النقد في العصر الأموي

اشتد العصف السياسي في العصر الأموي،اشتدادا قويا،بسبب الصراع على الخلافة،بين الأمويين و الهاشميين و الزبيريين،و ما انشق عنهم من أحزاب سياسية و فرق دينية،فكان منها ما يوالي و منها ما يعارض.و سحب الجدال السياسي و الديني أذياله،على منابر و ساحات هؤلاء جميعا،ثم استتبعه الجدل الثقافي و أصبحت له ساحاته و منابره الخاصة.

و قد لاحت سماء الأدب العربي‘معالم لثلاث مدارس أدبية:واحدة في الحجاز و الثانية في العراق و الثالثة في الشام

1 مدرسة الحجاز:

الحجاز خزانة للأموال التي جمعها الأمراء و القادة الجيوش الإسلامية،إذ اكتست أهمية كبيرة و ازدادت أهمية في العصر الأموي.فشهدت الثراء و الإستقرار،و قد نتج عن هذا الترف،ظهور الغناء مع مجيء الجواري من مختلف النواحي،فتفشى الفساد،و قد كانت الحجاز من ناحية أخرى،مركزا دينيا،يدرس فيه القرآن و يشرح فيه الحديث،فصار العديد من الرجال المسلمين يفدون إليه من مختلف الأقطار الإسلامية،ليأخذوا عن رجاله علمهم بالكتاب و السنة،فكان الحجاز مركزا دينيا و بيئة للهو الترف معا.

و قد ازداد تدفق الأموال على الحجاز من الشام "مركز الخلافة".دفع هذا الجو المترف الناس،نحو الأخذ بمتع الحياة و اللهو و الغناء و الموسيقى،و قد عكس الشعراء ذلك في شعرهم،و مالو إلى الغزل الذي صور الواقع المعاش،و طبع  النقد بنفس السمة،إذ انكب النقاد على دراسة  هذا اللون من الشعر،و من أبرز الأسماء الناقدة شخصيات هامتان: "ابن أبي عتيق"و "السيدة سكينة بنت الحسين ابن أبي طالب".حيث كان يلتقي بها الشعراء،فتناقشهم في قصائدهم،و مما ورد عنها،حكمها على بيت جرير:

طرقت صائدة القلوب و ليس ذا                     حين الزيارة فارجعي بسلام

فقالت:"أفلا أخذت بيدها و رحبت بها،و قلت ادخلي بسلام؟أنت رجل عفيف"،إذ فرقت بين الكلام عن الأحاسيس العاطفية و الأخلاق،فالشاعر يتكلم عن العواطف لا عن الأخلاق،و حين نستقبل عزيزا ليس كما نستقبل شخصا عاديا.

ورد عنها كذلك لـ "نُصَيْب"

أهيم بدعد ما حييت فإن أمت                       فوا حزنا من ذا يهيم بها بعدي

فعابت عليه السيدة سكينة،صرف نظره إلى من يعيش مع "دعد" و رأت من الصواب أن يقول:

أهيم بدعد ما حييت فإن أمت                     فلا صلحت دعد لذي خُلَّة بعدي

أما "ابن أبي العتيق" فقد تميز بنقد شعر "عمر بن أبي ربيعة"،إذ قال هذا الأخير منشدا في غرض الغزل:

بينما ينعتنني أبصرنني                         دون قيد الميل يعدو بي الأغر

قالت الكبرى أتعرفن الفتى؟                قالت الوسطى:نعم هذا عمر

قالت الصغرى و قد تيّمتها                 قد عرفناه و هل يخفى القمر؟

فقال ابن أبي عتيق معلقا:أنت لم تنسب بها،و إنما نسبت بنفسك،أي تغزل بنفسه.

     سمع عمر ابن أبي ربيعة "كُثِيراً " يقول:

  ألا ليـتنـا يـا عـزَّ كـنّا لذي غِنًى

بعيرَينِ نرْعى في الخلاءِ ونَعْزُبُ

نكونُ بعيرَي ذي غِنًى فيُضيعُنا

فـلا هـو يـرعـانـا ولا نحـنُ نُطلبُ

كـلانـا بـه عُـرٌّ فـمـن يـرَنـا يقُلْ

على حُسنها جرْباءُ تُعْدي وأجرَبُ

إذا ما وردْنا منهلاً صاحَ أهـلُـه

عـلينا فـما ننفكُّ نُـرْمـى ونُضـربُ

وددْتُ وبــيـتِ الله أنّـكِ بــكْــرَةٌ

هـجـانٌ وأنّـي مُـصـعـبٌ ثمَّ نَهْرب

فقال عمر:تمنيت لها و لنفسك الرِّق و الجرب و الرمي و الطرد و المسخ،فأي مكروه لم تتمنه لك و لها؟لقد أصابها منك قول القائل:"معاداة عاقل خير من مودة أحمق".

