أضحى البحث في الخطاب الأدبي وصلته بالنقد يستحوذ على اهتمامات دارسي اللغة والأدب منذ منتصف القرن العشرين، بفضل ما قدمته الحقول المعرفية الجديدة كاللسانيات والأسلوبية والسيميائية من مصطلحات وأدوات إجرائية، أسهمت في مقاربة الأثر الأدبي بعيداً عن المقولات النقدية التي كانت مستعارة من كل الحقول إلا حقل الأدب.
ولذلك ألفينا اليوم تراجعاً بيناً عن القيم والخصائص الجمالية التي كان يطلقها النقد العربي الكلاسيكي على الخطاب الأدبي من منظور انطباعي سطحي، منذ عرفت مناهج الدراسات الغربية الحديثة والمعاصرة الانتشار في العالم العربي عن طريق الترجمات. وللوقوف على تطور اتجاهات الخطاب من منظور المناهج النقدية الحديثة، لا بد أن نربط راهن هذا النقد بالخطاب النقدي الكلاسيكي الذي لم يلغ صلته بالبلاغة العربية القديمة، وما آل إليه بعد تراكم المعارف النقدية والعلمية والثقافية التي تربطه بها صلات التأثير والتأثّر، مهدت لظهور خطاب نقدي جديد.
وعلى الرغم من النتائج التي حققتها هذه الدراسات، والمناهج، في تفسير النصوص الأدبية، وتحليلها في ضوء سياقاتها المختلفة: الاجتماعية، التاريخية والدينية، فإنها لا تخرج عادة على التفسير التعليلي، ومحاولة البحث عن الأصول التي انبثقت عنها النصوص الإبداعية، دون مقاربة النص ذاته، ولذلك عجزت عن تحليل بنيات الأثر الأدبي ودلالاته العميقة، واكتفت في أغلب الأحيان بوصف المظهر النصي السطحي، وملابساته التاريخية والسياسية.
إن تطور الخطاب النقدي في أوربا في الخمسينيات من القرن العشرين بفضل المنهج البنيوي الذي اعتمد على مقاربات ( كلود ليفي ستروس) في تحليل النصوص، انطلاقا من وجود أبنية عقلية لا شعورية عامة، تشترك فيها كل الثقافات الإنسانية، على الرغم مما بينها من اختلاف وتباين، كان بداية في البحث عن تحليل النصوص الأدبية. وقد تأثرت عدة حقول معرفية بهذا المنهج العلمي، الذي أحدث ثورة في مناهج تحليل الخطاب الأدبي وغير الأدبي. وكان من شأن هذه النظرة النقدية الحداثية، تحويل مادة الأدب إلى حقل مستقل، لـه عناصر واقعه الذاتية؛ كاللغة والعلامة والوحدات الصغرى والكبرى، وبرصد هذه العناصر وتفكيكها، وتحديد البنيات التي تؤلف النص وتعيين السنن التي تقوم عليها في علاقاتها وتنظيمها، نكون قد وقفنا على أسباب تراجع الخطاب النقدي الكلاسيكي، لأنه لا يمتلك آليات، وأدوات إجرائية تمكنه من إعادة بناء النص، وتحديد مكوناته عبر تفكيكه. كما تتراجع النزعة التفسيرية القائمة على مبدأ المحاور والموضوعات التيمية، ذات الطبيعة التلقينية Didactique.
وهكذا ألغى الخطاب النقدي الحديث من مجال اشتغاله كل تشريع مهما كانت طبيعته، ولم يبق إلا على التشريع الذي يقدر عليه النص بوصفه صناعة كلام، ولكن أيضا بوصفه إنتاجا لخطاب هو خطابه.
كما عرف مطلع القرن العشرين ثورة على المناهج التي ظهرت في الفترات السابقة، وكان من أهمها تلك التي ألحت على دراسة الأثر الأدبي من الداخل، وركزت على النص أولا، وسبب ذلك هو أن المناهج التي تأسس عليها الخطاب النقدي الكلاسيكي، غدت غير مجدية، لا تجيب عن الأسئلة الكثيرة التي يطرحها النقاد، فكان لا بد من إعادة النظر فيها في ضوء الاكتشافات وتأثير العلوم الحديثة، وخاصة علم اللغة العام أو كما يطلق عليه اللسانيات La Linguistigu  .
وإذا كان النص أثرا للغة وشكلا من أشكالها المرتبط ببعض استخدامات الكلام، فكيف يتشكل هذا النص لغة: أي صيغة نشاطه، وتنظيمه الداخلي/الخارجي، بنيته الخاصة، وفعاليته في علاقاته المتبادلة؟
يستجيب هذا البحث للاهتمامات المتزايدة بتحليل الخطاب الأدبي عموما والخطاب السردي بصورة خاصة. وعلى الرغم من أن الدراسات الكثيرة التي ظهرت في العقدين الأخيرين من القرن الماضي قد أعلنت الأخذ بآليات القراءة الغربية لتحليل الخطاب الأدبي، بمناهجها وعلاماتها المستجدة، إلا أن الإحاطة العميقة بالمناهج وبما فيها من أنساق لسانية وأخرى ثقافية واجتماعية، غالبا ما قاد إلى بعثرة الجهد المبذول، إذ لا تكفي كثرة الشواهد والإحالات على رولان بارت وغريماس ودي سوسير وباختين وبروب أو على الشكلانية الروسية والنقاد الجدد أو على البنيوية الغربية وما بعدها للإتيان بقراءة عميقة للنصوص الأدبية. فالذي لابد منه كمرحلة أولى هو توطين الذات القارئة داخل الجهاز المعرفي وآلياته، لتأتي القراءة متناغمة مع خصوصية النص العربي.
ويأتي هذا البحث مساهمة متواضعة في التعريف بأبرز المناهج الحديثة في تحليل الخطاب الأدبي، فهو بالإضافة إلى تتبعه طريقة تفكير الآخر ابتداء من الثورة المنهجية الحديثة التي دشنها الشكلانيون الروس، ودو سوسير، مرورا بالبنيوية والأسلوبية وانتهاء بالسيميائية التي تعد بآفاق جديدة في البحث والاستكشاف، مما يتطلب البحث الدؤوب مستقبلا في هذا المجال الخصب، يقدم حصيلة ما توصل إليه الخطاب النقدي الغربي، كما أنه يعرض عينة يتجلى من خلالها تكريس هذه المعارف من قبل نقاد عرب معاصرين ينتمون إلى جيل ربط صلته بهذه المعرفة النقدية، ونزعم أنه وصل إلى إثارة الأسئلة، ومحاورة الذات والآخر معا.
وربما ساعد الإطار الذي عرضت فيه هذه المادة على فهم تطور الحركة النقدية في الغرب، ليتسنى جني الثمرة التي توسمتها حين أقدمت على تحمل عبء هذه الدراسة ومسؤوليتها، وأرجو أن يجد فيها القارئ مبررات نشرها ومسوغات كتابتها.