إنّ العمل وجد بوجود الإنسان على ظهر البسيطة، ولا أدّل على ذلك من شواهد الحضارات القديمة كالأهرامات في الحضارة المصرية، وحدائق بابل المعلّقة في الحضارة البابلية ... غير أنّ العمل في هذه الفترة كان ينظر إليه نظرة مادية، وتحكم علاقة العبودية إذ كان العامل عبدا يخضع لسيده النبيل خضوعا تاما لا يتمّتع بأيّ حق. واستمرت الأمور كذلك إلى مجيء المسيحية التي أعطت قيمة للعمل والعامل، ولعبت دورا هامّا في القضاء على العبودية.

وبعدها جاءت الثورة الفرنسية سنة 1789 بمبادئ الحرية والمساواة والعدالة، لتسود الحرية في مجال علاقات العمل؛ إذ أصبح الشخص حرا في العمل لحساب من يريد،  وبقيّام الثورة الصناعية حلّت الآلة محل اليد البشرية، ممّا أدى إلى قلّة عروض العمل، وهو ما دفع العمّال إلى قبول أي عمل ولو في ظروف غير لائقة، تحت ضغط الحاجة الاقتصادية والاجتماعية، ممّا أدى إلى لاتوازن في علاقات العمل إذ أصبح العامل طرفا ضعيفا لايمكنه التفاوض بشأن شروط العمل في مواجهة ربّ العمل الطرف القوّي الذي يملك وسائل الإنتاج، ممّا أثبت بلا جدل فشل مبدأ سلطان الإرادة والحرية التعاقدية في تنظيم مثل هذه العلاقات.

هذا ما جعل العمّال يناضلون في تجمعات سرية وعلانية، وحتّى باللّجوء إلى العنف والأعمال التخريبية من أجل تغيير الأوضاع ويطالبون بضرورة تدخل الدولة من أجل تنظيم علاقات العمل، وإعادة التوازن العقدي إلى عقد العمل، بالإضافة إلى الجهود الفقهية الداعية إلى ذلك، وبالفعل وفي منتصف القرن التاسع عشر تدخلت الدول الصناعية الكبرى لسن تشريعات عمّالية لحماية العامل باعتباره الطرف الضعيف، وقد انصب بداية على تنظيم العمل والأجر، وتطوّرت بتطوّر المطالب العمّالية، والتطور التكنولوجي.

والمشرّع الجزائري على غرار باقي المشرعين بعد الاستقلال اهتم بتنظيم علاقات العمل، حيث ساد بداية منذ سنة 1962 إلى غاية سنة 1989 النظام اللاّئحي حيث تدخلت الدولة لتنظيم جميع نواحي علاقات العمل، بما يتلاءم مع النّظام الاشتراكي، ثمّ تبنت الدولة النّظام التعاقدي منذ سنة 1989 إلى يومنا هذا حيث اكتفت بتنظيم المسائل الأساسية فاسحة المجال لأصحاب العلاقة (العمّال وأرباب العمل) لتنظيم علاقاتهم عن طريق التفاوض (مبدأ سلطان الإرادة)، وهو ما يتفق ومبادئ النّظام اللبرالي.

وعلاقات العمل سواء الفردية والجماعية تثير إشكالات عديدة، سواء أثناء تنفيذها أو سريانها، أو حتّى انتهاءها ونظرا لأهمية المنازعات سواء الفردية أو الجماعية، وما قد ينشأ عنها من خلل في استقرار علاقات العمل، فقد أحاطتها تشريعات العمل بعناية تنظيميّة خاصّة، ووضعت لها اجراءات تسوية متميّزة لتسهيل معالجتها وتسوستها في مختلف مراحل التي تمرّ بها.

وخلافات العمل ظاهرة عالمية نجدها في كلّ دول العالم بغضّ النّظر عن النّظام السياسي والاقتصادي والاجتماعي السائد فيها، ولتظيم هذا الجانب أصدرت منظمّة العمل الدولية التوصية الدولية رقم 92 لسنة 1951 المتعلّقة بالتوفيق والتحكيم، وأوجبت إنشاء هيئات للتوفيق الاختياري للمساهمة في حلّ منازعات العمل وتسويتها.

وستنصب دراستنا عليها خلال هذا السداسي، وهذا من خلال محورين:

المحور الأوّل: نزاعات العمل الفردية.

المحور الثاني:نزاعات العمل الجماعية.