هذا و قد حدد النقاد الحجازيون "الغلو و المبالغة" مقياسا،في رسم العاطفة.و من ثمة صار إذا ما عبّر الشاعر عن عاطفته بغلو،أو بصورة خارجة عن المألوف،كانت غريبة مضحكة،تشبه النوادر.قال عمر بن أبي ربيعة شعرا فيه فلو:

و من كان محزونا بإهراق عبرة                  و هي غربها فليأتنا نبكه غدا

نُعنه على الأثكال إن كان ثاكلا                  و إن كان محزونا و إن كان مقصدا

فمضى ابن أبي عتيق إلى عمر،و قال له:"جئناك لموعدك،قال : و أي موعد بيننا؟ قال: قولك:"فليأتنا نبكه غدا".و قد جئناك والله لا نبرح أو تبكي،إن كنت صادقا، أو ننصرف على أنك غير صادق،ثم مضى و تركه.

    إنّ مثل هذه الصورة زائدة عن اللزوم،في التعبير عن الأحاسيس العاطفية،و المواقف الإنسانية.بالتالي فهي صورة سافرة غير مقبولة؛ لأنها غير صادقة .

   2 ـ مدرسة العراق: 

اختلف الشعر في بيئة العراق عما كان عليه في الحجاز و الشام.فالشعر في العراق يشبه إلى حد كبير الشعر الجاهلي،في مضمونه و أسلوبه،و يعود ذلك إلى عامل العصبية القبلية،التي ظهرت مجددا،بعد أن تلاشت في صدر الإسلام،حيث نبذها الإسلام.و تمثلت أغلب موضوعات الشعر في العراق:في الفخر و الإعتزاز و هجاء الخصوم،بالهجاء المر المقذع.أماّ غرض الغزل و غيره من الأغراض،فكانت ليست ذات أهمية و قليلة الرواج.فانحصر الشعر في "النقائض"،التي حمل لواءها الثالوث الخطير:"الفرزدق،جرير و الأخطل".الذين جعلوا من العراق أشهر مكان للتنافس في هذا اللون من الشعر.مما ساعد في انتشار "النقائض" وُلُوعَ الناس به في أسواق الشعر.

كان لكل شاعر حلقة ينشد فيها شعره،و يحمس أنصاره في جو مملوء بالهرج و النقاش،حتى قيل أن والي البصرة، ضج  بما أحدثه هؤلاء الشعراء، من صخب و اضطراب في أوساط الناس، فأمر بهدم منازلهم.

و قيل أن "الأخطل" تحالف مع "الفرزدق" ضد "جرير"،لكن جرير أفحمهما شعرا.و قيل أن أكثر من أربعين شاعرا،تحالفوا ضده فأسكتهم،لقدراته و مهاراته في هذا الفن،حتى اعتبر الشاعر الذي لا يسير على طريقة هؤلاء في المدح و الهجاء،شاعرا متخلفا و ضعيفا.حيث قال "ذو الرمة" "للفرزدق":{مالي لا ألحق بكم معشر الفحول؟فقال له:لتجافيك في المدح و الهجاء و اقتصارك على الرسوم و الديار}.أي أنه ينظم على منوال القدماء.فالنقد في العراق تلاءم مع طبيعة البيئة العراقية،و ما كان فيها من شعر،حيث اتجه النقاد إلى الموازنة بين الشعراء و أيُّ الثلاثة أشعر؟و سموا هذا قضاء،و الذي يحكم قاضيا،و سموا "الحكم" و "الحاكم:"حكومة".قال جرير في الأخطل لماّ فضل الفرزدق عليه:

فدعوا الحكومة لستموا من أهلها                    إنّ الحكومة في بني شيبان

لم يكن هذا النوع من النقد الوحيد في العراق،لأن هناك بعض الشعراء من قال شعرا خارج النقائض.لذلك عُنِيَ النقاد بمميزات الشاعر.و ما تفرد به عن غيره،و البحث عن مواطن قوته و ضعفه و موازنته بغيره و إصدار الحكم عليه.حكم الفرزدق على النابغةالجعدي بأنه صاحب خلقان.فالبيت عنده يساوي آلاف الدراهم و ليست لا يساوي درهما.و هو حكمه على ذي الرمة بجودة شعره لولا وقوفه عند البكاءو الدمن.

