظون فقد تخوفوا من الخروج عن قواعد القصيد العربية القديمة،فينالوا بذلك السَّخَطَ و النقد.

استند النقد في العصر الجاهلي و الأموي على الذوق وحده،فلما جاء العصر العباسي تحول النقد إلى علم له قواعد و أصول.و كان "ابن سلام الجمحي" من أوائل النقاد في العصر العباسي من دعى إلى التقعيد و التأصيل،من خلال كتابه "طبقات الشعراء" الذي قال:{قال قائل لخلف:إذا سمعت أنا الشعر و استحسنته،فما أبالي ما قلت في أنت و أصحابك.قال له الخلف:إذا أخذت أنت درهما فاستحسنته،فقال لك الصّراف،إنه رديء،هل ينفعك استحسانك له؟}.و قال أيضا:"للشعر صناعة و ثقافة يعرفها أهل العلم،كسائر أصناف العلم و الصناعات،منها ما تثقفه اليد،و منها ما يثقفه اللسان.و من ذلك اللؤلؤ و الياقوت:لا يعرفان بصفة أو وزن،دون معاينته ممن يبصره...}،محاولا ترتيب الشعراء في طبقات،مركزا على الذوق المثقف الواعي و العالم،و ليس على الذوق العادي،في الحكم على الأعمال الأدبية.

 

جاء بعده ابن قتيبة "الشعر و الشعراء"،"أدب الكاتب"،الذي تميز  ب:

ـ عدم التفريق في الوزن بين القديم و المحدث    

 ـ فرّق بين الروح العلمية و الذوق الأدبي،كما نوه إلى أن اشتغال الأديب بالمصطلحات الفلسفية،لا يفيد في الأدب،بل يضعف ذوقه.

و بعده "ابن المعتز" كتاب "البديع" الذي نبّهَ إلى وجود البديع في الشعر الجاهلي و الإسلامي.ثم ظهر العديد من العلماء مثل :"قدامة بن جعفر" كتاب "نقد الشعر"،"جواهر الألفاظ"،"صناعة الكتابة"،"السكاكي" "مفتاح العلوم"،الصولي:"أدب الكتاب"،"شرح ديوان أبي تمام"،"الآمدي" "الموازنة"،"أبو الفرج الأصفهاني" "الأغاني"،"أبو الهلال العسكري" "الصناعتين"،"عبد القاهر الجرجاني" "دلائل الإعجاز" "أسرار البلاغة"،"ابن رشيق القيرواني" "العمدة"...

خاض هؤلاء العلماء في العديد من القضايا النقدية ك : اللفظ و المعنى،الوضوح و الغموض،الفحولة،الجديد و القديم،السرقات،...

و هذا ما سنتطرق له في المحاضرات القادمة بإذن الله