و حكم على الأخطل بأنه يجيد  مدح الملوك.و موازنة الأخطل بين جرير و الفرزدق بأن جريرا يغرف من بحر،و الفرزدق ينحت من صخر.إلى جانب نقد الموازنة في شعر النقائض.و النقد الذي عني بإبراز ما نفرّد به بعض الشعراء عن غيرهم.فهناك نقد يُعنى بالمعاني الجزئية في شعر الشاعر دون موازنته بغيره.فقد نقد "الحجاج الفرزدق" حين مدحه قائلا:

من يأمن الحجاج و الطير تتقي                  عقوبته إلاّ ضعيف العزائم

فقال الحجاج:"الطير تتقي كل شيء،حتى الثوب و الصبي.و فضل عليه قول جرير في نفس المعنى:

من يأمن الحجاج أما عقابه                      فمر و أما عهده فوثيق

3ـ مدرسة الشام:

إذا كان أكبر مظهر للأدب في الحجاز هو الغزل،و أكبر مظهر للأدب في العراق الفخر و الهجاء،فإن أكبر مظهر للأدب في الشام هو المديح،و لذلك اختلفت الحركة النقدية في الشام على ما كانت عليه في الحجاز و العراق،وفقد عاشت الحركة النقدية هناك في بلاط الخلفاء الأمويين و قصورهم في مختلف الأقاليم و الأمصار،و سبب ذلك أن دمشق كانت عاصمة الخلافة الأموية،يفد الشعراء إلى خلفائها من كل حدب و صوب،و كان بنوا أمية عربا،أقحاحا فصحاء،يتذوقون الشعر و يعجبون به و يطربون لسماعه،و يكافئون الشعراء عليه،و كانت قصورهم شبه منتديات للشعر و مراكز للمناقشات،في مختلف القضايا الأدبية،و ما يناسب القصور هو المديح،لذلك لُوِّن الشعر بهذا اللون،و لُوِّن النقد بلونه أيضا.

شجع الخلفاء الشعراءَ على مدحهم،و الرد على خصومهم "شيعة"و "زبيريين"،و منحوهم مقابل ذلك جوائز مالية معتبرة.و من أبرز هؤلاء الشعراء "كُثير عزة"و "الأخطل".و قد ارتبط النقد بطبيعة  الشعر.و من أشهر نماذج شعر المديح ذاك الذي كان يُعرض على "عبد الملك بن مروان"،إذ كان يملك ذوقا رفيعا مكّنه من الفهم العميق لمحتوى الشعر و صياغة و توجيه الشعراء و إرشادهم.

  تميزت حركة النقد في الشام بميزتين:"النقد الرسمي"و "النقد الفني".أما النقد الرسمي فهو ذلك الذي يمثل وجه الخلاف في الرؤيا بين الشاعر و بين الخليفة الممدوح في رسم صورته الشخصية،لأن رجل السلطة يرى نفسه شخصية متميزة غير عادية،و من ثم كان على الشاعر أن يأخذ ذلك في الحسبان،و من ذلك ما جرى بين عبد الملك بن مروان و ابن قيس الرقيات،حين مدحه بقصيدة جاء فيها:

إنَّ الأغرّ الذي أبوه أبو                   العاص عليه الوقار و الحُجُبُ

يعتدل التاج فوق مفرقه                 على جبين كأنه الذهب

فقال الخليفة:"يا ابن قيس،تمدحني بالتاج كأني من العجم!،و تمدح مصعبا كأنه شهب من الله .إشارة إلى قول الشاعر:

  إنما مصعب شهاب من الله               تجلت عن وجهه الظلماء

و قال جرير في يزيد بن عبد الملك:

هذا ابن عمي في دمشق خليفة                 لو شئت ساقهم إلىّ قطينا

فعلق يزيد على معنى البيت قائلا:"يقول لي ابن عمي،ثم يقول لوشئت ساقهم إليَّ.أما لو قال:لو شاء ساقهم لأصاب،فقد جعلني شرطيا له.

لقد لفت عبد الملك بن مروان الشعر إلى رسم الصورة الشعرية،بما يناسب مقامه،و إبراز الفضائل الخلقية و الدينية التي تشير إلى إعجاب الرعية  ،و الدالة على التقوى و العدل و الفضيلة.و كان تقدير عبد الملك للمقام و إحساسه بجودة المعنى و جمال الصورة إحساسا دقيقا،ينم عن قوة و عمق تذوقه للشعر،فقد أنشده راعي الإبل مرة:

أخليفة الرحمان إنّا معشر                    حنفاء نسجد بكرة و أصيلا

عرب نرى الله في أموالنا                   حق الزكاة منزّلا تنزيلا

فقال له:ليس هذا بشعر،إنما هو شرح إسلام و قراءة آية،و يعني بذلك أنَّ مثل هذا الشعر قيِّم في مضمونه،جاف فقير من الناحية الفنية،و بالتالي ليس بالشعر الجيد الذي ينبغي أن يكون كذلك في المعنى و المبنى.